لم يكن لي دخل؛ لأنني لم أعين بعد في الجامعة، وحدث ذلك بعد عام كامل؛ فاضطررت أن أقترض مبلغ مائة جنيه من صديق لي أستاذ في دار العلوم كان يدرس في إسبانيا وتعرفت إليه في باريس حيث زارني. وأعدتها إليه بعد عامين، واضطررت أن أكتب عدة مقالات في المجلات الثقافية التي كانت تصدر في ذلك العصر؛ مجلة الفكر المعاصر، المجلة، الكاتب، والطليعة.
وكان دخلي من مقال المجلة الأولى اثني عشر جنيها، ومن الثانية عشرة جنيهات، ومن الثالثة ستة جنيهات، ومن الرابعة أربعة جنيهات. وكان دخلي الشهري ما يعادل مرتبي لو كنت عينت بالجامعة.
وخشي علي أحد الأساتذة أن أتحول إلى صحفي وأترك الجامعة كما حدث لأحد مشاهير الصحافة؛ فبددت خشيته بأن ذلك النشاط مؤقت حتى أستطيع أن أعيش، فقرر أن يعينني بالجامعة بلا إعلان، وكانت العادة الإعلان في الصحافة عن المنصب فيتقدم إليه الكثيرون، ثم تختار الجامعة الأفضل، ولكن الإدارة الجامعية رفضت؛ لأن ذلك ضد القانون. لم تكن هناك درجة خالية بالقسم، ولا بد من نقلي لدرجة خالية من قسم آخر، ثم موافقة مجلس الكلية، ثم مجلس الجامعة، ثم وزير المالية، وقد تأخذ تلك الموافقات عاما بأكمله، والآن يتم نقل درجة من قسم لآخر بموافقة مجلس الكلية فقط دون هذا الطريق الإداري الطويل.
وقد جمعت هذه المقالات فيما بعد في جزأين من كتاب «قضايا معاصرة»؛ الجزء الأول، في فكرنا العربي المعاصر، والثاني، في الفكر الغربي المعاصر.
وطلبت من أخي أن يوقف إعانته للوالدين بعد تعييني بالجامعة وأنني سوف أتكفل بجهاز شقيقتي الصغرى بعد أن تكفل هو بتجهيز شقيقاتي الثلاث الأكبر منها.
كان مرتبي ثلاثين جنيها، أعطي نصفها لوالدي ووالدتي؛ لأنني أقيم معهما، والنصف الآخر قسط لجهاز شقيقتي الصغرى، وكنت أعيش من دخلي الآخر من كتابة المقالات، وظللت على ذلك الحال حوالي أربع سنوات من 1966-1970م.
وبمجرد انتهاء القسط الأخير لجهاز شقيقتي الصغرى، سمع أهل خطيبتي بوجود شقة للإيجار في شارع الحجاز بمصر الجديدة، تطل على الميدان؛ فذهبت وأجرتها حيث كان أجرها زهيدا؛ أحد عشر جنيها في الشهر. ولما علم صاحب الشقة أن العروسين شابان في أول حياتهما لم يطلب «خلو رجل» بل ترك لنا أسبوعين مجانا إذا ما احتاجت الشقة إلى طلاء جديد أو إعداد، وكانت شقة واسعة جميلة.
في يوم استدعاني مالك العمارة وطلب النصح فرحبت بذلك، عرض علي أن أخاه قد قتل غيلة في شبرا البلد وأن عائلته تطالبه بالثأر والقصاص، بأن يقتل قاتل أخيه وإلا كان جبانا. وسألني: «فما العمل؟» نصحته بألا يفعل ذلك؛ فهناك قانون يأخذ حق القتيل بمحاكمة القاتل، والحكم عليه بالسجن المؤبد على الأقل. فاتهمته أسرته وأهل قريته بالجبن والخوف، وكان محاصرا بين رأي أهل القرية فيه والنصيحة التي قدمتها له واتبعها . فمات كمدا بعد شهرين، فحفظت للرجل جميله، وعندما تركت الشقة بعد ربع قرن من إقامتي فيها وكانت الخلوات قد زادت بعشرات الآلاف رفضت أن أستلم أي خلو من عائلته تقديرا له وعرفانا بجميله.
وعندما تعرفت على زوجتي الحبيبة أردت أن أتقدم لأهلها لخطبتها والزواج منها، كنت مطالبا بالشبكة والمهر، وأنا لا أملك شيئا؛ فترجمت كتابا ل «اسبينوزا»، «رسالة في اللاهوت والسياسة»، وراجعه صديقي فؤاد زكريا، ثم ذهبت إلى الهيئة العامة للكتاب حيث قابلني رئيسها محمود الشنيطي وأبلغته أن أجر هذا الكتاب هو مهر زواجي، وكان يعرف زوجتي من الجامعة الأمريكية حيث كانت تعمل أمينة لمكتبة الخدمة العامة، وكان هو المشرف على المكتبة، ورجوته أن يعطيني الأجر بسرعة قدر الإمكان؛ فأعطاني أربعمائة جنيه قبل إصدار الكتاب، وقدمته كله مهرا لخطيبتي، أما الشبكة وكانت دبلتين من الذهب الأصفر المقلد وكان ثمنها ثلاثة جنيهات، وأقمنا حفلا بسيطا في منزلها، حضره أساتذة قسم اللغة العربية حيث تخرجت، وحضره أهلي بالطبع، وتعرفوا على خطيبتي لأول مرة، وبعد الحفل كان علي أن آخذ خطيبتي للسهر في مكان ما لدعوتها للعشاء، ولم يكن في جيبي مليم واحد؛ فأخذت من زوج شقيقتي دكتور العظام ما معه، وكانت خمسة جنيهات لم أردها حتى الآن. وسهرنا أنا وخطيبتي ليلتها في كازينو بارزيانا في أول شارع الهرم، وكان عشاء راقصا.
وكان علينا أن نعد الجهاز استعدادا للزواج بهذا المبلغ الضئيل الذي معنا؛ فاشترينا «أنتريه» من شارع النزهة بحوالي مائة جنيه، وصالونا من شارع رمسيس بحوالي مائة جنيه أخرى، وغرفة نوم بحوالي مائتي جنيه من شارع محمد محمود أمام الجامعة الأمريكية وسط البلد، وأصر صاحب المحل على أن ثمنها مائتا وعشرون جنيها. وظلت المفاوضات لمدة شهر تقريبا حتى استطعنا شراءها بمبلغ مائتي وعشرة جنيهات. وتزوجنا دون غرفة طعام، وظلت الغرفة فارغة لمدة عام كامل، حتى استطعنا تدبير مبلغ بسيط يعادل المهر تقريبا. وكانت زوجتي الحبيبة في فترة راحتها من عملها بالجامعة الأمريكية تسير في شارع سليمان باشا وتنظر في واجهات محلات الأثاث حتى وجدت غرفة طعام جميلة مذهبة بمبلغ ثلاثمائة وخمسين جنيها. فدخلت وحاولت المفاوضة والفصال وخفض الثمن، ولكن صاحب المحل رفض، فأخذناها، فاكتمل جهاز المنزل.
ناپیژندل شوی مخ