حين ارتأى أبي أنه ينبغي لي أن أذهب إلى المدرسة اختار المدرسة الأولية الملاصقة لبيتنا، وفي أول يوم ذهبت إليها صحبني محمد أبو عثمان، وهو نوع عجيب من الخدم أطال الله عمره؛ فقد كان يقوم بكل الأعمال، وكان في نفس الوقت لا يعمل شيئا، كان يطبخ إذا غاب أخو زوجته محمد عبوة الطباخ، والواو مشددة في تخفيف. وكان يسوق إذا غاب رجب السائق، وكان يساعد عم أحمد في ري الحديقة وفي التخديم على الضيوف، وكان يذهب لشراء الأشياء، وكان يلاعبني ويحكي لي الحكايات التي كنت مغرما بها غراما جائحا. وكنت حريصا ألا أفارقه من أجل هذه الحكايات، ولما رأت والدتي أنني أصبحت حجته التي يعتذر بها عن عدم العمل أحضرت من البلد إبراهيم ليرافقني، ولإبراهيم هذا قصة طويلة معي لم تنته بعد حتى اليوم؛ فهو الآن طباخ عندي يتقاضى مرتبه، ولا يأتي إلا عندما يحلو له.
ذهبت إلى المدرسة في أول يوم، وأنا لا أدري ماذا تخبئ لي المدرسة؛ فقد كنت أظن أنني سأذهب إليها مع محمد أبو عثمان بعض الوقت، ثم نعود سويا دون أن نفترق، ولكنني فوجئت بمحمد يسلمني الحقيبة عند باب المدرسة، ويهم بالعودة إلى المنزل. وما إن استقر هذا في نفسي حتى صرخت صرخة احتجاج عريضة مصرا أن يظل محمد معي، وأقبل المدرسون والناظر وواجهتهم المشكلة. وأمر الناظر مضطرا أن يدخل محمد معي إلى المدرسة، ودخل المدرسة. وحين ذهبت إلى الفصل أصررت أن يصحبني إليه، وصحبني ولم أفهم شيئا من الدرس؛ فقد كان نظري كله منصبا على محمد الواقف على باب الفصل داخل الفصل.
قبل الناظر هذا الاستثناء يوما ويوما، ثم أمر محمد أن ينصرف، وبكيت وصرخت، فلم يأبه أحد ببكائي، ورأيت آخر الأمر أن أرضخ للأمر الواقع، وخفف الوحدة علي أن أبي ووالدتي كانا يطلان علي من حجرة الطعام بالدور الأعلى، ويلوحان لي فرحين أنني أصبحت تلميذا في المدرسة.
أذكر أنني لم أستمر طويلا بهذه المدرسة، فنقلت إلى مدرسة المنيرة بروضة الأطفال بها، وفي هذه المدرسة بدأت مشوار الدراسة الذي سار فيه من قبلي وتسير فيه البشرية حتى الآن، والذي أحسب أنها لن تنتهي من السير فيه.
وربما كان الطريف أنني منذ سنوات قريبة دعيت من ناظر إحدى المدارس الابتدائية لأجلس في ندوة مع التلاميذ، وذهبت إلى المدرسة في العنوان الذي أنبئت به، وكم فوجئت وكم فرحت حين وجدت نفسي ضيف ندوة في المدرسة التي كنت تلميذا فيها بروضة الأطفال.
لم أعد في حاجة لإبراهيم الذي جاء من غزالة لصحبتي، فدخل هو إلى المطبخ ليتعلم الطهي، ولكنه لم ينس أنه جاء من أجلي؛ فكان يلازمني بعد انتهاء عمله هو في المطبخ وعملي أنا في المدرسة.
وعرف الطريق إلى سينما الأهلي، وعرفت الحلقات التي كانت تقدمها السينما لتومكس وإخوانه من رعاة البقر، وهمس في أذني أن نذهب معا أثناء نوم أبي. وكان أبي يرغبني أن أنام معه في القيلولة، فكنت دائما أتسحب وأنزل إلى الملعب، ويعلم الله أنه كان يحس بي ويتظاهر بالنوم. وقد أورثني هذا كرهي لنومة القيلولة، حتى أرغمتني عليها السنون، فأصبحت أدمنها بعد كراهية، ولا أتحمل العمل بعد الظهر إلا إذا أخذت نصيبا مهما يكن ضئيلا من النوم.
ذهبت مع إبراهيم إلى سينما الأهلي، ولكن كان العائق الأكبر يتمثل في حصولي على قرش صاغ ثمن التذكرة الثانية في الدرجة الثالثة في الصالة؛ فقد كان مصروفي قرشا في اليوم، وكنت في سائر أيام الأسبوع أنفقه في «كنتين» المدرسة، أو في أي مصروف آخر. أما في يوم الخميس فقد كنت أبقي على القرش، لا أنفق منه مليما، ثم أروح أفكر في الوسيلة التي أستنبت بها قرشا آخر لنشتري التذكرتين، ولم يكن الأمر يسيرا، ولكنني كنت أوفق دائما وأحصل على القرش.
أفادتني دراستي مع الحاج أحمد القرعيش في مدرسة الروضة حتى رأت المدرسة في آخر العام أن تنقلني إلى السنة الثالثة مباشرة دون أن أمر بالسنة الثانية.
وذهبت بعد ذلك إلى مدرسة المنيرة الابتدائية، وكان ناظرها فهمي بك الكيلاني، وكان من أعظم الناس الذين عرفتهم، وبدأت في هذه السن هوايتي لقراءة القصص، وكانت هناك مجموعات من قصص الأطفال، مثل «قصتي» وغيرها، ولكن حدث في هذه السنوات أن بدأ الأستاذ كامل كيلاني يكتب مكتبته للأطفال، وكان صديقا مقربا إلى أبي غاية القرب، وقد كان من كبار أدباء عصره، وكان من أحفظ الناس للشعر القديم كله منذ الجاهلية إلى العصر الحديث.
ناپیژندل شوی مخ