لم يكن مفيد يتوقع أن تتم الصفقة على هذه الصورة، فهو سعيد بما ناله من سعادة غامرة، حتى لقد نسي هذا الحديث الطويل عن الأدب ونفسه وما صنعه السوق، ونسي ما كان يرمي به نفسه، بل هو الآن راض عن نفسه كل الرضا يسكب عليها ألوانا من المديح وأفانين من الإعجاب. فإن حاولت نفسه أن تصده عن هذا الغرور ارتفعت يده في لا شعور مأخوذ إلى مكمن الشيك في جيبه، فما هي إلا أن يعود المديح لنفسه والإعجاب بها يملآن عليه آفاق الحياة، فلا يرى من الطريق أمامه إلا الفرح والبهجة والإعجاب والسعادة، ولما كانت هذه الأشياء جميعا لا تغني مع السيارات التي تقطع الطرق وتريد الناس أن ينظروا بعيونهم لا ببهجتهم فقد صدمته سيارة، وصحا من رضائه عن نفسه مسجى بسرير مستشفى وبجانبه ممرضة. - أين أنا؟
سؤال ما أسرع ما تبين غباءه فسارع يقول دون أن ينتظر إجابة: هل الإصابة خطيرة؟ - خير إن شاء الله، حمدا لله على السلامة، دقيقة واحدة أنادي الدكتور.
وجاء الطبيب وفي كلمات قلائل تبين ما حدث له، لقد مرت السيارة على يده اليمنى فأحدثت بها تهشيما في العظام وتهتكا في الأنسجة، والطبيب وحده لا يستطيع أن يقرر ما يفعله، فهو يرسل في طلب كونسلتو ليقرر ما يتخذه إزاء هذه اليد، ويخرج الطبيب ويعود مفيد إلى نفسه، يدي، ماذا يصنعون بيدي؟ لماذا؟ ماذا فعلت يدي؟ ماذا فعلت؟ ويأتي الكونسلتو وتجتمع حول يد مفيد وجوه متجهمة وما تلبث أن تنصرف عنه لتنظر إلى صور الأشعة التي تمثل الحالة التي صارت إليها يده، ويسأل مفيد، ويسأل، فلا تجيبه إلا همهمة تترجح بين الأمل واليأس، ويتركه الأطباء ليختلوا بأنفسهم وطبهم، وليصدروا القرار النهائي على يده. يدي، ماذا فعلت يدي؟ إن آخر ما فعلته يدي هو تسلم هذا المبلغ، خمسة آلاف جنيه، أكنت صاحب حق فيه؟ أي مجهود بذلت لأناله؟ اسمي في السوق وسمعتي ومقدرتي البارعة على إتمام الصفقات، نعم أوهمت الرجل أنني كنت سأكسب عشرين ألف جنيه، ولكن هو أيضا كان يطمع في الربح ولو لم يكن كذلك لما أعطاني هذا المبلغ، كذبت عليه، نعم كذبت ولكن هل يعرف السوق إلا الكذب؟ لو لم يكن مقدرا لنفسه ربحا يزيد عن عشرين ألف جنيه لما أعطاني هذا المبلغ، ولكنني كذبت، غالطت ضميري، أين ضميري؟ ألم أقل إنني فقدته منذ زمن طويل؟ منذ نزلت إلى السوق، كان آخر عمل تدخل فيه ضميري هو تحولي عن الأدب وإبائي أن أبشر بالفضيلة وأنا غارق في الرذيلة، ولكن، ألم تكن يدي هي التي كتبت ما كتبت من أدب؟ وكنت أدعو إلى الأخوة والحب والتسامح والسعادة، ثم بعد، أصبحت من رجال الأعمال فالحياة أصبحت عندي لا شيء إلا أن أكسب، أصبحت يدي التي كانت تعمل للناس جميعا، الناس في كل العالم، الذين أعرفهم والذين لا أعرفهم، الذين يقرءون والذين لا يقرءون، أصبحت يدي هذه لا تعمل شيئا إلا أن تضع في جيبي نقودا، أصبحت فائدتها الوحيدة أن تجعلني غنيا، دون حتى أن تفكر في سعادتي، كنت سعيدا بيدي وهي تكتب للناس، ألم أكن سعيدا وهي تكسب لي أموالا؟ قدمت بها الرشاوي، حطمت بها ضمائر الناس، ما لي ولهم، لقد كانوا على استعداد لبيع ضمائرهم لأي مشتر، فما البأس بي أن أشتري بضاعة معروضة في السوق، وأصبح غنيا، وألقى الأمن على مستقبلي ولكن أترى أحسست بهذا الأمن؟ أبدا، كلما زادت ثروتي زاد خوفي من المستقبل، مخيف هذا المستقبل لمن يكسب مالا، فقدت ضميري وقلمي، و... و... لا، لا أريد أن أفقد يدي، إنها لم تصنع شيئا تستحق من أجله أن ... أن ... أخاف أن أقول الكلمة، أتراهم يحكمون عليها بالبتر؟ أنا لم أسرق، ما لهم لا يعودون، إن بقيت يدي عدت للكتابة، أتراني أصلح اليوم أن أكتب؟ أبشر مرة أخرى بالسعادة والأمن، الأمن من داخل نفسي لا من خارجها، الأمن من القلوب لا من المال، هذه القلوب الواجفة الهالعة التي تطير شعاعا من الخوف والتي ترمي بنفسها إلى مستقبل الأيام ارتماء يائسا مذعورا أتراني أستطيع أن أقول لها إن أمنك في ذاتك لا في خارجك، وحريتك من داخلك لا يجرؤ إنسان أن يعدو عليها حتى تقبلي أنت أن تتخلي عنها؟ فما عرف الأمن إلا في ظل الحرية وما عاشت الحرية إلا في ظل الأمن، هل أستطيع أن أقول هذا للناس، إن بقيت يدي أقول ... أقول ... ولكن هل تبقى يدي، ولكن، إني أستطيع أن أقول حتى لو فقدت يدي، الأمن يشيع في نفسي، حريتي عادت إلي، فليقطعوا يدي فسيبقى لي أمني وحريتي وحبي للناس وسأستطيع أن أقول بلساني وإن لم فبقلبي وسيفهمون، فما سمع الناس حديثا أوضح من حديث صادر عن قلب، سأقول، وسأكتب وسيفهمون.
ودخل الأطباء وعلى وجوههم هذا القناع من الجمود الذي ألقاه العلم على وجوههم منذ أصبحوا كبارا وفوجئوا بمفيد يقول في مرح: اضحكوا أيها الأطباء، مهما يكن قراركم فهو أقل قبحا من هذا الجمود على وجوهكم، لا، أنا لم أجن ولكنني عدت إلى الأمن، وإلى الحرية، إلى نفسي.
على رغم الأيام
وشاعت ابتسامة حلوة في وجهها ثم أقفلت الكتاب دون أن تعنى بثني الورقة التي كانت تقرؤها.
على مقربة قريبة من قريتنا تقع قريته، وقد تعود أن يقيم بقريته أكثر أيام العام لا يمل منها ولا يضجر، وهو من تلقى علومه بإنجلترا. وهو مني بمثابة العم في القرابة والسن معا، فهو في آخر الحلقة السادسة من عمره. عهدته منذ بدأت أتبين الأشياء فضي الشعر في جمال فكان يخيل إلي حين يداعب الهواء شعره أن شعره موجات صغيرة من الفضة تتجاوب مع النسمات التي تتواكب إليه، وعهدته منذ تبينت الأشياء أنيقا لا تتخلى عنه الأناقة أبدا، فهو أنيق بمعطفه الأبيض وجلبابه الحريري الذي يلبسه في صيف القرية، وهو أنيق بمعطفه الصوفي وجلبابه الذي يتخذه في الشتاء، وهو أنيق غاية الأناقة إذا قصد القاهرة فهوي يرتدي من الحلل أحسنها وأبدعها ذوقا، يصاحبها رباط العنق من أغلى طراز والجورب المنتقى بأجمل عناية، لا تستطيع حين تلقاه في القاهرة إلا أن تذكر لوردات الإنجليز الذين ربي بينهم.
عاد إلى القاهرة في أول الحرب العالمية الأولى وتولى الإشراف على أرضه وأرض إخوته، ولم تكن مساحة الأرض كبيرة، ولكنه كان لا يتركها أبدا، ويتولى زراعتها بنفسه، يجد في ذلك لذة لا تدانيها لذة، وقد حاول إخوته منذ عاد أن يزوجوه، ولكنه كان يرفض دائما دون أن يبدي لرفضه سببا. وإنما هي لا قاطعة، أو لا لطيفة رقيقة شأن أحاديثه جميعا، ولكنها لا دائما، وبلا سبب.
كنت أقصد إليه كلما ذهبت إلى القرية. وكنت آخذ رأيه في المسائل الزراعية التي أحتاج فيها إلى رأي. وقد كان رأيه دائما مدعما بالعلم والتجربة معا، فدراسته في إنجلترا كانت زراعية وطول عهده بالأرض زوده بالكثير من التجارب البصيرة، وقد سألته في يوم: لماذا لم تتزوج؟
فنظر إلى الأفق البعيد وبدت على شفتيه الرقيقتين ظلال ابتسامة حنون، ثم قال: غافلتني السنون فوجدت نفسي حيث لا أستطيع الزواج. - ولماذا كنت ترفض؟
ناپیژندل شوی مخ