ضرورة الاهتمام بالسنن النبوية
ضرورة الاهتمام بالسنن النبوية
خپرندوی
دار المنار للنشر والتوزيع
د ایډیشن شمېره
الأولى
د چاپ کال
١٤١٤ هـ
د خپرونکي ځای
الرياض - المملكة العربية السعودية
ژانرونه
ضرورة الاهتمام بالسنن النبوية
تأليف
عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم
دار المنار
ناپیژندل شوی مخ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بين يدي الرسالة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [سورة آل عمران: الآية ١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [سورة النساء: الآية ١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [سورة الأحزاب: الآيتان: ٧٠، ٧١]
أما بعد، فإنه لا يخفى على مسلم يدبُّ الآن على وجه الأرض؛
1 / 5
ما يُعايِشُهُ المسلمونَ من ضعفٍ تغلْغَلَ في كل جانبٍ من جوانبِ حياتهم، سياسيًا كان، أو اقتصاديًا، أو غير ذلك.
ولقد تنبَّهَ الساعونَ إلى الإصلاح مُنْذُ أَمَدٍ إلى هذا الضَّعْفِ، فعملوا على تشخيصه وتحديده، ومِنْ ثَمّ على علاجه واستئصاله.
إلا أن السُّبُلَ تفرَّقتْ بهم عند وَصْفِ العلاج، واجتثاثِ الداءِ، تبعًا لاختلافِ منهجهم، وتعدُّدِ فِرَقِهِمْ.
وما من ريب أنَّ ما حلَّ بالمسلمين هو بسبب ابتعادهم عن دينهم، وانغماسهم في الشهوات المحرَّمة.
وبما أن الأمر كذلك - وهو كذلك فإنَّ رسولنا ﷺ أبان لنا هذا الدَّاءَ وَوَصَفَ لنا دواءه بما لا يَدَعُ مجالًا - عند ذي العقول - للاختلافِ والتنازع.
فقد أخرج أبو داود في سننه «٣/ ٧٤٠» وغيره؛ عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:
«إذا تبايعتم بالعِيْنَةِ.
وأخذتمْ أذنابَ البقرِ.
ورضيتم بالزَّرعِ.
وتركتم الجهاد:
سَلَّطَ اللَّهُ عليكم ذُلًا؛ لا يَنزعُهُ حتى ترْجعوا إلى دينكم».
فالمَخْرَجُ الوحيدُ من هذا الذَلّ، هو: الرجوع إلى شرعِ الله تعالى، والعَمَلِ به. وهذا قد شهد به القرآن في مواضع كثيرة.
1 / 6
قال تعالى:
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [سورة المائدة: الآيتان ٦٥، ٦٦].
ومع وضوح هذا الأمر، وجلائه، فإنً أُناسًا من المنتسبين إلى «الدعوة» ضربوا صفحًا عن الرضوخ لهذا الأمر الجلي، ورضوا بما أَمْلَتْهُ عليهم عقولُهم القاصرة، وآراؤهم الكاسدة، فابتغوا إصلاحَ المسلمين بما لم يشْرَعه الله تعالى، ولا رسوله ﷺ، فكانَ عاقبة أمرهم خسرًا، ونهايةُ إقدامِهم وبالًا، والله لا يصلحُ عمل المفسدين.
وكانَ من بين ما اقترفَتْهُ أيديهم؛ تلك الحملةُ الشعواء على لواء السُّنِة المطهَّرة، والهدي النبوي؛ إذْ جعلوا الاهتمامَ بالسنن، والحرصَ على تطبيقها في كلّ شؤوننا؛ عائقًا من عوائِقِ تصحيح مَسَارِ المسلمين، وانتشالهم من أوحالِ الضعفِ.
فجاءت كتبهم، ومحاضراتهم، ودروسهم؛ مقررةً لهذه الفكرة النكراء، تارةً بالتصريح، وأخرى بالتلويح، وثالثة الأثافي باسمِ الغَيْرَةِ على السُّنَّةِ والحفاظِ على أوقات المسلمين!!.
فطورًا: يشنِّعونَ على فاعِل السنَّة، والمحافظِ عليها؛ بحجُّةِ تفريقِهِ وِحْدَةَ المسلمين، بفعله هذا!!!
وطورًا: يبالغون في ضرورة معرفة الواقع - على جميع
1 / 7
المسلمين - حتى يُصْرَفَ الناسُ عن العلم الشرعيّ، والعناية بالسنَّة، إلى متابعة: الجرائد والمجلات، وأخبار السياسات، فيصبحُ الممدوحُ من أغرق في هذه الأمور، والمُزْرى به من أقبل على الفقه في دين الله، وعَكفَ على السنن تعلمًا وعملًا.
فَلَمَّا خرجت هذه الزوابع في وجهِ السُّنةِ، وتخلَّى عن تزييفها كثير ممن ظننَّاه أغيَر مَنْ نرى على السُّنَّةِ؛ استعنتُ الله تعالى، فكتبتُ هذه الرسالةَ راجيًا منه تعالى أن يجعلها له خالصةً، وأن يعمَّ بنفعها الجميع.
وخلاصة ما أريدُ إيصالهُ إلى القُرَّاء الفضلاءِ في هذه الرسالة التَّنبِيْه على ضرورةِ الاهتمام بالسنن الثابتة عن رسولِ الله ﷺ، تعلمًا، وتعليمًا، وإرشادًا.
وأَنَّ مَكْمَنَ الضعفِ عندنا، إنما جاء من جرّاءِ البعدِ عن دين الله تعالى، فرائضه ونوافله، فالطريقُ الصحيحُ لرفع هذا الضعفِ، ينحصر في مراجعةِ ديننا، والحرصِ على العمل به، والدعوة إليه جميعًا، كما قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ..﴾ الآية، [سورة البقرة: الآية ٢٠٨].
وليس من طريقٍ إلى ذلك، سوى هذا الطَّريقِ، فبِهِ تنشأ الأجيال على السنَّة، ويُغْرَسُ في قلوبهم محبَّةُ الدين، محبَّةً تَضْعُفُ بجانبها محبَّةُ النفس، والمالِ، والولدِ، عندئذٍ تتهيأ النفوس لقبولِ كلّ خيرٍ، وتجود بكلّ ما تَمْلِكُ نصرةً لهذا الدين.
1 / 8
ولقد بينتُ بعضَ الفوائد - العامَّة والخاصَّة - المترتبةِ على العمل بالسنَّة، ليكون ذلك مشوِّقًا إلى العمل بها، حاثًا على الاهتمام بتطبيقها.
كما أوردتُ بعض الشبه التي ينعِق بها مَنْ لا خلاقَ له؛ تزهيدًا في السنةِ، وتقليلًا من أهميتها، ورددتُها، مراعيًا الاختصار، وبالله التوفيق.
1 / 9
المقدِّمة
الحمد لله الذي أمرنا بالدخول في دينه كافةً: فرائضه، ونوافِلِه، فقال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾.
والصلاة والسلام الأتمانِ الأكملانِ على من بُعِثَ إلينا ليكون لنا فيه أسوةً حسنةٌ في كلّ شؤونه، في قيامه وقعوده، وحركاته وسكونه، القائل: «عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ».
صلَّى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغُرّ الميامين، المشرَّفين بشرف اتِّباع السنَّة، القائلين: «الاعتصام بالسُنَّةِ نجاة».
﵃، ومن تبعهم بإحسان، واقتفى أثرهم، إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنّ أحقّ ما اعتنى به المسلم، وأولى ما صرف فيه أوقاتَهُ: العملُ الدؤوب على اقتفاء آثار النبي ﷺ، وتجسيدها في حياته اليومية، ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
ذلك بأن غايةَ المؤمن تحصيل الهداية الموصلة إلى دار السعادة، وقد قال تعالى:
1 / 11
﴿وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾.
وقال:
﴿وَاْتَّبعُوهُ لَعَلكُمْ تَهْتَدُونَ﴾.
وقال تعالى:
﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فيِ رَسُولِ اَللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُواْ اَللهَ وَاُلْيَوْمَ آلاْخِرَ وَذَكَرَ اَلله كَثِيرًا﴾.
وهذه الآية - كما قال ابن كثير -: «أصلٌ كبير في التأسي برسول الله ﷺ، في أقواله، وأفعاله، وأحواله».
وهذه الأسوة إنما يسلكها ويوفق لها: من كان يرجو الله واليوم الآخر.
فإن ما معه من الإيمان، وخوف الله، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه: يحثّهُ على التأسي بالرسول ﷺ (١).
وشرف المؤمن ومنزلته إنما تقاس باتباعه، فكلما كان تحرِّيهْ للسنَّة أكثر كان بالدرجات العلى أحقُّ وأجدر.
ولذا كان العلماء السابقون من السلف الصالح يجعلون معيارَ مَنْ يؤخذ عنه العلم - وهو أشرف مأخوذ - تمسكه بالسنة، كما قال إبراهيم النخعي ﵀: «كانوا إذا أتوا الرجل يأخذون عنه العلم: نظروا إلى صلاته، وإلى سنَّته، وإلى هيئته؛ ثم يأخذون عنه».
_________
(١) تفسير السعدي ٦/ ٢٠٩.
1 / 12
وقال أبو العالية: «كنا نأتي الرجل لنأخذ عنه فننظر إذا صلى: فإن أحسنها جلسنا إليه، وقلنا: هو لغيرها أحسن؛ وإن أساءَها قمنا عنه، وقلنا: هو لغيرها أسوأ» (١).
وفي الرسالة «القشيرية» (٢) عن ذي النون المصري أنه قال:
«من علامة المحب لله ﷿؛ متابعة حبيب الله ﷺ؛ في أخلاقه، وأفعاله، وأوامره، وسننه».
وهذا حق مأخوذ من كتاب الله تعالى، قال تعالى:
﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اَللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحَبِبْكُمُ اللهُ وَيَغَفْر لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
قال الحسن البصري:
«فكان علامة حبَّهم إياه: اتباع سنة رسوله» (٣).
وأخرج ابن أبي حاتم في «تفسيره» (٤) عن أبي الدرداء أنه قال ﴿فَاتَّبِعُوهُ﴾: على البِرِّ والتقوى، والتواضع، وذلّة النفس».
ولقد كان للعلماء الربانيين - على مرِّ العصور - يد ظاهرةٌ في الحث على العمل بالسنَّةِ - بمعناها الأصلي - إرشادًا، وتعليمًا، وتأليفًا.
_________
(١) سنن الدارمي ١/ ٩٣ - ٩٤.
(٢) ١/ ٧٥.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره ٢/ ٢٠٤، وأخرج نحوه الطبري ٣/ ٢٣٢، واللالكائي ١/ ٧٠.
(٤) ٢/ ٢٠٤.
1 / 13
وبفضل الله، ثم بفضل هذه الجهود المبذولة، التي فنيتْ فيها الأعمار، وتجشَّمتْ من أَجْلها الأخطار، وأوثر في سبيلها الإعْسار على الإيسار: وصلت إلينا «السنَّة» مكلوءةً، محفوظةً، مخدومة، لينصَبَّ جهدنا على تعلُّمها، والانقياد لها، والدعوة لها، والدعوة إليها.
ولم تزلْ بحمد الله وتوفيقه وإعانته - في كلّ عصرٍ من العصور - طائفة تصرف هَمَّها وتنُشِّئْ أبناءها على العناية العظيمة بالسنَّة النبوية، لا فرقَ في ذلك بين شيءٍ منها، الكل يؤتى به كما أثر عن النبي ﷺ، بضابطه الشرعي الوارد في الحديث الصحيح: «وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».
يدعون إلى الأخذ بالسنَّة، والحرص عليها، جملةً وتفصيلًا، وينكرون على منْ حاد عن هذا الطريق بأي نوع من أنواع الحيدة، أولئك الذين قال فيهم أبو عبد الله الحاكم:
«قومٌ سلكوا محجة الصالحين، واتبعوا آثار السلَفِ من الماضين، ودمغوا أهل البدع والمخالفين بسننِ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله أجمعين ... فعقولهم بلذاذة السنَّة غامرة، وقلوبهم بالرضاء في الأحوال عامرة؛ تعلّمُ السَنن سرْوْرُهم، ومجالسُ العلم حبورهم، وأهل السنة قاطبة إخوانهم، وأهل الإلحاد والبدع بأسرها أعداؤهم» (١).
إلا أنَّ هذه الطائفة - المنصورة الناجية - لا تَسْلَمْ في كلّ عصرٍ من جاهلٍ أو صاحب هوى يكيد لها المكائد، وينصب لها العِداء، ويلصق بها أعظم الفِرَى.
_________
(١) معرفة علوم الحديث، ص: ٤ - ط ٣، الهند.
1 / 14
وما وَجَدَتْ هذه الفرقةُ الناجيةُ - في هذا الزمن - أشَدّ وأنكى من أولئك الذين وقفوا في وجه السنَّة، يريدون إطفاءَ نورها، وتَزْهِيْدَ المسلمين فيها، بتلك الطُّرقِ والوسائل المبطَّنَةِ، التي يحسبها الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا!.
ولقد تشكَّلَ هذا الوقوف في وجه السنَّة في صورٍ كلُّ صورٍ تلائم الظَّرْفَ الذي «نُظّم» لها أن تنزل فيه.
فتارةً يُشَنَّعُ على فاعلِ السنّةِ باسم: تفريقه - بهذا الفعل - وحدة المسلمين! وكذبوا وأيم الله!!
وتارة بالهمز واللمز على المعتنين بالسَّنن النبوية: بحثًا، وتقريرًا، وعملًا، ودعوةً، وذلك تحت مظلة تقسيم الدين إلى «جزئيات» ينعى على «المُغْرِقِ» فيها، و«كليات» يلام المفرِّط فيها.
وسيأتي - إن شاء الله -؛ نقض هذا التفريق بين الشريعة في آخر هذه الرسالة.
إلاَّ إنني هنا أجدُ ضرورة المبادرة بنقل كلامٍ رصينٍ متين لإمام العصر، ومحدِّث الدنيا، الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - في معرضِ حديثه مع أحد أفراد إحدى الجماعات الحزبية الإسلامية - قال فيه:
«... الذي نعرفه من كلّ الدعاة الإسلاميين اليوم غير الذين ينتمون إلى «منهج السلف الصالح»: تقسيمُ الإسلام إلى أصولٍ وفروعٍ - وكما قلنا آنفا: تقسيم الإسلام إلى لبّ وقشور -.
هذه باقعةُ الدَّهْرِ! تهلكُ المسلمين، وتجعلهم يبتعدون عن الإسلام من حيث هم يريدون أن يقتربوا.
1 / 15
الآن - بما عندك من ثقافةٍ وعندي من علمٍ - لا نستطيع أن نميز الأصول من الفروع، إلا أن يقصد بالأصول ما يتعلق بالعقائد فقط، وليس منها ما يتعلق بالأحكام.
حينئذٍ: الصلاة وهي الركن الثاني: لا تدخل في الأصول، وإنما تدخل في الفروع، لماذا؟ لأنها ليس لها علاقة بالعقيدة المحضة.
هذا التقسيم: خطرٌ خطرٌ جدًا.
ولذلك: أنا أعرف أنه مضى على بعض الجماعات قديمًا، كانوا يدعون إلى تبني الإسلام كُلًّا.
وهذه دعوة الحق، لأن الإسلام كما جاءنا يجب أن نتبناه.
ولكن من الناحية العملية: ممكنٌ أن إنسانا فردًا - مثلًا - أو جماعة يستطيعون أن يطبقوا جانبًا منه، ولا يستطيعون أن يطبقوا جانبًا آخر.
لكن من ناحية الفكر: الإسلام يجب تبنِّيهِ كُلًّا لا يتجزأ؛ مثلًا: فرضٌ، سنَّة، مستحبٌ، مندوبٌ ... إلى آخره، لا نقول: هذا مندوب ليس له قيمة، وهذا مستحب ليس له قيمة ... علينا نحن فقط الفرائض، لا، نحنُ ندعو إلى هذا الإسلام بكامله، ثم كلّ إنسانٍ يأخذُ منه ما ينهض به، ويستطيع أن يقوم به. اهـ. (١)
وهذا المنهج الذي ذكره الشيخ - وفقه الله - هو المنهج السليم، والصراط المستقيم الذي كان عليه السلف الصالح - رضوان الله
_________
(١) من شريط صوتي مسجل، بتصرفٍ يسيرٍ.
1 / 16
عليهم - كما ستراه في العرض الآتي إن شاء الله تعالى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد (١).
كتبه
عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم
الرياض ١٩/ ١ / ١٤١٣ هـ
_________
(١) اعترافًا بالفضل لأهله؛ أشكر الشيخين الفاضلين: الشيخ محمد بن عمر بازمول، والشيخ مساعد بن سليمان الراشد، حيث قرأ كل واحد منهما هذه الرسالة - بعد صفها بالطابع - وأبدى بعض ملاحظاته وتوجيهاته، فجزاهما الله عني خير الجزاء.
1 / 17
فصل
في تعريف السنَّة
لعل من الضروري - قبل الدخول في الموضوع - التعرض لمعنى السنَّة، في كلٍّ من:
لسان العرب الأقحاح.
ولسان الشارع والصدر الأول.
وعرف المتشرعين من المحدِّثين، والأصوليين، والفقهاء.
ثم بعد ذلك تحديد المعنى الذي يبنى عليه هذا الكتاب، فأقول:
أولًا: التعريف اللغوي:
السنَّة في اللغة تطلق على: السيرة، حسنة كانت أو قبيحة.
قال خالد بن زهير الهذلي:
فلا تَجْزَعَنْ مِنْ سيرةٍ أَنتَ سرتها ... فأوَّلُ راضٍ سنَّةً مَنْ يَسِيْرُها (١)
وتطلق - أيضا - على: الطريقة؛ مأخوذة من: السَّننِ، وهو:
_________
(١) لسان العرب ٣/ ٢١٢٤ / الجدول الثاني، ط دار المعارف المصرية، والصحاح للجوهري ٥/ ٢١٣٩ / الجدول الأول، ط دار العلم للملايين - بيروت.
1 / 19
الطريقُ، يقال: خُذْ على سَنَنِ الطريق، وَسُنَنِهِ (١).
ثانيًا: في لسان الشارع والصدر الأول:
إذا ورد لفظ السنَّة في كلام الرسول ﷺ، أو كلام الصحابة، والتابعين وكان ذلك في سياق الاستحسان: فإنما يراد بها المعنى الشرعيُّ العام الشامل للأحكام: الاعتقادية، والعملية؛ واجبةً كانت، أو مندوبة، أو مباحة.
قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» (٢):
«... تقرَّر أن لفظ السنَّة إذا ورد في الحديث لا يراد به التي تقابل الواجب ...». اهـ.
وقال ابن عَلَّان في «دليل الفالحين» (٣) على حديث «فعليكم بسنَّتي»: «أي طريقتي، وسيرتي القويمة التي أنا عليها، مما فصَّلْتُهُ لكم من الأحكام الاعتقادية، والعملية الواجبة والمندوبة، وغيرها.
وتخصيص الأصوليين لها: بالمطلوب طلبًا غيرَ جازم: اصطلاحٌ
_________
(١) تهذيب اللغة للأزهري ١٢/ ٣٠١ / الجدول الثاني، ط الدار المصرية للتأليف والترجمة - وقد فسر الأزهري، وكذا الخطابي - كما في إرشاد الفحول ص: ٣١ - السنّة: بالطريقة المستقيمة، وهو خلاف قول جمهور اللغويين، أفاد ذلك العلامة عبد الغني عبد الخالق، في كتابه الماتع (حجية السنة) ص: ٤٦، ط المعهد العالي للفكر الإسلامي بواشنطن.
(٢) ١٠/ ٣٤١، ط ١ السلفية.
(٣) ١/ ٤١٥، ط الحلبي، عام ١٣٩٧ هـ.
1 / 20
طارئٌ، قصدوا به التمييز بينها، وبين الفرض». اهـ.
وقال الصنعاني في «سبل السلام» (١) على حديث أبي سعيد، في التيمم، وفيه: «أصبتَ السنَّة»:
«أي الطريقة الشرعية». اهـ.
وقال السهارنفوري في «بذل المجهود» (٢) على الحديث السابق:
«أيْ صادفتَ الشريعةَ الثابتة بالسُّنَّةِ». اهـ.
وفي «الصحيح» (٣) عن عبد الله المزني ﵁ عن النبي ﷺ قال: «صلوا قبل صلاة المغرب - قال في الثالثة -: لمن شاء، كراهيةَ أنْ يتخذها الناسُ سنةً».
قال الحافظ في «الفتح»: «ومعنى قوله: «سنة» أي: شريعةً وطريقةً لازمة». اهـ.
وقال - أيضا - على قوله ﷺ: «فمن رغب عن سنَّتي فليس مني»:
«المراد بالسنَّة: الطريقة، لا التي تقابل الفرض ... والمراد: مَنْ تركَ طريقتي وأخذ بطريقة غيري: فليس مني». اهـ (٤).
_________
(١) ١/ ١٨٦، ط ١، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
(٢) ٣/ ٧٠، ط ٣ المكتبة الإمدادية بمكة المكرمة.
(٣) ٣/ ٥٩، (مع الفتح).
(٤) الفتح ٩/ ١٠٥.
1 / 21
وهكذا بالتتبع لكثير من النصوص المشتملة على لفظ «السنَّة» يتبيَّن أن المراد بها - إذا كانت في سياق الاستحسان -: الطريقة المحمودة والسيرة المرضية التي جاء بها النبي ﷺ عمومًا.
وعلى هذا: فإن مما يجب التنبيه عليه ما قد يقع من بعض المنتسبين للعلم من تنزيل لفظ «السنَّة» الوارد في كلام الشارع على المعنى الاصطلاحي عند الفقهاء، فيحصل الخطأ الفاحش، ويُخْرجُ بالأحكام عن مراد الشارع.
ثالثًا: في عرف المحدِّثين:
السنَّة عند جمهورِ المحدِّثين مرادفة للحديث، وهو:
ما أثر عن النبي ﷺ من قولٍ، أو فعلٍ وتقريرٍ، أو صفة خَلْقِية، أو خُلُقِيَّة، أو سيرةٍ بعد البعثة، وقد يدخل بعض ما قبلها (١).
رابعًا: السنَّة عند الأصوليين:
السنَّة عند الأصوليين: أصل من أصول الأحكام الشرعية، ودليل من أدلتها.
وقد عرَّفها الفتوحي في «الكوكب» (٢) فقال:
_________
(١) ينظر (مجموع فتاوى شيخ الإسلام) ١٨/ ٩ - ١٠، و(أسباب اختلاف المحدثين) للأحدب ١/ ٢٥، و(السنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي) للسباعي ص: ٤٧، ط ٤ المكتب الإسلامي.
(٢) ٢/ ١٥٩، (مع الشرح) ط ١ أم القرى.
1 / 22
«قول النبي ﷺ غير الوحي (١)، وفعله، وتقريره، وَزِيْد: الهمُّ».
وعرَّفها الآمدي في «الأحكام» (٢) فقال:
«ما صدر عن الرسول ﷺ من الأدلة الشرعية، مما ليس بمتلوٍّ، ولا هو معجز، ولا داخل في المعجز».
ويدخل في ذلك: أقوال النبي ﷺ، وأفعاله، وتقاريره».
وإدخال «الهمّ» في التعريف، ردَّه العراقي فقال:
«الهم إنما يطلع عليه بقولٍ أو فعلٍ، فالاستدلال بما دلَّ منهما، فلا حاجة لزيادته». اهـ (٣) وهو متجهٌ.
ويظهر الفرق بين تعريفي المحدثين والأصوليين في «الصفة» النبوية، فإنها عند المحدثين مندرجة في حدِّ السنَّة، لأنهم ينظرون إلى النبي ﷺ على أنه الأسوةُ للأمة، فينقل إليها كلّ ما أثر عنه، أَثْبَتَ حُكْمًا شرعيًا أو لا.
وليست «الصفة» كذلك عند الأصوليين، لأنهم إنما يبحثون عما يُثْبتُ الأحكامَ ويقرِّرها، فلم تدخل الصفة عند جماهيرهم في حدِّ السنَّة (٤).
ومما ينبغي التنبيه عليه هنا: أن بعض الأصوليين يرى أن رُتْبَةَ السُّنَّةِ متأخرةٌ عن الكتاب في الاعتبار.
_________
(١) أي غير القرآن.
(٢) ١/ ١٦٩، ط ١: النور بالرياض، عام ١٣٨٧ هـ.
(٣) حاشية العطار على جمع الجوامع ٢/ ١٢٨، ط الحلبي، عام ١٣٥٨ هـ.
(٤) انظر المصدر السابق، و(حجية السنة) ص: ٧٦، و(السنة ومكانتها) ص: ٤٨.
1 / 23
وقد أجاد العلامة الشيخ عبد الغني عبد الخالق في ردِّ هذا القول، وبيان بطلانه، حيث عَقَدَ مبحثًا في كتابه الماتع «حجَّية السُّنَّةَ» (١) لهذا الغرض، يقول في صدره:
السنَّة مع الكتاب في مرتبةٍ واحدةٍ: من حيث الاعتبار والاحتجاج بهما على الأحكام الشرعية، ولبيان ذلك نقول:
من المعلوم: أنه لا نزاع في أن الكتاب يمتاز عن السنة ويفضل عنها: بأنَّ لفظه منزلٌ من عند الله، متعبَّد بتلاوته، معجزٌ للبشر عن أن يأتوا بمثله، بخلافها: فهي متأخرة عنه في الفضل من هذه النواحي.
ولكن ذلك لا يوجب التفضيل بينهما من حيث الحجيَّة: بأن تكون مرتبتها التَّأخُّر عن الكتاب في الاعتبار والاحتجاج، فتُهْدرُ ويُعْمَل به وحده لو حصل بينهما تعارض.
وإنما كان الأمر كذلك: لأن حجيَّةَ الكتاب إنما جاءتْ من ناحية أنه وحي من عند الله ...، والسنَّة مساوية للقرآن من هذه الناحية: فإنها وحيٌ مثله، فيجب القول بعدم تأخرها عنه في الاعتبار. اهـ.
خامسًا: السنَّة عند الفقهاء:
استيفاء هذا المبحث يحتاج إلى إسهاب كبير، قد لا يعود على القارئ بكثير فائدة فيما يتصل بموضوعنا، إلا أننا نمرُّ على ما قاله فقهاء المذاهب في هذا الصدد على وجه الاختصار، فنقول:
_________
(١) ص: ٤٨٥ إلى ص: ٤٩٤.
1 / 24
قول الحنابلة:
قال الفتوحي في «الكوكب» (١) في تعريف «المندوب»:
«والمندوب شرعًا: ما أثيب فاعله - ولو قولًا وعملَ قلبٍ - ولم يعاقب تاركه مطلقًا.
ويُسَمَّى: سنَّةً، ومستحبًا، وتطوُّعاَ، وطاعةً، ونفلًا، وقربةً، ومرغبًا فيه، وإحسانًا؛ وأعلاه: سنَّة، ثم فضيلة، ثم نافلة». اهـ.
وعرَّفه ابن بدران في «المدخل» (٢) بتعريف الفتوحي السابق، وزاد:
«سواءُ تركه إلى بدلٍ، أو لا».
وهو: مرادف للسنة والمستحب.
فالسواك، والمبالغة في المضمضة، والاستنشاق، وتخليلُ الأصابع، ونحو هذا يقال له: مندوب، وسنَّة، ومستحب». اهـ.
وذكر الشيخ أبو طالب البصري في «الحاوي الكبير» (٣) أن المندوب ينقسم ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يعظم أجره، فيسمَّى سنةً.
والثاني: ما يقلُّ أجره، فيسمى: نافلةً.
_________
(١) مع شرحه ١/ ٤٠٢ - ٤٠٣، ط أم القرى.
(٢) ص: ١٥٢، ط الرسالة، تحقيق معالي الدكتور: عبد الله بن عبد المحسن التركي.
(٣) بواسطة نقل الفتوحي عنه في شرح الكواكب ١/ ٤٠٤ - ٤٠٥.
1 / 25