وشاء حظي السعيد أن يكون هذا الرجل الشاعر خفيف الظل هو معلمي الأول، عليه تعلمت الخط الأفقي والخط الرأسي وحروف الهجاء الأولى والحساب من جمع وطرح إلى ضرب إلى قسمة، وكان يحمل لي في جيبه أقراص النعناع، فإذا أحسنت الإجابة أعطاني قرصا من النعناع، مع تصفيق شديد، وإظهار للإعجاب، وكأنني أتيت عملا لم يسبق لأحد أن أتى به.
ولم يكن من الممكن أن يستمر الحاج أحمد في إعطائي الدروس؛ إذ سرعان ما انتقلنا إلى القاهرة، وتولى أمري في الدروس الخاصة مدرس آخر من غزالة أيضا، واسمه عليوة أفندي عبد الله، وكانت طريقة عليوة أفندي مختلفة كل الاختلاف عن طريقة الحاج أحمد، ولم يكن الحاج أحمد يحب عليوة أفندي، فأنشأ أبياتا أربعة أو خمسة، وقدمها لأبي يرجوه فيها ألا يتولى عليوة أفندي تدريسي أذكر منها:
أأنشئ روضا في حماك معطرا
ويأتي عدوي يجتني ثمراتي؟
وأعجب أبي بالأبيات، ولكن مع ذلك أبقى عليوة أفندي مدرسا لي.
وقد ظل يدرس لي اللغة العربية والحساب، حتى حصلت على شهادة الابتدائية، كما درس أيضا لإخوتي، ثم درس لابنتي وابني، أطال الله عمره، ووهب له الصحة والعافية.
وقد كان عليوة من أخلص المدرسين الذين عرفتهم، إلا أنه كان لا يبالي مشاعر التلاميذ في سبيل أن يؤدي واجبه، وأذكر أنه كان أحيانا يتخلف يوما عن الدرس؛ فأحمد أنا الله وألعب الكرة، وأقدر أنه لن يأتي إلا في الموعد التالي الذي يكون قد حدده بعد يوم التخلف بيومين أو ثلاثة، فألعب أنا الكرة في اليوم التالي لتخلفه وأنا واثق أنني حر، فاليوم ليس محددا لدرس، وأفاجأ بعليوة أفندي قادما كالقضاء المستعجل في اليوم الذي لا أتوقعه فيه تعويضا عن اليوم الذي أخلفه، ولا أذكر أن غما لقيته في طفولتي مثل ذلك الغم الذي يشملني وأنا أراه قادما في غير موعده، وكم بكيت، وكم حاولت العصيان، ولكن دون فائدة.
وكان عليوة أفندي يجيد الشرح، وكنت أفهم ما يلقيه منذ المرة الأولى، ولكنه يسير على طريقة لا يغيرها من تلميذ إلى تلميذ، وكم عانيت من تمسكه بطريقته هذه؛ فقد قرر هو أن يخصص درسا للشرح والدرس الثاني للتطبيق، وليس يعنيه أن يكون التلميذ قد فهم الشرح من المرة الأولى، إنما المهم عنده أن ينفذ منهجه الذي وضعه هو لنفسه، فهو يشرح مرة ثانية وثالثة ورابعة، ولا ينتهي من الشرح حتى ينتهي الدرس. وأكون أنا قد سرحت في غير الدرس من ملاعب الطفولة منذ المرة الثانية للشرح، حتى إذا جاء موعد التطبيق أكون أنا قد احترقت من الغيظ لقوله كلاما عرفته من المرة الأولى، وأكون أيضا قد نسيت كل شيء من القاعدة.
وأذكر أن أبي كان يحب أن يقضي الشتاء في حلوان، فكان عليوة أفندي يجشم نفسه مشقة الحضور إلي أحيانا في حلوان إذا كانت المدرسة في إجازة، فلم يكن ذهابنا إلى حلون يمنعني أن أذهب إلى المدرسة طبعا، وفي يوم كنت ألعب أنا ورفيق طفولتي محمد زكي أباظة وكان عليوة أفندي يدرس له هو الآخر. ولم أكن ولا محمد ننتظر قدوم عليوة أفندي، ورآه محمد قادما من بعيد، ولم يرنا هو، فأسرع محمد قائلا: «يا نهار أسود، عليوة أفندي! تعال ندخل البيت.»
وطاوعته وأنا لا أدري ما سيفعل، أقفل باب البيت، وكان يوما من أيام حلوان الساطعة الشمس حتى كأنه يوم من أيام الصيف، وقف محمد أمام باب الدخول، وأوقفني معه، ودق عليوة أفندي الجرس، وحين جاء الخادم ليفتح طلب محمد طلبا كأنه هو الذي دق الجرس، ووقف عليوة أفندي أمام الباب، والشمس تنصب عليه بكل سخطها، فيضع الجريدة التي لا يتخلى عنها مطلقا على رأسه، ويدق الجرس ثانية، ويأتي الخادم ويصرفه محمد، ويظل الأمر كذلك فترة تجاوزت نصف الساعة، حتى تمردت أنا على محمد، وأنا أرى عليوة أفندي مصرا على البقاء يرفع قدما إلى الهواء ليريحها، ثم يضعها ويرفع الأخرى، وقد أخذ منه التعب والشمس كل مأخذ، ولكنه أبى أن ينصرف، وأعطانا الدرس.
ناپیژندل شوی مخ