وكان أبي في ذلك الحين لا يحمل رتبة الباشوية، بينما كان أحمد باشا يحمل الرتبة، ولكن النحاس باشا استبدل بها لقب ولد.
امتنع الحزب عن دخول الانتخابات، وارتأى أبي باتفاق مع الحزب أن يرشح في دائرته عمي عبد الله فكري أباظة الذي كان سكرتيرا عاما لوزارة التجارة في ذلك الحين، ثم وكيلا. ودخل عمي الانتخابات مستقلا ونجح، وكان الدستور ينص على أن النائب الموظف عليه أن يختار بين الوظيفة والنيابة في مدة أقصاها ثلاثة شهور. واختار عمي عبد الله الوظيفة في المدة المحددة، وأعلن عن خلو الدائرة، وتقدم أبي للترشيح ورشح الوفد مرشحه الذي كان يرشحه دائما في دائرتنا، وكانت الانتخابات معركة حربية طاحنة صنع فيها الوفد كل ما يستطيع لإسقاط أبي حتى إذا يئس فكر أن يستولي على الصناديق ويغيرها، فإذا بشباب الأسرة الأباظية يبيتون فوق الصناديق وعلى رءوسهم السلاح، وقضى عمي عبد الله فكري ليلته في بيت ملاصق لمقر الفرز، ومن أحداث هذه الانتخابات ضرب فكري أباظة باشا الكاتب الأشهر، وفتحت يده بجرح كبير ظلت آثاره باقية حتى اختاره الله إلى جواره.
ونجح أبي في الانتخابات وتقدم باستجواب عن المعتقلات، وفي يوم نظر الاستجواب اعتقلت حكومة النحاس باشا مكرم باشا عبيد. ووقف أبي في المجلس، وقال إن الحكومة تتحدى الشعب ومجلس النواب، وتعتقل مكرم باشا في نفس اليوم المحدد لنظر الاستجواب الخاص بالمعتقلات، وأنا أعلن هنا أننا متضامنون مع مكرم باشا في كل ما فعل أو قال، وللحكومة أن تعتقلنا نحن أيضا؛ لأننا شركاء مع مكرم، ولتفعل بنا القوة الغاشمة ما تشاء.
وأذكر أنني في ذلك اليوم كنت في البيت أتلقى درسا خاصا في اللغة الإنجليزية على يد أستاذي الذي كان متوليا الإشراف على دراستي في كل العلوم الأستاذ لويس مرقص الذي أصبح فيما بعد الدكتور لويس مرقص، وأصبح رئيس قسم اللغة الإنجليزية في الجامعة، ودخل أبي إلينا، وروى لنا ما كان من أمر جلسة مجلس النواب، ثم نادى أحمد بخيت وأمره أن ينقل نسخ الكتاب الأسود والمنشورات الأخرى إلى بيت ابن عمه الأصغر الضابط عمر أباظة، ويتركها عند السيدة الجليلة والدته، وكان مجاورا لبيتنا في العباسية. ونفذ أحمد بخيت الأمر بحذافيره، ولم يبق في بيتنا ورقة يمكن أن يجعلوا منها حجة ولو واهية للقبض على أبي.
وحدث ما توقعه أبي، وتم تفتيش بيتنا بعد الساعة الثانية صباحا من نفس اليوم، ولم يتركوا ركنا إلا أعملوا فيه أيديهم، حتى حقيبة أختي الصغرى التي أصبحت جدة الآن. فتشوها واستيقظت الطفلة التي لم تكن تتجاوز الخامسة من عمرها، ولكن العجيب أن أختي حين استيقظت ورأتهم يعبثون بحقيبتها نظرت إلى أبي وراحت تقهقه بالضحك، وتقول لأبي: «بابا دول بيفتشوا شنطتي، بص!»
وضحك أبي وسرى عنها.
ولكن ينبغي لي أن أشهد أن أبي قال لرئيس حملة التفتيش في حسم: «لكم أن تفتشوا ما تشاءون، ولكنكم لن تدخلوا الحجرة التي بها السيدات في البيت. فإذا فرغتم من تفتيش حجرة انتقل إليها السيدات وتقومون أنتم بتفتيش الحجرة التي كن يشغلنها.» وقبل الضابط رئيس الحملة، حفاظا على كرامة البيت، فإذا قارنا هذا بما كان يجري بعد ذلك اعتداء على الحرمات لوجدنا أن حكم الطغاة في العهد الديمقراطي لم يتخل عن إنسانيته وعن تقديره لكرامة البيوت.
أبي وأمي
كان أبي في البيت ملاكا، ولكن كانت له هيبة تغنيه عن أي عنف، ضربني أبي ثلاث مرات لم يزد الضرب في اثنتين منها عن صفعة على وجهي، أما المرة الثالثة فلا بد أن أرويها؛ لأنني مظلوم فيها ظلما بينا. والعجيب أنني لم أقل لأبي حتى بعد أن كبرت وتخرجت وتزوجت في حياته رحمه الله أنني مظلوم، ولعل خشيت أن أتسرب إلى نفسه بإحساس من الأسف أكبرته أن يشعر به. وها أنا ذا أروي اليوم ظلمي وهو سيطلع عليه وهو في أكرم جوار، وإني أشفع قصتي قبل أن أرويها بأن أنبئه وهو في عليين أن إنسان ما في العالم أو في التاريخ لم يسعد بظلمه سعادتي بالظلم الذي وقع علي أنا منك يا أبي في ذلك اليوم؛ فقد أشاع هذا الذي وقع لي في نفسي فيضا لا ينتهي من الإحساس بالرحمة وحب الناس. وأنا أعلم أن أبي أحبني كما لم يحب أب ابنا؛ فقد ولدت له وهو في الأربعينيات من عمره، ومرضت في أول أيامي في الحياة، فجعلته شفقته علي وإشفاقه أن أموت يزداد حبا لي، ومع هذا وقع منه هذا الظلم الحبيب على ابنه المقرب.
ربما كنت أنا أحب أبي كما لم يحب ابن أباه، ولست أنسى كلمة أهدى بها عمي عبد الله صورة له إلى أبي قال فيها: «إلى أبي وأخي وأستاذي ومثلي الأعلى.» فإن كان هو هكذا بالنسبة لأخيه فقد كان بالنسبة لي هذا جميعا، ثم هو مني حياتي ومصدرها وسياجها وعزها، وكان حتى بعد موته ملاذي ومأمني ومفزعي وأملي.
ناپیژندل شوی مخ