أوعز الملك العادل على الواعظ سبط ابن الجوزي مرة أن يحث الناس على الجهاد؛ لما شاهد من فتور في العزائم والقعود عن الحرب، فأشار الواعظ أن يقص النساء شعورهن لتستعمل في الأدوات اللازمة للحرب، ويعمل منها شكال وكرفسات، وصعد منبر جامع دمشق الأعظم وأمر بإحضار الشعور، فحملت على الأعناق، وكانت ثلاثمائة شكال، فلما رآها الناس ضجوا وشهقوا بالبكاء، وتعاهدوا على أن يقصوا من شعور نسائهم مثلها، ثم سافروا للقاء العدو، وما كفوا حتى وقع الصلح بين العادل والأعداء، وبهذا أثبت نساء دمشق في القرن السادس ما انطوت عليه أنفسهن من الوطنية، وأنهم لسن دون نساء بني أمية في القرن الأول يوم أتين مع جيش العرب لفتح دمشق، وكن يقاتلن في صفوف الرجال، ويتولين منهم ما تتولاه نساء أهل المدنيات الحديثة في الحروب من طهي الطعام، وغسل الثياب، وتضميد الجراحات، وتمريض المرضى.
دمشق في عهد المماليك
اشتد الخلاف بين أبناء العادل اشتداده من قبل بين أبناء أخيه صلاح الدين، وأهم ما كان من الأحداث أيام هذا الضعف مجيء الخوارزمية من الشرق يريدون الاستيلاء على الشام، فعاونهم بعض أمراء دمشق واشتد البلاء فيها، وأحرقت عدة أحياء وقصور ومساجد وخانات، ودام حصارها خمسة أشهر، وهلك الخلق موتا وجوعا، وقل الشيء، وأكلوا الميتة، وبيعت الأملاك والأمتعة بالشيء اليسير، وأنتن البلد بالموتى على الطرق. قال المؤرخون: وجرى بدمشق أمور شنيعة بشعة جدا، لم يتم عليها مثلها قط.
بويع الملك الظاهر بيبرس البندقداري ملكا على مصر والشام، بعد أن قتل تورانشاه آخر الأيوبيين سنة 647، ولقب الملك الظاهر، وهو رأس دولة المماليك البحرية، وجاء جماعة هولاكو إلى دمشق بعد تخريبهم بغداد والقضاء على الخلافة العباسية فيها سنة 656، وفي السنة التالية خرب هولاكو حلب، وأوقع بها خمسة أيام حتى لم يبق بها أحد، وأنفذت دمشق مفاتيحها إلى هولاكو لتأمن من شره، ومع هذا خرب سورها، وما نجت من غائلته إلا بانهزام جيش التتر على عين جالوت شر هزيمة، وبعد حين وصل غازان من حفدة هولاكو دمشق، فبذل له أهلها مالا عظيما، وباستيلائه عليها خربت الدور والمساكن بظاهر دمشق، واستبيح ما لم يصبه الحريق من الأماكن، وأسر ألوفا وقتل مئات في التعذيب على المال، ودام التتر أربعة أشهر على ذلك، فخربت بعض المدارس الكبرى ودار السعادة مقر نواب السلطنة وما حولها، وبعد مدة فتح ببغا أروس التتري دمشق، ونهب ضياعها وقطع أشجارها، وجرى على أهلها من عسكره ما لم يجر من عسكر غازان.
كان ملوك المماليك أجناسا، منهم الكفاة وبعضهم دون ما يجب من الكفاءة السياسية، فاتسع المجال في عهد الضعاف للواغلين من الشرق، فعسفوا أهل هذه المدينة، وما لقيت من جنكيز وهولاكو وغازان من المصائب زاد أضعافا بضعف الدولة القائمة، فلما وافاها تيمورلنك أنساها ما لقيت منه ما كان حل بها في القرنين الماضيين من أجداده التتر، فإنه ضرب عليها غرامة عظيمة كان مقدارها ألف ألف دينار، ولما استوفاها دخلها أمراؤه فحل بأهلها البلاء تسعة عشر يوما، هلك من ساكنيها خلال ذلك ألوف من التعذيب والجوع، وسبوا النساء وساقوا الأطفال والرجال، ثم طرحوا النار في المنازل والقصور والجوامع والمدارس، فعم الحريق في يوم عاصف جميع البلد، ولم يبق غير جدران جامعها، وحرق في هذه الفتنة معظم خزائن الكتب التي كانت زينة المدارس، وأكد رجل من باڨاريا اسمه جوهان شيلتبرجه كان جنديا من الأرقاء في جيش تيمور أن ثلاثين ألف إنسان بينهم النساء والأطفال قد اختبئوا في المسجد الجامع، فهلكوا لما سرت إليه النار.
قال ابن تغري بردي: ولقد ترك المصريون دمشق أكلة لتيمور، وكانت يوم ذاك أحسن مدن الدنيا وأعمرها، وكان يرجى بعد تلك الفتنة المشئومة سنة 803 أن تتنفس هذه المدينة الصعداء، بيد أن أمراءها ما كفوا عن مظالمهم، وظلوا يصادرون كل من يعتقدون أن لديه مالا، وانتشر فيها الطاعون سنة 814، فأحصي من مات من سكانها خاصة، فكانوا نحوا من خمسين ألفا، وخلت عدة قرى من السكان وبقيت الزروع قائمة لا تجد من يحصدها، وأشبه هذا الوباء وباء سنة 897، وكان يموت فيه كل يوم ثلاثة آلاف إنسان، والأوبئة والمجاعات والزلازل والقحط ليست أكثر بلاء على هذا البلد من جبابرة الملوك المفسدين من الفاتحين؛ فإن تيمورلنك مثلا أخذ من دمشق جميع صناعها ومفننيها وعلمائها وقرائها، ونهب آثارها النفيسة ثم أحرقها، ولم تأخذه بها وبأهلها شفقة .
وجاء ملوك عظام من المماليك البحرية والبرجية اهتموا لسعادة دمشق، وفي مقدمتهم الظاهر بيبرس والمنصور قلاوون وبيبرس الجاشنكير وقايتباي وبرسباي، وجاء أيضا منهم صغار بعقولهم وبأعمارهم، ومع هذا وفقت دولتهم إلى إخراج بقايا الصليبيين من ساحل دمشق، فخفف عنها الضغط الذي دام نحو مائتي سنة مشفوعا بغارات التتر من الشرق.
دمشق في عهد العثمانية
استولى السلطان سليم الأول العثماني على دمشق سنة 922، بعد وقعة مرج دابق التي قتل فيها قانصوه الغوري آخر ملوك المماليك، وكان سليم جبارا سفاكا للدماء، قتل إخوته وبضعة من وزرائه.
ومن سوء حظ هذه العاصمة أن أرباب الرحمة من ملوك آل عثمان مضوا قبل استيلاء العثمانيين الأتراك على الشام ومصر، ولئن كانت هذه الديار بمعزل عن شئون الدولة السياسية في القسطنطينية دار الملك وشأنها شأن سائر الولايات العثمانية، فإن جهل الأتراك بالإدارة أذهب عن دمشق نضرتها التي كانت لها على عهد نور الدين وصلاح الدين مثلا، وكان يتحكم فيها المتوثبون على الملك وأرباب الإقطاعات، والدولة لا تهتم إلا لجباية أموالها من الرعايا، وقصاراها أن يخطب لها على المنابر، وتضرب السكة باسم ملوكها، وتراعي فيها الظواهر، وتحس في أهلها الخضوع لما تأمر به، ولم ينكر الدمشقيون على الأتراك القادمين سوى استرسال بعض رجالهم في الشهوات، ومجاهرتهم بالفسق وتعاطي الخمور، وضرب حكومتهم رسوما حتى على بيوت الدعارة، واستغربوا من الفاتح ورجال حملته أن يحلقوا لحاهم، وما كانت عيون الناس في بلاد العرب تألف غير اللحى تزين وجوه الرجال.
ناپیژندل شوی مخ