وقد تكون هذه الذكريات تعبيرا عن كتابه «المادة والذاكرة». وقد يكون تحليلي للشعور من آثار رسالته للدكتوراه «المعطيات البديهية للوجدان». وقد تكون أفكاري عن الحركة مثل كتاب «الفكر والمحرك». وأخيرا قد تكون عزلتي عن أجهزة الإعلام أثرا مما فعل برجسون الذي كان لا يخاطب الإعلام أو يعطي حديثا صحفيا خشية من أن يأخذ الناس كلامه الإعلامي ولا يقرءون كتبه.
وقبل المناقشة، أحسست بعيوب الرسالتين وأوجه النقص فيهما وبالرغبة في إعادة كتابتهما، وقد يحتاج ذلك إلى عشر سنوات أخرى، وصممت على المناقشة بالحالة الراهنة للرسالتين، وبعد العودة إلى مصر أقوم بإعادة كتابتهما بطريقة أفضل. فليس في حياتي عشر سنوات أخرى أقضيها بالخارج، وأنا أريد العودة إلى وطني، وتأسيس جماعة علمية في الجامعة، تنقل الرسالة إلى جيل آخر، كما أنقل رسالتي إليهم الآن، وكما أخذت الرسالة من أساتذتي في مصر لأنقلها إلى جيلي هذا.
وكان لي صديق هو رشدي راشد، خرج معي من مصر إلى فرنسا في نفس العام، اهتم بفلسفة العلم ثم بفلسفة الرياضيات، وأصبح باحثا في المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا. تجادلنا أنا وهو؛ أريد الرجوع إلى مصر ولو نصف عالم وأكمل النصف الآخر في وطني، كي أبدأ الزرع وأرى الحصاد في حياتي، وهو يرى ألا يعود إلى مصر قبل أن يكون عالما كاملا وليس نصف عالم. قلت له: «قد يستغرق ذلك العمر كله كي يكون الإنسان عالما كاملا، والعلم لا نهاية له، في حين أن العمر له نهاية، فلنبدأ الزرع معا حتى يأتي الحصاد.» وأصر على البقاء في فرنسا. وما زال فيها، وأصبح من كبار العلماء في تاريخ الرياضيات، وحاول أن يقيم معهدا لتاريخ العلوم في مكتبة الإسكندرية في إدارتها السابقة، ولكن شيئا لم يتم؛ فالسفينة لا تسير دون ربان، ونحن الآن في نهاية العمر وقد تجاوزنا الثمانين، ولا أدري إذا كان سيرجع يوما أم سيبقى حصاده في فرنسا والعالم.
وبعد العودة إلى مصر أعطيت درسا في الفلسفة المسيحية للسنة الثانية. وكان لا يريدها أحد من الزملاء، وهو العام الذي صدرت لي فيه نماذج من الفلسفة المسيحية «المعلم لأورسطين»، «أومن كي أعقل» لأنسيلم، «الوجود والماهية» ل «توما الأكويني». وصدر في الإسكندرية بمساعدة علي سامي النشار، وكان أهم شيء في الدرس هو قراءة النصوص ومعرفة اتجاهات الفلسفة المسيحية وفلسفة الدين بوجه عام. وعندما أرادوا دفع مكافأتي آخر العام طلبوا موافقة جهة العمل، وأنا لا أعمل! وطلبوا مفردات المرتب، وأنا لا مرتب لي، لم يعرفوا كيفية تحديد مكافأة العام. وأخيرا أعطوني مكافأة المدرس عندما تم التعيين مدرسا بالكلية.
وفي العام الذي يليه درست علم الكلام للسنة الثانية مع الفلسفة المسيحية والفلسفة الحديثة للسنة الثالثة، مركزا على اسبينوزا للسنة الثالثة، وفلسفة التاريخ والفكر العربي المعاصر للسنة الرابعة. وهما مادتان جديدتان في القسم، أدخلتهما لإكمال مواد السنة الرابعة، واستمر الأمر كذلك منذ سنة 1967-1971م وهو عام السفر لأمريكا أستاذا زائرا.
وأنا في مصر قبل سفري الأخير أحسست بالغيرة والحسد من هذا الأستاذ الشاب الجديد الذي يستطيع تدريس عدة مواد في تخصصات متعددة. وكنت أملأ الدرس بربط الفكر بالوطن بعد الهزيمة، فعرفت محاضراتي. وكان يأتي الطلاب لسماعها من كليات الحقوق والتجارة والعلوم والهندسة الذين أصبحوا فيما بعد أساتذة وعمداء ورؤساء جامعات.
وفي أمريكا عبرت عن مواقفي الفكرية الوطنية في علم الكلام الجديد الذي يربط الله بالأرض والحرية والناس؛ فأتاني طلاب كثيرون؛ مسلمون أمريكيون، أفارقة، يستمعون إلى هذا الإسلام الجديد. وكنت أقوم بنفس الشيء خارج الجامعة عندما أدعى إلى ندوات أو مؤتمرات علمية؛ فانزعج المحافظون واعتبروني علمانيا ملحدا، بل وكافرا، في حين اعتبرني الطلبة المسلمون الأمريكيون الأفارقة أنني مسلم وطني أدافع عن مصالح المسلمين. كانت جامعة تمبل على حافة الحي الأمريكي الأفريقي، وعرف الطلبة المسلمون الأمريكيون الأفارقة مكاني، وكان منهم أنصار «الإسلام الأسود» و«القوة السوداء». وعرفوا أن العنف ليس هو الطريق الوحيد لنيل الحقوق، بل يمكن ذلك عن طريق الحوار والجدل والبرهان. ونشأ أنصار مالكولم إكس الذي خرج عن جماعة «الإسلام الأسود» ينادي بحقوق المسلمين الأمريكيين الأفارقة مثلي، فكثر أنصاره عندي. وعقدت حوارا بين هذه الجماعات الثلاث في مركز النشاط الطلابي للجامعة، وحدث التفاهم واللقاء، وغابت شبهات العلمانية والكفر والإلحاد، وعرفوا أن الإسلام قوة في ذاته بالعقل الصريح دون استعمال القوة والعنف.
كنت أصلي معهم في مساجدهم، وكانوا يصلون معنا في مركز الخدمات الطلابية، وحين جاءت ساعة الفراق والعودة إلى مصر عام 1975م صاحبوني إلى المطار بعرباتهم وهم يبكون.
وكان زميلي في الجامعة؛ الفلسطيني إسماعيل الفاروقية - محافظ يافا سابقا - يشجعهم على التيار المحافظ، والذي يعطي الأولوية للدين على السياسة، وللعبادات على المعاملات، فقل أنصاره؛ لأنه لا يتحدث بلغة العصر، ولا يحقق مطالب المسلمين الأفارقة السود في المساواة بالمسيحيين البيض، والعدالة الاجتماعية، والحصول على العمل والسكن الملائم، وسمعت فيما بعد، بعد عشر سنوات تقريبا أنه قد تم اغتياله هو وزوجته الأمريكية على يد مسلم أسود كان يعتبره لا يتكلم في الإسلام الحقيقي، واختبأت ابنته في الدولاب، وفيما بعد تم اغتيال ابنه بعد انضمامه إلى الجيش، وقد كان الذي اغتاله أمريكي الجنسية تفرض عليه الجندية. حزنت كثيرا عليه وعلى إخلاصه للإسلام، ولخدمة المسلمين. حتى ولو كان بطريقته الخاصة المحافظة كما يفعل علماء الأزهر عندنا، وكان من تواضعه يحضر محاضراتي في الجامعة، ويتأثر بها، ويتغير بينه وبين نفسه.
وفي ندوة عامة بوسط المدينة سمعني أتكلم يوما وعرف أن الإسلام التقدمي ليس به أي شبهات كما يقال عنه، فاحتضنني وقال للحاضرين: «أرأيتم كيف يكون المفكر المسلم الحق؟»
ناپیژندل شوی مخ