عادت البهائم بعد أن دفعت الفدية، ولكن نفس سعد الله لم تكن قد شفيت من محمد العضل الذي ظل فترة طويلة يتجاهله، ونفس مسعود أيضا لم تكن قد شفيت من الهوان الذي لقيه خمسة عشر عاما على يد متولي العضل. فما هي إلا أيام قلائل أخرى حتى ذهب سعد الله ومسعود إلى محمد العضل وقد أبى سعد الله أن يصحب أحدا آخر من أفراد عصابته فما كان محمد العضل جديرا بغير اثنين وإنهما لكثير، وحين بلغ الاثنان مكان محمد وجدا إلى جواره رجلين آخرين يرقبان جملين لهما يرتعيان فقال سعد الله: لقد تضاعف الصيد.
ودون أن يكلف نفسه عناء استعمال البندقية المعلقة على كتفه تقدم إلى الرجلين وطلب إليهما أن يسلماه جمليهما ففعلا صامتين. وأمسك مسعود بزمام الجملين وتقدم سعد الله إلى محمد يطلب إليه البهائم ونظر إليه محمد نظرة حسيرة ثائرة، هذا الهوان الذي لا هوان مثله، أمرتين في أيام قلائل؟ أيكون هذا إلا تحديا؟ وقبل أن يجيب؟ بل وقبل أن يمعن التفكير وجد نفسه يرفع الفأس في ثورة مجنونة ويهوي بها على سعد الله، وفي لمحة خاطفة كان واحد من صاحبي الجملين قد هوى على مسعود فجرده من سلاحه ثم انهال عليه ضربا، ولم تمض لحظات حتى كان سعد الله ومسعود خبرا مضى، وجثتين يتولى أمرهما النهر الصغير الذي يروي قرية المهدية فيما يروي.
وأدهش القرية هذا الهدوء الذي ران عليها بضعة أيام، ثم ما لبثت دهشتها أن زالت يوم أعلن موت سعد الله ومسعود، ولكن دهشة أخرى صغيرة كانت تنتظر القرية، لقد أصبح محمد العضل تقيا لا يترك فرضا أو سنة، ولا تني شفتاه عن التمتمة وأصابعه عن تحريك حبات المسبحة. ولو قدر لأحد أن يسمع حديثه إلى الله لما سمع منه إلا أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر ...
طوق حول العنق
وقرأت خطابها على أمين، ولم يصدق أمين أذنيه، أصحيح ما تتلوه عليه زوجته، أحقا يتحقق الأمل؟
وكيف لا يحبها فيبلغ حبها أقصى غايات الحب، وكيف لا تحبه فتفنى فيه وترى الدنيا فلا تراها إلا من خلال عينيه، تلتقي بالحياة فلا تلتقي بها إلا من خلال نفسه.
إنها هواه القديم الجديد، إنها هواه الطفل وهواه الفتى وهواه الشاب، إنها حياته.
وإنه هوى الأيام الخالية من الطفولة وهوى الأحلام الغريرة من الشباب، وإنه هوى المستقبل النشوان الضاحك الجذلان.
تعارفا في المهد وقد جمعت بينهما أخوة تجمع بين أميهما وصداقة تجمع بين أبويهما، وتعارفا في ذلك السجن الصغير من الطفولة، وذلك الملعب الذي تحيط به الأمهات أطفالهن أن تقودهم الخطوات الجاهلة إلى سلم لا يرحم الطفولة، أو تقودهم هذه الخطوات إلى مقتنيات في البيت غالية لا ترحمها الطفولة القاسية، لعبا في ذلك السور الصغير الذي كان يحيط بهما، وما لبث هذا السور أن أصبح حجرة ثم نما معهما فكان فناء ثم نما ونما فكان الحياة.
استقبلاها أول أمرهما لهوا ولعبا ونظرة إلى المستقبل مشرقة الابتسام ونظرة إلى الماضي ندية الحنين. لم يخطبها أبوه ولم تخطبها أمه؛ فقد كان زواجه بها أمرا مقررا معروفا، الكلام الرسمي فيه يضفي على حقيقته وواقعه شكا، وما كان هناك شك كان يعرف أنه سيتزوجها كما يعرف أنه ذاهب إلى كلية الهندسة، وكانت تعرف أنها ستتزوجه كما تعرف أنه لا بد لكل فتاة أن تتزوج.
ناپیژندل شوی مخ