أما البوابون فكان جميعهم من الصعيد، وكانت الوظيفة بالنسبة للبواب مجرد مظهر، كان ينظف عربات سكان المنازل، ويقضي حاجاتهم من الأسواق، فيأخذ ضعف المرتب أو الثلاثة أضعاف، وكانت زوجاتهم تعملن عند السكان في النظافة. يأخذ أحدهم أجر الجرائد الأسبوعية، ولا يسلمها لصاحب الكشك حتى أتى يشتكي أن علي ديون شهرين! وسرق سيراميكا من تحت السلم، وكان يقترض ثم يقترض على الاقتراض، ثم عمل عند غيري لمدة شهر سايس عربات، ثم غادر إلى بلدة سوهاج.
وبائع الجرائد الذي كان يفرشها على الرصيف في كل مناسبة يأتي لطلب الإكرامية، وليس فقط العيدين، ويضيف نصف شعبان، ليلة القدر، أول السنة الهجرية، عيد ميلاد المسيح. طلب سلفة ثم سلفة يدفعها من ثمن الجرائد الأسبوعية، وغالط في الحساب أكثر من مرة، فغيرته إلى آخر أكثر أمانة، وأكثر تعليما. وكان يأتي عمال النظافة والصرف الصحي لطلب مبالغ كبيرة ليزوجوا أولادهم وبناتهم، ثم عرفت أنهم كاذبون. فهل هو الفقر؟
ومرة أخرى سمعت عن طبيب يذهب إلى كبار السن في منازلهم ويكشف عليهم ويعالجهم بخمسمائة جنيه للزيارة للفرد، فاستدعيته وأنا في المنزل، وأخذ ألف جنيه، وكتب أدوية أعرفها من قبل، ولم أره بعد ذلك. وقال إنه يحب المال، فكنت ضحية عدة مرات، واعتبرت ذلك من جانب التعلم.
وكما تحكي القصص والروايات عن العلاقة المتميزة بين الطالبة والأستاذ، وكما هو الحال في فيلم «غزل البنات»، بين ليلى مراد ونجيب الريحاني، كانت هناك طالبة شقراء تدور حولي منذ السنة الثالثة، لم تظهر علما، ولم تسأل سؤالا، وفي الدراسات العليا ظلت صامتة، وظلت تلاحقني في كل خطوة بالمشروب البارد أو الشيكولاتة حتى في معرض الكتاب. ولم ينقطع تليفونها يوميا حتى تساءلت زوجتي: ما الخبر؟ وسجلت معي رسالة عن «الزمان والسرد عند بول ريكير»، وهو موضوع صعب. وفي إحدى رحلاتي إلى الخارج أحضرت لها ترجمة إنجليزية للكتاب موضوع الرسالة، وبعد مدة جاءتني برسالة كلها شرح
للكتاب. استغربت! كيف عرفت ذلك كله؟ ومتى قرأت؟ ومتى فكرت؟ يبدو أن أحد الزملاء قد قام بذلك نيابة عنها وأعطته بعض المال، وربما قام بذلك مكتب من مكاتب بين السرايات المتخصص في كتابة الرسائل نظير كثير من المال. وظلت تعطيني هدايا، دبوس ذهب لا أعرف أين هو الآن، ورابطة عنق. ولما رأيتها مرتبطة بي إلى هذا الحد أعطيتها صوري في ماليزيا وإندونيسيا مع الطلبة، وصورا أخرى لا أذكرها، واشتريت ألبومين، وطلبت منها أن ترتب هذه الصور بالمئات في هذين الألبومين، فأخذتهما مع كيس الصور وعينيها تبرقان. لم أفهم ذلك إلا بعد أن سألتني: متى ستأتي إلى المنزل؟ لم أفهم القصد إلا مؤخرا؛ أي متى تطلبني من أبي؟ وكان أخوها نجما في الحزب الوطني، ويتطلع إلى المزيد. أحضر إلي صناديق من المانجو رصها في عربتي، لا أذكر كم صندوقا، فظننت أن الأسرة كريمة ومضيافة، ولها مزارع في الفيوم. وكانت الطالبة تسألني عن خطابها، المهندس وغيره، وأنا أنصحها بألا تقبل إلا المثقف الذي يفهم طبيعة عملها في الدراسات العليا. وبعد ذلك سمعت أنها ذهبت إلى قسم الفلسفة متنازلة عن الرسالة، وتشتكي من الأساتذة الذين يغرون الطالبات، وغيرت الطالبة رقم تليفونها، ولم أرها حتى الآن. ولما كنت حريصا على صوري التذكارية طلبت زوجتي من والدتها أن ترجع ابنتها صور الأستاذ، فإذا بالأم تطلب أن أدفع عشرة آلاف جنيه تكاليف مصاريفها في الدراسات العليا! وكادت زوجتي أن تسبها. يبدو أن التخطيط كان بين الطالبة وأمها على أن تستدرجني للزواج، وأنا قاربت الثمانين، والطالبة في العشرينيات، وعيناها على البيت العربي الذي بنيته خمسة أدوار لأولادي الثلاثة ودور للسكن ودور كمركز للدراسات السينمائية لزوجتي والنصف الآخر للدراسات الفيدرالية لابني الكبير حازم، وهو تخصصه في الماجستير. وسأكتب في وصيتي رجاء لها أن تعيد الصور وأضعها في مكتبتي لأنني سأحولها ربما إلى متحف للزيارة وقد سميتها «المكتبة الفلسفية المتخصصة».
ووسط هذا الهدوء وهذا السكون السياسي انهار برجان بنيويورك بفعل طائرة اصطدمت بهما. وسقط رمزان من رموز الإمبراطورية الأمريكية، وهما ناطحتا سحاب، وانهار البناءان، وتصاعد الدخان والأتربة. وبدأت أصابع الاتهام توجه إلى القاعدة وبن لادن الذي اغتالته الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنوات، وألقت بجثته في المحيط حتى لا يعرف له أثر، وبدأت تفكر في الانتقام لنفسها لاسترداد هيبتها، فوجدت حجتها في حصول العراق على السلاح النووي، وهذا ضد قرارات الأمم المتحدة. وبدأ العدوان 2003م من الجنوب والشمال والوسط بالبوارج الحربية والقوات الأرضية بمساعدة المياه الإقليمية لبعض الدول العربية، والقوات الجوية، بحجة البحث عن أسلحة الدمار الشامل، واحتلت العراق كلها، واستشهد الآلاف. وتم البحث عن صدام فوجدوه في مغارة تحت الأرض، وعقدوا له محاكمة صورية، يعرف حكمها قبل أن تبدأ. ووقف صدام في المحاكمة متحديا قضاته إلى أن حكموا بالإعدام شنقا، ونفذ الحكم في وقفة عيد الأضحى، وكأنه ضحية، يدفع العرب ثمنها من الإهانة والتحقير. وكان صدام قد اعتدى على إيران بدعوى تحرير الأهواز حيث تقطن أغلبية عربية كما يقطن في شرق الخليج خاصة في البحرين أغلبية شيعية، وضحى بالآلاف، ولم ينضم عرب الأهواز إلى العراق بل ظلوا على هويتهم الإيرانية، ثم اعتدى صدام على الكويت بدعوى ضم المناطق البترولية التي عليها خلاف، ودخل الكويت لعدة أشهر سالبا ناهبا.
وانتفضت الجامعات ضد العدوان الأمريكي على العراق، واستمرت عدة أسابيع حتى توقف العدوان. وبدأت الحركات الوطنية تطالب بانسحاب المعتدي، وحكم العراق أمريكي واستولى على أموال النفط، وترك وراءه حكومة تابعة للولايات المتحدة الأمريكية. وأثار العدوان ضجة، وتركت مصر العراق دون أن تتحرك، وإذا تحركت ففي الاتجاه المضاد، استعمال مياهها الإقليمية لمساعدة القوات الأمريكية في إطلاق صواريخها على جنوب العراق. وظهر مخطط تقسيم العراق إلى ثلاث دول: شيعية في الجنوب وعاصمتها كربلاء، المدينة المقدسة. ووسطها السنة وعاصمتها بغداد، عاصمة العباسيين. وشمالها الأكراد وعاصمتها كركوك. وتدخلت إيران بقواتها لمناصرة شيعة العراق، وبدأ تنفيذ مخطط التفتيت في المنطقة، والقضاء على الدول الوطنية وتحويلها إلى دويلات طائفية؛ سنة وشيعة، وعرقية؛ عرب وأكراد، بداية بالعراق، ولا نهاية له إلا في مصر التي استعصت على التفتيت نظرا لوحدتها منذ الملك مينا موحد القطرين، الشمال والجنوب حتى الملك فاروق، ملك مصر والسودان، وقول النحاس باشا: تقطع يدي ولا أفصل مصر عن السودان، حتى عبد الناصر، زعيم القومية العربية.
ثم ظهرت بارقة أمل عندما نشبت حرب بين حزب الله وإسرائيل عام 2006م، وطالت صواريخ حزب الله تل أبيب وبعض المدن الإسرائيلية الأخرى، ورفعت صور جمال عبد الناصر بجوار صور حسن نصر الله. وأيقظت الحرب في العرب روح النصر وإمكانياته وتكرار حرب 1973م من جديد، بين حزب ثوري ودولة مغتصبة أرض العرب، ثم غير حزب الله وجهه بانضمامه إلى الأسد ضد الثورة الشعبية السورية في 2011م بالربيع العربي. وانضمت إليه إيران التي كانت أول من أشعل الثورات في المنطقة في فبراير 1979م، انضماما إلى الحكم الطائفي العلوي؛ فكان لحزب الله وجهان. الأول ثوري ناصري ظهر في 2006م، ووجه طائفي علوي ظهر في 2011م.
وهدأت الأمور من جديد، وظل السؤال يدور في ذهن الجميع: إلى متى يبقى هذا النظام في سوريا ومصر؟ وقد بقي حوالي ثلاثين عاما وما زال يريد أن يستمر، إما عن طريق الأب أو عن طريق الابن عن طريق التوريث، ولا الجيش ولا الشعب قابل له. وبدأت الروايات عن نهب أموال مصر من الرئيس ونجليه بل وامرأته وصحبه، وتهريبها إلى الخارج بالمليارات. وكما كان الشعار في الجمهورية الثانية التي انقلبت على الناصرية «الرأسمالية ليست جريمة» أصبح الشعار «الفساد ليس جريمة». وكما قال الشاعر:
إذا كان رب البيت بالدف ضاربا
ناپیژندل شوی مخ