وظل الخلاف بين الثورة والجماعة على مستوى القيادة، وعندما طلب المرشد العام للجماعة ألا يصدر أي قرار من الثورة بدون موافقة الجماعة عليه أولا، رفض عبد الناصر وكان من مجموعة الضباط الأحرار.
وازداد التوتر بين مجلس قيادة الثورة والجماعة حين أزيح الضباط الإخوان من تنظيم الضباط الأحرار، ثم أزيح نجيب من رئاسة الجمهورية.
وتفجر الخلاف حين عقد عبد الناصر معاهدة الجلاء مع بريطانيا في مارس 1954م والتي كانت تنص على انسحاب القوات البريطانية من قناة السويس والتل الكبير، وتعود إلى مصر في حالة «الضرورة القصوى». وهي عبارة في الفكر السياسي تعني عودة الاحتلال.
قامت المظاهرات من الجامعة بسبب ذلك تنادي بسقوط المعاهدة، ووزعت الجماعة نقدا مكتوبا لبنود المعاهدة.
وشاركت في هذه المظاهرة، ليس حبا في الجماعة، ولكن خوفا من عودة الاحتلال.
وأطلقت النيران على المظاهرة، وكنا فوق كوبري الجامعة، فقتل طالبان على الفور، كان عبد الناصر وزيرا للداخلية، وهو الذي أمر بإطلاق النار؛ فتفرقت المظاهرة، ثم تجمعت في ميدان عابدين مرة أخرى، ورفع عبد القادر عودة قميصي الطالبين المخضبين بالدماء قائلا: «انظروا ماذا فعلوا؟» جرى باقي الطلاب إلى ميدان التحرير، حيث مركز الحركة الوطنية؛ فاختبأ بعضهم بفندق سميراميس المجاور للميدان، وكنت أنا منهم، وظل الجو متوترا بين الجماعة وعبد الناصر حتى يوليو 1954م. وأثناء إلقاء عبد الناصر خطبته من شرفة مبنى بورصة الإسكندرية في ميناء المنشية انطلقت عليه رصاصات من الجمهور في محاولة لاغتياله، لم تصبه، وأكمل عبد الناصر خطبته قائلا: «فليقتلوني ولكني لن أتخلى عن الثورة.» وقبض على الشاب الذي أطلق الرصاص، وكان من الإخوان من شعبة إمبابة، كما قبض على زملائه الخمسة، الذين دبروا هذه المحاولة، فقدموا للمحاكمة، وأعدموا، كما أعدم عبد القادر عودة. لم يصدر مكتب الإرشاد قرارا بالاغتيال، ولكن الفكرة كانت تدور في الأذهان؛ فأخذت شعبة إمبابة القرار والقيام بالتنفيذ دون أن يصدر لها الأمر بذلك.
وحلت الجماعة كما حلت باقي الأحزاب في مصر من قبل، ولم تبق إلا هيئة التحرير، حزب الثورة، ولم تجد قادة ولا جماهير لها، بل كانت مجرد اسم يملأ به فراغ الأحزاب والجماعات.
كان نجيب محبوبا في القلوب لدفاعه عن الديمقراطية، وكان عبد الناصر مكروها لطغيانه واستبداده، حتى أتى تأميم قناة السويس في يوليو 1956م فتحول إلى بطل قومي، ونسي الناس نجيب وهو في الإقامة الجبرية.
وبدأ العدوان الثلاثي على مصر في أغسطس 1956م. وكنت قد غادرت إلى فرنسا في نفس الشهر، وكنت أبكي وأنا أزور متحف اللوفر وبه قسم كبير عن مصر الفرعونية. واجتمع الطلاب في السفارة المصرية مطالبين بالعودة إلى مصر للدفاع عنها، فأخبرهم السفير أن في مصر رجالا يستطيعون الدفاع عنها، أما الطلاب فمهمتهم استكمال دراستهم ليخدموا مصر بعد عودتهم.
وأثناء دخولي لأحد المطاعم الجامعية في فرنسا، سمعت شابا يتكلم العربية بلهجة غير مصرية، ففرحت بلقاء عربي، وسألته من أين هو؟ قال: «من السعودية.» ولما كنت في ذلك الوقت ناصريا إلى أقصى درجة ومؤيدا لعبد الناصر في قرار إرسال الجيش للدفاع عن الثورة في اليمن ضد الإمام الذي كانت تساعده السعودية خشية من انتشار الثورة والوصول للسعودية، قلت للشاب السعودي: «إن شاء الله تقوم الثورة في السعودية وتلحق بالثورة العربية.» لم يعجبه الكلام ونظر غاضبا وقال : «ولماذا؟» ثم انبرى بالدفاع عن النظام الملكي في السعودية. فعرفت أن الناس على أديان ملوكهم، وأن خطئي هو التصور أن العرب كلهم ثوريون، وأن الجمهورية هو النظام القادم الأفضل. ولم أكن أعلم أن الخيال شيء، وأن الواقع شيء آخر.
ناپیژندل شوی مخ