قال: «روايات وقصصا، وسأحضرها لك غدا.»
وقرأت روايات نجيب المصرية، وقرأت همس الجنون، وكنت قد بدأت أكتب في الثقافة مقالاتي الأولى، واتفقت مع الأستاذ فؤاد نويرة أن يعرفني بالأستاذ نجيب محفوظ، والتقيت به في كازينو أوبرا في أواخر عام 43 أو أوائل عام 44 لا أذكر، ولكني أذكر أنني منذ رأيته شعرت أنني أعرفه عمري كله. وبدأت صداقة ما زالت مزدهرة حتى اليوم في جمال الجدة وعبق العمر. نلتقي فالحديث موصول جديد، وتلتقي منا المشاعر متفقة دائما، ما أندر ما اختلف بيننا رأي، وعند هذا الاختلاف احترم رأيه وأقدره كل التقدير، وأشعر أنه يبادلني نفس الشعور. إنها مرات نادرة أكاد لا أذكر أنها كانت، وربما كنت أروي عنها الآن خشية أن تكون حدثت وأنا نسيتها؛ لأني فعلا لا أذكر أن خلافا في الرأي وقع بيننا قط. أما الخلاف بين الأصدقاء، فالمؤكد أنه لم يحدث مطلقا ، وطبيعي ألا يحدث، فأنا أنظر إليه كأستاذ لي وأخ أكبر، وهو ينظر إلي كأخ أصغر ، ومن الطبيعي ألا يقع خلاف قط.
وإن إعجابي بنجيب ليس مقصورا على فنه، وإنما هو يتسع ويتسع، فيشمل كل مناحي شخصيته لا أستثني منها شيئا إلا تصديقه لكل ما تقوله الجرائد شأن جيله النظيف الذي نشأ في جو سياسي نقي.
أعجبت بنجيب الروائي منذ قرأت له، وأخذ إعجابي يزداد به كلما اتسعت مداركي في فن الرواية والقصة. وكنت قد بدأت في مقالاتي بالرسالة أنقد الكتب، وما زال عندي روايات لنجيب كتب لي إهداءها بقوله إلي الناقد فلان. وأذكر في صيف 1946م، وكنت نلت شهادة التوجيهية، وكنت بالإسكندرية، وكنا في رمضان. وجاءتني منه رواية القاهرة الجديدة.
وكنت قبل مجيئها قد بدأت رواية لكاتب آخر، فعزمت أن أكمل الرواية التي بدأتها، ثم أفرغ لرواية نجيب.
فرغت من الرواية الأخرى في الساعة الثانية صباحا، ولم تعجبني الرواية. فقلت: أقرأ بضع صفحات قليلة لنجيب لأصلح نفسي مما ألم بها من الرواية السيئة التي قرأتها.
بدأت قراءة القاهرة الجديدة، وقد تجاوزت الساعة الثانية من الصباح، واقترب الفجر، فإذا بالعمل الرائع يمسك بتلابيبي لا يتركني حتى أتناول سحوري، ظللت بها حتى انتهيت منها، ولم أكتف بذلك، بل عمدت إلى قلمي، ورحت أكتب رأيي فيها، وأذكر أنني قلت في هذه المقالة إن نجيب محفوظ يقتعد القمة من الرواية العربية دون منازع. وأرسلت المقالة إلى مجلة الرسالة، ثم نمت.
وربما لا يعرف الكثيرون أن نجيب محفوظ كان في مكتب وزير الأوقاف، فقد كان الشيخ مصطفى عبد الرازق باشا في مكان الأب الروحي له. وقد عين نجيب في إدارة الجامعة عند تخرجه، ثم ضمه فضيلة الشيخ مصطفى إلى مكتبه في وزارة الأوقاف حين عين وزيرا لها.
فحين أصبح أبي وزيرا للأوقاف في وزارة إسماعيل صدقي باشا عام 1946م كان نجيب سكرتير وزير الأوقاف لشئون مجلس الأوقاف الأعلى. وكنت أنا قد أصبحت في الجامعة، فهكذا كنت أستطيع أن أذهب إلى الوزارة أغلب أيام الأسبوع، وازدادت صلتي توطدا بنجيب. وكان أبي يقرأ روايات نجيب، وكان معجبا بها كل الإعجاب، وكنت أبلغ «نجيب» إعجاب أبي هذا. ومرت سنوات وكنت أتمشى مع نجيب محفوظ، وأذكر أن ذلك كان في عام 54، وكنت أحثه على الزواج ولم أكن أدري أنه متزوج فعلا.
قطع نجيب حديثي قائلا: «لقد رفعت دعوى على وزارة الأوقاف.»
ناپیژندل شوی مخ