كنا نجلس إلى الشاطئ، البحر تحت أقدامنا، يعدو الماء على أقدامنا وقد يعدو على ملابسنا ونحن من نجوى العيون في حديث يشغلنا عن الماء والبحر، ويرتفع بنا إلى سموات هيهات أن يبلغها سمو.
وكنت إذا انفردت بنفسي، لم أفكر إلا في هذه الأوقات الهنيئة التي جمعتنا، فلا أنشغل عنها إلا بها. كان أبي يعلم ما أنا فيه؛ فنظرته إلي نظرة العالم بشأني، يخيل إليه أن الحب الذي بنفسه هو نفسه الحب الذي عرفه الناس منذ عرف الناس الحب، ويا طالما فكرت، أهذا الحب الذي أحمله هو نفسه الحب الذي عرفه الناس، أم هو أشد عنفا وأعمق جذورا وأبعد غورا، ثم يخيل إلي أن حبي فرد لم يعرفه أحد قبلي ولن يعرفه أحد بعدي.
وبينما أنا في هجعة الأصيل أفكر فيهم تعودت أن أفكر فيه، نادى أبي من حجرته فسارعت إليه، فوجدته يعاني آلاما بدت آثارها على كل نأمة في وجهه، ماذا بك يا أبي؟
سؤال أطلقته وأنا أرى ما به ولا أدري ما أصنع، ولم أجد ما أفعله إلا أن أتركه عدوا إلى الدار المجاورة إلى أبيها أستصرخه أن يغيثنا، وعاد الرجل معي يسارع الخطو ثم يعدو حتى إذا بلغنا أبي وجدناه وقد زاد به الألم حتى لا تكاد شفتاه تبين، تركتهم ونزلت عدوا أبحث عن طبيب وما كدت أجد لافتة تحمل اسم طبيب عليها حتى عدت به إلى المنزل، لم يكن الأمر محتاجا إلى طبيب، وإنما إلى مغفرة الله، لم يقل الطبيب إلا جملة واحدة كانت كل شيء: يرحمه الله.
وداعا أيام الهناء، لقد مات أبي والتقيت لأول مرة بالحياة وحدي، كم هي قاسية عاتية، وكم نلهو في رعاية الآباء، وكم كانت أعباؤها صغيرة بقدر ما نرى من الحياة، تلك الحياة التي يحمل عنا آباؤنا عبئها جميعا، كم يحملون العبء! كم نجهل نحن ما يحملون! لكم فكرت في ضآلة شأني حين طالعت الحياة وحدي، كيف أشكر أبي على ما كان يرده عني من شئون الدنيا، لكم كنت عاقا وإن لم أخالفه يوما. كيف أستطيع اليوم، وقد مات، أن أشكره، وأي شكر يجزي غدق فضله، وسكب خيره وموفور بره، لا، لا شكر يفي.
ذهبنا إلى القاهرة، وأقمنا ليالي المأتم وظل عمي سعد يرعى شأني، كما كان يرعاه أبي، وظل يهديني إلى ما لا أعرف.
ومر بعض الحين، ثم فوجئت بعمي سعد ينقطع فجأة، وانتظرت يومين ثم ذهبت إليه، فإذا الوجه الضاحك أصبح كاشرا، واللقاء الرحب أصبح ضيقا، وإذ بنجوى لا تلقاني، وأسأل عنها فيجيبني أبوها في عنف، إنها مشغولة، وأخرج.
وداعا أيام الهناء، وداعا أحلام الطفولة والصبا والشباب، وداعا، فما الأيام بالأيام التي عهدت، ولا الآمال بمحققة، وإلا فما هذا العنف بعد اللين، وما هذا الجفاء بعد الرقة.
لم أشأ أن أترك الظنون تقودني إلى اليأس، فعدت إليه مرة أخرى في اليوم التالي، فوجدت الجفاء كما تركته في الأمس: عمي، أأخطأت في شيء؟
قال في غلظة: لماذا؟ - أرى عنفا في اللقاء وجفاء في الحديث. - أنت واهم. - فلماذا لا تلقاني نجوى؟
ناپیژندل شوی مخ