وأصبت أنا بنوع من البهر، هل يمكن أن يقول أحد للدكتور طه حسين باشا بأكمله يا طه، وما لبثت أن تنبهت بعد لحظة أو هنيهة أن المتكلم هو الدكتور محمد حسين هيكل باشا رفيق عمره، وصاحبه على الطريق من أول الطريق. وقال هيكل: «نقيم حفل تأبين لدسوقي يوم كذا، وأريدك أن تشترك فيها.»
وسمعت صوت الدكتور طه قادما إلى أذن هيكل باشا، وكانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع فيها صوته في التليفون.
قال، وما أعظم ما قال: «في هذا اليوم أنا عندي محاضرة سألقيها في الجامعة. سألغي المحاضرة، وأعتذر عنها، وأحضر التأبين وأتكلم.»
ملأني التأثر بهذا الحديث القصير. وأقيم حفل التأبين، وكان من أروع حفلات التأبين التي شهدتها مصر.
وتفضل الأستاذان الكبيران العوضي الوكيل وأحمد عبد المجيد الغزالي، فجمعا في كتاب واحد ما قيل في حفلات التأبين التي أقيمت في أبي كما جمعوا في الكتاب كل الكلمات التي نشرتها الصحف في رثائه.
وظهر الكتاب بعد حوالي عام من وفاة أبي، وظهر في نفس الوقت كتابي «ابن عمار».
ورأيت من الطبيعي أن أقصد إلى الدكتور طه حسين باشا، وأقدم إليه كتاب الرثاء شكرا منا، أو محاولة شكر لكلمته الرائعة التي ألقاها في التأبين ولوفائه العظيم الذي جعله يلغي محاضرة له ينتظرها الآلاف ليشارك في التأبين، ومحاضرة طه حسين لا ينوب عنه فيها أحد، ولكن التأبين يمكن أن يتم إذا هو اعتذر عن عدم الحضور فيه.
طلبت موعدا من الدكتور طه حسين وأعطانيه، وقصدت إليه في بيته بالزمالك، في الشارع المسمى باسمه اليوم، وكان هذا قبيل انتقاله إلى الهرم بشهور قليلة. وصحبت معي في زيارتي له رواية ابن عمار. وفي هذه الجلسة لم أشعر إلا بالانبهار، فلم أكن أتصور أنني سأجلس إلى طه حسين في حياتي .
وأذكر بعد ذلك أنني ذهبت إليه في هذا البيت مرة أو مرتين، وبدأت العلاقة على كثير من الاستحياء من جانبي. فأنا من أشد المعجبين بطه حسين عميد الأدب العربي، وأعتبره أكبر علامة في جيله الأدبي، وكان الدكتور طه حسين دستوريا، وكان يكتب في السياسة جريدة الحزب، وكان على صداقة بأبي في هذه الفترة، وقد ذكر الدكتور طه أبي في كتابه حديث الأربعاء. ثم ترك الدكتور طه الحزب، وكتب بعض مقالات كان أبي يخالفه الرأي فيها، وخاصة حين كتب عن حافظ إبراهيم ما معناه أن مدحه لملكة الإنجليز يشبه مدحه للأسرة الأباظية، فرد عليه أبي بمقال غاية في العنف لا أريد أن أذكر منه شيئا، وإن كنت معتقدا أن أبي كان على حق. ومع هذا الخلاف فإن أبي كان دائم الإعجاب بأدب طه حسين ودائم المديح له حتى لنا نحن بنيه وأهل بيته، فأنا لم أر رجلا في حياتي يعدل في حكمه مثلما كان يعدل أبي. لعلك تذكر كيف كان يمتدح حسن صبري باشا كرئيس للوزراء مع أنه هو الذي حال بينه وبين دخوله وزارة محمد محمود. ولم يختره معه في الوزارة مع أنه كان سكرتير عام الحزب، وأولى رجاله بها، ولكن هذا جميعه لم يمنعه أن يراه من أحسن رؤساء الوزارات الذين تولوا الحكم. ولم يحاول وهو البرلماني المتمرس الخبير أن يحرجه، ولو لمرة واحدة في مجلس النواب.
كذلك كان هو، وقد كان إعجاب أبي بطه حسين، وأسلوبه لا حد له، مع أن الدكتور طه كان وفديا من الحزب المعارض لحزب أبي.
ناپیژندل شوی مخ