وأمر أن تعرض الرواية دون أن يحذف منها شيء مطلقا.
وفي عرض خاص ضم جمهورا كبيرا شاهدت الرواية، وكان معي الأخ الصديق عبد الرحمن الشرقاوي. وحين انتهى العرض قبلني الشرقاوي بحماس شديد. ووقف أحد المشاهدين، وطلب أن يسألني سؤالا وسأل: «ألا ترى أنك جعلت الشعب المصري سلبيا إلى أقصى درجة.» وجدتها فرصة لا مثيل لها قلت له: «أين هو الشعب المصري هذا؟»
قال: «أهل القرية.»
قلت: «ومن قال إن أهل القرية هم الشعب المصري. اسمع أنت والآخرون، إن أي إسقاط على هذه الرواية يكون من داخل المسقط، وعليه وحده أن يتحمل مسئوليته.»
وذاعت هذه الكلمة فامتنع المعرضون عن إعلان ما أدركوه من إسقاط. ولكن الشيوعيين لم يمتنعوا يوما من أيام عرض الرواية ولأسابيع بعدها عن مهاجمتي في ضراوة، وهذا أمر أسعد به دائما فليس أحب إلي من أن أسمع مذمتي من هؤلاء الرهط.
كثير من الصحفيين يسألونني حتى اليوم: «أليس في عرض هذه الرواية دليل على الحرية؟» وأضحك أنا. فلو كان هناك حرية ما كتبت أنا هذه الرواية أصلا، ولما كتبتها رمزا. أما أنها عرضت فرئيس الجمهورية الأسبق لم يكن من الغباء إلى درجة منعها. فلو كان منعها بعد أن أصبحت فيلما مكتملا لهرب الفيلم وسبقته الدعاية أنه الفيلم الذي منعه رئيس جمهورية مصر، وإني لأعجب لمن يبحث عن أي حرية في ذلك العصر، ولكن ماذا نقول إلا أن نضرب كف عجب بكف دهشة ، ونقول مع القائلين: ولله في خلقه شئون. (3) توفيق الحكيم
أمام البنك الأهلي الذي أصبح اليوم البنك المركزي المصري على ناصية شارع شريف عند التقائه بشارع قصر النيل كان هناك مقهى وكان يجلس إليه أستاذنا توفيق الحكيم، وكنت أمر كثيرا بهذا المكان، فالشارعان في مكان من الطبيعي أن يكون المرور به كثيرا، كنت حينما أرى توفيق الحكيم أعبر الشارع وأقف أمام البنك الأهلي، وأظل أنظر إليه دقائق، ثم أمضي لشأني وأنا سعيد بما تمكنت من النظر إلى توفيق الحكيم بأكمله.
وبدأت بعد ذلك الكتابة في مجلة الثقافة. ودعاني أحمد بك أمين أن أحضر ندوة لجنة التأليف والترجمة والنشر؛ فكنت أذهب كل خميس في الساعة الخامسة مصطحبا الأستاذ عثمان نويه، ونشهد الندوة التي كانت في حجرة منسقه الأساس فيها سعة غير فادحة، وكان نجوم الندوة أحمد بك أمين طبعا، وعبد الواحد خلاف بك الذي كان ناظرا علي في مدرسة فاروق الأول حينما كنت في السنة الأولى لها، وهو من أعظم الرجال الذين عرفتهم، وكان بين العمالقة الدكتور أحمد زكي الرجل الذي جمع النبوغ الشامخ في العلم إلى الموهبة الشاهقة في الأدب. وكان معهم أيضا إسعاف النشاشيبي، وكان النقاش يحتدم بينه وبين هؤلاء الأعلام حول الدين والعلم. وكان - غفر الله له - ملحدا عميق الإلحاد. وكان توفيق بك الحكيم حريصا على حضور هذه الندوة، وكان يحضرها أيضا الفيلسوف العملاق والأديب الباذخ الدكتور زكي نجيب محمود أطال الله عمرهما. كنت أظل طوال الجلسة صادمتا لا أفرج شفتي عن كلمة.
وحين أصبح أبي وزيرا للشئون الاجتماعية كان توفيق بك الحكيم موظفا في الوزارة، وقد دعاه إلى الغداء في البيت كما دعا الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني. وقد يعجب القارئ أنني لم أتهيب في حياتي إلى هذه السن لقاء أحد، لا أستثني من ذلك رؤساء الوزارات، ولكنني تهيبت لقاء العملاقين، وخجلت أن أحضر معهما الغداء، واكتفيت بأن نزلت إلى الشارع من الباب الخلفي لمنزلنا بالعباسية، ورأيتهما يخرجان من الباب الرئيسي، وظللت أنظر إلى ظهريهما، وهما يغادران البيت مشيا على الأقدام؛ توفيق الحكيم يعتمد عصاه والمازني يظلع في خطاه، وكان مشيهما عندي ورؤيتهما أروع في نفسي من رؤية أي رئيس وزارة مهما تكن سيارته فخمة فارهة، ومهما يكن لحراسه من هيبة في الهيئة أو في الملبس.
وظل الأمر بيني وبين توفيق بك على هذا الحال، وانتقلت لجنة التأليف والترجمة والنشر من شارع كرداسة قرب العتبة الخضراء إلى دار أنيقة وشارع فسيح بحي المنيرة، وكان للدار حديقة متوسطة الحجم ذات ممشى يؤدي إلى الدار. وظللت على حرصي أن أحضر الندوة، وكنت قد بدأت أكتب تمثيلياتي في الإذاعة، ولكن الإذاعة شيء، وأن أتكلم بين هؤلاء شيء آخر. كان صمتي في دار المنيرة هو نفس صمتي الذي كان في شارع الكرداسة، حتى كان يوم انتهت الندوة، ودخلت أنا إلى الأستاذ عبد العال المدير الإداري لمجلة الثقافة، وأحسب أنني كنت أسأله عن مقالة لي كنت أرسلتها، وأردت أن أطمئن إلى وصولها. وربما مكثت بضع دقائق أتحدث إلى الأستاذ عبد العال، وخرجت وأنا واثق أن جميع من كان في الندوة قد انصرف عن الدار، ولم يكذب حدسي إلا في شخص واحد وجدته واقفا، وقد ركن إلى عصاه في منتصف الممشى، ناظرا إلى باب الدار مترقبا في وضوح ظهور شخص ما. وفي صمت وإطراق حاولت أن أميل عن وقفته متخذا سبيلي أماما إلى الباب الخارجي، ولكن توفيق بك عاجلني: «هل أنت ثروت أباظة؟»
ناپیژندل شوی مخ