70 -
حدثنا داود بن سليمان أبو القاسم، حدثني أبو حاتم روح بن الفرج، قال: حدثني ابن لذيذ الخطيب عن أبيه قال:
بعثني الرشيد ورجلا من الشيعة ورجلا من قريش، فكان الشيعي يصفر شيبه، وكان القرشي يخضب بالسواد، وكنت أخضب بالحناء؛ فلما دخلنا على ملك الروم أدينا الرسالة، فقال للترجمان: من خطيبهم؟ قلت: أنا. قال ل: هذا سود يتشبب للغواني، وهذا صفر غير زهوة الشيب؛ أرأيت أنت لو خلق الله رأسك ولحيتك أحمر كنت ترضاه؟ قال:
[ص: 113]
فثرد علي واحدة فكسرتني، فالتفت إلى صاحبي فقلت: إن قلنا في هذه [و] لم نجيء بجواب، قلنا في جميع ما جئنا له؛ ثم ثاب إلي فكري.
قال: قلت: نعم علم الإسلام وبراءة من الشرك. قال: قل له: وكيف؟ قلت: يتلقاني اللاقي فيستغني بالنظر إلي بمسألتي عن ديني، يعلم أنه لا يتزين بهذا الزي إلا مسلم. فحول وجهه إلى باب صغير خلف فرشه، فدخله، فلم نره سبعين يوما لعظم الجواب عليه.
ثم بعث إلي بعد فأنس بي وإذا هو من ولد جبلة بن الأيهم، وإذا هو أفصح الناس بالعربية، وأعلمهم بأيام الناس، والشعر؛ فكنت أسامره، فبينا أنا عنده يوما إذ قال لي: أريك شيئا لا تقدر أن تقول: مثله في بلادنا. وأخرج إلي ستر إبريسم منسوج بالذهب، عرضه نيف وثمانون ذراعا، في طول مئة وكسر، ولم يتم، وإذا في آخره قدر إصبعين من غير نسجه، وإذا في أعلاه مكتوب سطران، أحدهما: ((بسم الله الرحمن الرحيم، مما عمل لسام بن نوح)) والسطر الثاني:
ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في الفلك
إلا لنقل السلطان من ملك ... عات شديد القوى إلى ملك
قلت: ما هذا؟ قال: شيء توارثه ملوك الروم، وليس منا أحد يقدر على إتمامه. قلت: فما هذا القليل في آخره لا يشبهه؟ قال: كان أبي رام أن يتمه، فصنع هذا، فلما رآه لا يشاكله تركه. قلت: فإن لأمير المؤمنين طرازا يعمل له في كل قليل مثل هذا عدة. قال: قد جئتني بحؤر العرب، اكتب فليأتني مثل هذا، ولك علي ما تسأل.
[ص: 114]
فخرجت فبادرت بالكتاب إلى أمير المؤمنين بالقصة وبصفة الثوب؛ فلم يلبث أن بعث إلينا بمثله.
فعظم ذلك في صدره؛ فإني معه جالس إذ قال لي: بقيت واحدة لا تقدر أن تقول لي: عندنا مثله. قلت: ما هو؟ قال: رجل لا تقدر على ما يضع خده إلى الأرض. قلت: أرنيه.
قال: فدعوا برجل لم أر كهيئته، فلما أن أقبل قلت في نفسي : لا أحسب ذلك في الدنيا، فكيف عندنا؛ ثم حملت نفسي على أن قلت: نعم. فقال: لقد جئتني بحؤر العرب، إن قدرت على من يضع خدا ذا إلى الأرض فلك علي ما شئت. قال: فانصرفت وبصر بي بعض المكاريين، فقال لخادم لي: ما قصة مولاك؟ قال: قال له ملك الروم كذا وكذا. قال له المكاري: ادخل فقل لمولاك: أنا أضع خده إلى الأرض؛ فدخل إلي الغلام، فأخبرني. قلت: محال، وما علي أن أدعوه. قال: فيدخل إلي رجل مربوع ملزز، سكن قلبي إليه حين رأيته، فقلت له: ويحك، إنه أعظم مما ترى. قال: فدعه يكون نمرود. قلت: فاعمل على أن تغدو على بركة الله.
فغدوت معه وهو معي، حيث رآني الملك فضحك؛ فقلت لبعض من معنا من المكارين: تضع خد ذا إلى الأرض؟ فضرب برجله وقال: جور كل ذا. قلت: لا عليك، قد أحضرته، فابعث فأحضر [صاحبك، فأحضر] صاحبه واجتمعت البطارقة والقسيسين والرهابنة، وحضر الرومي، وأمرت بإدخال المكاري وإن قلبي لشديد الخفقان، ولقد قدرت الرومي، والمكاري فرأيت فيه مثله أربعة؛ وأقبل الرومي يتضاحك به، ثم قال له الرومي: هاهنا ثلاث؛ إما أن تضربني أو أضربك، أو تثبت لي حتى آخذك أثبت لك، أو فتأخذ أينا أخذ صاحبه، فقال له المكاري: هذا أنا فاضرب حيث شئت، ثم مكني.
قال: ثم أقعى؛ فرأيته قد دخل بعضه في بعض. قال: وحسر الرومي عن ذراع كأنها أسطوانة رخام، فرفع يده فضرب المكاري وزوى له رأسه فوقعت
[ص: 115]
الضربة على فرد قرنه، فخر مغشيا عليه، وظننت -والله- أنها نفسه، ورفعوا أصواتهم يكبرون. قال: وغمزت غلامي، فجاء بكوز ماء، فرششته على وجهه، ثم أقبلت أفديه، ففتح عينه، وقال لي: لا عليك أبا عثمان، أنا بكل خير، ما فعل صاحبي؟ قلت: ها هو ذا، فما تريد؟ قال: أريد -والله- آخذ طائلتي. قلت: دعه اليوم إلى غد، أو ترجع إليك نفسك. قال: لا والله، لا أبرح حتى آخذ طائلتي. فقام يمسح وجهه، ويصلي على النبي، ويطلب الرومي، والرومي يتضاحك به ، وعظم في صدورهم سرعة قيامه، وظنوا أنه قد تلف، فقال له: أمكني، فتربع الرومي مستهزئا به. قال: اضرب حيث شئت. فضرب فكي الرومي، كأني -والله- أنظر إليهما يلوحان من ناحية؛ وركب الرومي رأسه ميتا، ونخرت البطارقة ونعروا بأجمعهم، ووثبت، فلم يكن همتي إلا خلاصه حتى أخرجته، وقضينا سفرنا.
فإني لعند أمير المؤمنين يوما إذ دخل أبو العتاهية، فأنشده قصيدة كافية في وسطها:
ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في الفلك
إلا لنقل السلطان من مالك ... عاث [في] الدنيا إلى ملك
قلت: يا أمير المؤمنين، أعرف -والله- بيتين منهما؛ وضربت بيدي إلى خفي، فأخرجت رقعة مما فيها. فقال أبو العتاهية: يا أمير المؤمنين، تعلم أن لي ثلاث نسوة، وأنك ما جربت علي كذبا؛ ثم اندفع فحلف بأيمان البيعة أنه ما سمع بهما قط، ولا سمعا منه قبل وقته. فقال الرشيد: قد يكون الاتفاق، ثم اندفعت فحدثته بحديث الملك حتى انتهيت إلى قصة المكاري، فدعا به فقوده على ألف، وجعل له خاصة ألف، وولاه قم.
ناپیژندل شوی مخ