والنسخ - في الحقيقة - ليس هو إبطالا، وإنما هو تكميل. وفي التوراة: أحكام عامة، وأحكام مخصوصة، إما بأشخاص وإما بأزمان. وإذا انتهى ذلك الزمن، لم يبق ذلك الحكم، لا محالة، ولا يقال: إنه إبطال. واليهود، لو عرفوا لم ورد التكليف بملازمة السبت؟ وهو يوم أي شخص من الأشخاص؟ وفي مقابلة أية حال؟ وجزء أي زمن؟! عرفوا أن شريعة المسيح حق واليهود، هم الذين اعتدوا في السبت، فمسخهم الله قردة وخنازير، وقال المسيح: ما جئت لإبطال التوراة، بل جئت لأكملها قال صاحب التوراة: النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والجروح قصاص، وأنا أقول: إذا لطمك أخوك على خدك الأيمن، فضع له خدك الأيسر وجواب النصارى لليهود هو جواب المسلمين للنصارى، والذي قاله المسيح، قاله محمد. فإنه قال: ما جئت لأبطل الإنجيل والتوراة وإنما جئت لأكملهما ففي التوراة أحكام السياسة الظاهرة العامة. وفي الإنجيل أحكام السياسة الباطنة الخاصة، وأنا جئت بالسياستين جميعا جئت بالقصاص " ولكم في القصاص حياة " وهو إشارة إلى السياسة الظاهرة العامة وجئت بالعفو " أن تعفو أقرب للتقوى " ، " خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين " وهو إشارة إلى السياسة الباطنة الخاصة وهذا دليل، على أن محمدا صلى الله عليه وسلم، خاتم النبيين لأن النبوة: حكمة والحكمة، إما عملية، أو علمية، أو جامعة بينهما. وحكمة موسى، كانت عملية لاشتمالها على تكاليف شاقة، وأعمال متعبة. وحكمة المسيح، كانت علمية، لاشتمالها على التجرد والروحانيات والتصوف المحض وحكمة محمد جامعة بينهما فلا يجيء نبي بعده، غير المسيح فإنه ينزله ثانيا إلى الأرض لأن الذي يجيء بعد محمد، إن كانت حكمته عملية، فموسوي، وإن كانت حكمته عملية، فمسيحي، وإن كانت جامعة بينهما، فمحمدي، فقد انختمت عليه النبوة، بالضرورة، فالدين واجد باتفاق الأنبياء. وإنما اختلفوا في بعض القوانين الجزئية، فهم كرجال أبوهم واحد، وأمهاتهم متعددة فتكذيب جميعهم، أو تكذيب البعض وتصديق البعض: قصور. ولو أصغى إلى المسلمون والنصارى، لرفعت الخلاف بينهم، ولصاروا إخوانا، ظاهرا وباطنا، ولكن لا يصغون إلي، لما سبق في علم الله أنه لا يجمعهم على رأي واحد ولا يرفع الخلاف بينهم، إلا المسيح عند نزوله ولا يجمعهم، لمجرد كلامه مع أنه يحيي الموتى ويبرئ الأكمة والأبرص ولا يجمعهم، إلا بالسيف والقتل، لو جاءني من يريد معرفة طريق الحق، وكان يفهم لساني فهما كاملا لأوصلته إلى طريق الحق، مت غير تعب، لا بأن يقلدني، بل بأن يظهر الحق له، حتى يعترف به اضطرارا وعلوم الأنبياء، من حيث خطابهم للعامة: دائرة على ما يصلح الناس، في معاشهم ومعادهم. وما جاءوا ليجادلوا الفلاسفة ولا لإبطال علوم لطب، ولا علوم النجم، ولا علوم الهندسة وإنما جاءوا باعتبار هذه العلوم على وجه، لا يناقض التوحيد، ونسبة كل ما يحدث في العالم، على قدرته، وإرادته سبحانه، فما جاءوا لمنازعة من يقول: الجسم، مركب من العناصر الأربعة ولا من يقول: إن الأرض كروية الشكل، ولا من يقول: إن خسوف القمر، بسبب توسط الأرض بينه وبين الشمس، فإن أمثال هذه الأمور، لا تضاد ما جاءت به الأنبياء، وبحث الأنبياء في العالم إنما هو عن كونه حادثا أو قديما ثم إذا ثبت حدوثه، فسواء كان كرة أو بسيطا، وسواء كانت السموات وما تحتها، ثلاث عشرة طبقة، أو أقل أو أكثر.. فالمقصود، كونه من فعل الله ومن قال: هذا مناقض للدين، أو المنازعة فيه، من الدين فقد جنى على الدين، وضرر الشرع من جهة من ينصره، لا بطريقته أكثر ممن يطعن فيه.
خاتمة تكذيب الأنبياء
إن المكذب للأنبياء المستغنى بعقله عما جاءوا به من الأعمال والعبادات مغرور، وكل ما جاء في فضل العلم، وذم الجهل فهو دليل، على ذم الغرور، لأن الغرور عبارة عن بعض أنواع الجهل إذ الجهل، هو أن يعتقد الشيء،على خلاف ما هو عليه، فمهما كان الإنسان يعتقد شيئا يوافق هواه، وكان السبب الموجب لاعتقاده، دليلا فاسدا، فهو مغرور، وأنواع الغرور والمغرورون، كثيرا ونذكر نوعا واحدا، وهم الذين غرتهم الدنيا، فنقول: قال الذين غرتهم الدنيا: الحاضر خير من المنتظر والدنيا حاضرة والآخرة منتظرة، فالدنيا خير فلا بد من الاشتغال به، وبما يصلحها، وقالوا: اليقين خير من الشك ولذا الدنيا، يقين، ولذات الآخرة شك. فلا نترك اليقين، لأجل الشك ودواء هذا إما بتصديق الأنبياء فيما قالوا وإما بالدليل والبرهان.
أما تصديق الأنبياء - مجردا - فهو مرتبة العوام. ويخرج المصدق لهم من الغرور، وينزل هذا منزلة تصديق الصبي والده، في أن حضور المكتب، خير من حضور اللعب، مع أنه لا يدري وجه كونه خيرا.
مخ ۱۹