أشخاص الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
أشخاص الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الذكرى
الذكرى
تأليف
عبد العزيز أمين الخانجي
أشخاص الرواية
زينب هانم:
سيدة في الثلاثين من عمرها.
علية:
فتاة في السابعة عشرة.
خديجة:
كهلة في الخامسة والأربعين.
سنية:
سيدة في العقد الثالث.
مريم:
خادم في العقد الرابع.
نبوية:
خادم صغيرة.
كمال بك:
من كبار مفتشي المالية ومنتدب في محافظة الإسكندرية، في الثلاثين من عمره.
فؤاد أفندي:
ضابط بوليس برتبة الملازم أول، وابن خالة كمال بك.
شريف بك:
قائمقام مساعد حكمدار القاهرة، زوج زينب هانم.
شكري أفندي:
برتبة صاغ، مأمور قسم محرم بك بالإسكندرية، في الخامسة والأربعين.
جلال أفندي:
وكيل نيابة بالإسكندرية ومن أعز أصدقاء كمال بك.
الفصل الأول
(صالة جميلة مؤثثة تأثيثا حسنا، للصالة باب كبير يظهر منه جزء كبير من الدرابزين وبضع سلمات رخامية وزاوية من حديقة في ليلة مقمرة، وفي زاوية الصالة منضدة صغيرة عليها مصباح كهربائي على شكل تمثال يمكن تحريكه باليد.)
المشهد الأول
فؤاد - كمال - نبوية
فؤاد (بملابس ضابط بوليس مضمد الذراع برباط يتدلى من عنقه) :
أتقولين إنهم في غرفة الأكل؟ أفي هذا الوقت المتأخر من الليل يتناولون طعام العشاء؟ هيه، إنه سحور وليس عشاء.
نبوية :
تأخروا لأنهم كانوا ينتظرون البك زوج الهانم الضيفة، هل أخبرهم بحضوركم؟
فؤاد :
لا ضرورة لذلك، سوف أنتظرهم هنا.
كمال (يدخل من باب إلى اليسار. تخرج نبوية) :
أهلا فؤاد، كيف حالك؟
فؤاد :
لا، لا يا كمال، أنا عاتب عليك، وقد كنت عازما على مقاطعتك بتاتا، لكنني لم أحتمل تنفيذ هذا القرار، هيا عانقني برفق دون أن تلمس ذراعي.
كمال (يعانقه) :
علمت أخيرا بما أصابك، لكن ألم تتماثل ذراعك إلى الشفاء بعد؟
فؤاد :
هي اليوم أحسن من الأمس، ولو لم أصطدم بها من حين لآخر لشفيت منذ أمد، لكن آه يا عزيزي إنها مغناطيس تجتذب أنواع المصادمات؛ فما من يوم يمر دون اصطدام، هكذا قدر علي أن أكون كالدادة التي تحمل ربيبها على ذراعيها أينما سارت وحيثما توجهت، لكن ما لنا ولهذا؟ إلي يا كمال نتعانق مرة أخرى، سنتان يا عزيزي لم أرك خلالهما.
كمال :
أتظن ذلك؟
فؤاد :
نعم، ربما أزيد، فإنني عندما أكون في القاهرة تكون أنت في الإسكندرية أو غيرها، وعندما تعود إليها أكون أنا في سوهاج أو أسوان، أنت في تفتيشك المالي وأنا في تنقلاتي الإدارية كضابط بوليس، أنت في الوجه البحري وأنا في الوجه القبلي، فكيف لنا أن نتقابل؟ (يأخذ بيد صديقه إلى مقربة من النور)
أرني وجهك يا كمال لأتملى من مشاهدته، آه يا عزيزي ما كان لنا أن نفترق عن بعض!
كمال :
هو ما تقول، لكن مقتضيات الحياة وظروفها العاتية.
فؤاد :
هي الحياة، أجل، هي الحياة التي فرقت بين شابين ترعرعا معا كأخوين يأكلان من إناء واحد، ويسرقان لفائف التبغ من علبة واحدة (ضاحكا)
أتذكر يا كمال لفائف التبغ التي كنا نسرقها سويا من غرفة الضيوف؟ أتذكر أيضا أننا كنا زملاء في مدرسة واحدة وفي فرقة واحدة؟
كمال (يضع يده على منكب فؤاد ضاحكا) :
لكن زمالة الفرقة لم تدم أكثر من عام واحد.
فؤاد (بعد تفكير قليل) :
نعم نعم، سنة واحدة؛ لأن المسيو غارنييه أستاذ اللغة الفرنسية ذلك الأحمق الثرثار عارض في نقلي ونجاحي تلك السنة.
كمال :
كنت ترسب في كل فرقة سنتين على التوالي يا عزيزي فؤاد.
فؤاد :
إنك لعلى صواب؛ كان جميع الأساتذة حمقى، لكن المسيو غارنييه كان يفوقهم في الحماقة والثرثرة.
كمال :
لأنه أبقاك ثلاث سنوات على التوالي في فرقة واحدة.
فؤاد :
دعنا من ذلك الآن وأخبرني، هل أنت باق هنا في القاهرة بضعة أيام؟
كمال :
كلا، سأعود إلى مقر عملي غدا في الصباح.
فؤاد :
أبهذه السرعة؟ تأتي اليوم وتسافر غدا؟
كمال :
إنما جئت لأمر هام اقتضى أن أقابل من أجله وزير المالية، ويدعوني العمل إلى العودة حتما إلى مقر وظيفتي في صباح الغد.
فؤاد :
إذن أنا سعيد الحظ جدا؛ لأنني حضرت إليك في الوقت المناسب.
كمال :
ماذا؟ أتريدني في مهمة أقضيها لك؟
فؤاد (في حيرة) :
إذا قلت نعم، أو قلت لا، أكون صادقا في الحالتين، فرحت أولا لرؤيتك، وفي نفس الوقت ...
كمال (مقاطعا) :
وفي نفس الوقت تريد مني خدمة أقضيها لك، أليس كذلك؟
فؤاد :
لا أريد منك خدمة يا كمال، وإنما هي مسألة دقيقة للغاية أريد أن أفضي بها إليك إذا سمحت لي بنصف ساعة من وقتك العزيز في هذا المساء، وإنه لوقت عزيز بلا ريب؛ لأن لديك ضيوفا (يضحك)
من الجنس الذي لا يمكن إهماله، لكن لا بأس، هذا لا يمنعني من تكرار التوسل إليك في طلب مقابلتك على انفراد.
كمال :
لا بأس.
فؤاد :
بارك الله فيك أيها الصديق، سمعت أن شريف بك والسيدة زوجته في ضيافتكما هذه الليلة، ما سبب هذه الزيارة؟ لا سيما في الأسبوع الذي ارتقى فيه شريف بك إلى منصب مساعد الحكمدار، ماذا ترى في ذلك؟
كمال :
أظن أن لهما مسألة يريدان قضاءها.
فؤاد :
أهي مسألة تستحق الاهتمام؟
كمال :
أتعرف الخالة بهية مرضعة زينب هانم؟ للخالة بهية ابن يشتغل كمحصل في محافظة الإسكندرية، ارتكب اختلاسا ظهر منذ أيام فألقي القبض عليه توطئة لمحاكمته أمام القضاء.
فؤاد :
آه فهمت، وحضرا إليك الليلة للتوسط في أمر المختلس لدى سعادة مفتش المالية، كم مقدار المبلغ المختلس؟
كمال :
يقرب من الخمسمائة جنيه.
فؤاد (بصوت تشوبه رنة الاستغراب) :
خمسمائة فقط! لو كنت مكانه لاختلست ألفا.
كمال :
ولم ذلك؟
فؤاد :
أتسألني السبب؟ لأنك من كبار مفتشي المالية، ولأن زينب هانم الواسطة في الشفاعة.
كمال (محتدا) :
دع الثرثرة جانبا يا فؤاد، زينب هانم بنت خالتي ورفيقة طفولتي ولا ريب أن لها في قلبي مكانا كبيرا من التجلة والاحترام، لكن هذه الأشياء لا تدعوني كموظف مصري في أي حال من الأحوال إلى الإخلال بشرف الوظيفة.
فؤاد :
لا تغضب فإنني أمزح يا عزيزي ... ما لنا ولهذا؟ (مقتربا من كمال وبصوت خافت)
هل أحدثك يا كمال عن أمر يدخل السرور إلى قلبك؟ لقد رأيت زينب منذ عهد قريب فألفيتها آية في الحسن والجمال، نعم، كانت على شيء من الجمال أيام الصغر إلا أنها كانت نحيفة، يضيع جانب من معاني جمالها في تلك النحافة، أما اليوم فقد أينع ذلك الجمال فغدت ترفل في حلة قشيبة من الحسن والبهاء.
كمال (متظاهرا بعدم الاكتراث) :
ما زلت يا فؤاد ثرثارا كسالف عهدك.
فؤاد (ضاحكا) :
قاتل الله الأغراض، إنك لا تقول ذلك من صميم قلبك. إنني أعرفك حق المعرفة.
كمال :
ماذا تعني بقولك؟
فؤاد :
ما أريد أن أعرضه على مسامعكم الشريفة يا مولاي (ثم يضحك) ، أنك كنت مفتونا بها أيام صباك.
كمال :
بالله دع عنك هذا الهذيان، ليس هناك شيء مما تظن، لو كنت أحبها فما الذي كان يمنعني؟
فؤاد :
نعم نعم، ما الذي كان يمنعك؟ لقد كانت المسكينة تنظر في عينيك على الدوام تستمد منهما نور التشجيع، كانت دائما أتبع لك من ظلك، تسير وراءك أينما سرت، وقد لمحت إذ ذاك في حركاتها وسكناتها ذلك الميل نحوك، وها أنت اليوم تأمرني بترك الهذيان.
كمال (بشدة) :
فؤاد!
فؤاد :
أقول إنني كنت لمحت في نفسها روح الميل إليك، وما زلت على هذا الرأي. كنت ذات يوم من أيام الصبا في مصيفكم بالرمل، وكنت إذ ذاك في الحديقة منهمكا في إخراج صورة شمسية، فرأيت زينب الصغيرة مختبئة في خميلة تزينها زهور الياسمين والقرنفل، فظننت لأول وهلة أنها هناك بقصد جمع الزهور فلم أحفل بالأمر، لكن تبين لي قصدها بعد قليل؛ فقد تأكد لي أنها لم تختبئ في ذلك المكان إلا بغية التمتع بمراقبتك من على كثب ... كنت أنت إذ ذاك جالسا تحت الشجرة الكبيرة تقرأ في كتاب، ومنذ ذلك الوقت أدركت السر في علامات الاضطراب وشواهد القلق التي كانت ترتسم على محياها عندما يقترب ميعاد عودتك من المدرسة، إنها في ذلك الميعاد كانت تترك اللعب وتترك صويحباتها وكل شأن من شئونها، فتصعد إلى الطابق العلوي من المنزل لتراقب الطريق من محطة الترام إلى المنزل.
كمال :
لكن يا عزيزي كل ذلك لا يدل على شيء، إنك ما زلت أبله كسالف عهدي بك.
فؤاد :
قل ما شئت فإنك لن تستطيع أن تزحزحني قيد شبر عن اعتقادي في أنك كنت مفتونا بتلك الصبية ... لكنك لسبب ما زلت أتحراه إلى اليوم هجرتها ولم تكترث بها.
كمال :
أقسم لك بما بيننا من صداقة أنه لم تجر بيننا كلمة واحدة عن هذه الأمور التي تظن وقوعها.
فؤاد :
إنك لصادق فيما تقول؛ إذ ما الداعي إلى الكلام في شئون قد تؤديها الألحاظ بإشارة واحدة وقد تفشيها العيون بنظرة فحسب؟
كمال :
بالله دعنا من هذا.
فؤاد :
وبعد سفرك إلى أوروبا ذبل ذلك العود الناضر واعتراه الاصفرار والنحول، زينب التي كانت زينة المجالس بنكاتها الظريفة وأحاديثها الشهية انقطعت عن الكلام، وصامت عن اللغو وأصبحت لا تنطق الكلمة إلا بتكلف، لكنها اليوم قد انتقمت لنفسها منك، فمن لي بمن يجعلني الساعة في قرارة نفسك لأرى مبلغ شعورك بالألم عندما تراها كما هي اليوم في إبان جمالها ونضارة شبابها وهي ملك غيرك، فما أشد حمقك أيها المسكين!
كمال :
أرجوك أن تسكت يا فؤاد.
فؤاد :
لو كنت مكانك لانتحبت كالأطفال.
كمال (بشدة ظاهرة) :
إنك لتؤلمني وتستفزني إلى الغضب مع علمك تماما بأخلاقي، لو شئت أن أقترن بها لما حال بيننا حائل، أما اليوم فهي بنت خالتي وأنا ابن خالتها لا أكثر ولا أقل، هل فهمت؟
فؤاد :
نعم فهمت، سوف أسكت تماما لا سيما وأنه ليس من مصلحتي أن أستفز غضبك الليلة.
كمال :
عفوا، لحظة قصيرة ريثما أعطي البواب بعض تنبيهات. (يخرج من الباب إلى الحديقة ويسمع صوته وهو ينادي: «يا عم عثمان، عثمان».)
المشهد الثاني
فؤاد - شريف بك - الآنسة علية (شريف بك طويل القامة مفتول الشارب على الطريقة الولهلمية، يدخل المسرح مرفوع الهامة بملابسه العسكرية برتبة قائمقام وشكله يلقي إلى الأذهان شيئا عن نفسيته العسكرية الصلبة، وتدخل معه الآنسة علية وهي شابة في مقتبل العمر، طروب، ضاحكة السن.)
شريف :
هذا مؤكد يا آنسة، نعم مؤكد بلا ريب.
علية (بصوت تدل نبراته على الحدة في مناقشة سابقة بينهما) :
هل كل شيء عندك صريح ومؤكد يا شريف بك؟ لقد وهبك الله لسانا حادا كسيفك يقطع كل شيء دون مبالاة.
شريف :
نعم، إنني لأقطع كل شيء وألقيه بلا رحمة، لكنني لا أقطع سوى الأشياء المؤذية الضارة التي ليست لها قوة ولا مناعة. (يريد فؤاد أن يهرول نحوهما ليقطع ما بينهما من حديث، لكن شدة المناقشة تحول دون ما يريد؛ إذ يلتفت كل منهما إليه ويبادرانه على التوالي وبسرعة بكلمة بونسوار.)
شريف :
بونسوار فؤاد أفندي.
علية :
بونسوار فؤاد (وتلتفت إلى شريف بك)
أرجوك يا شريف بك أن تنعم النظر فيما تسميه مؤذيا ضارا، إنها لأمور معنوية تزين لنا الحياة، وتبعث فيها روح النشاط، أجل فمن ينكر أن الرحمة والعاطفة والحب والفن ...
شريف (مقاطعا) :
كلمات جوفاء لا معنى لها، والذين يسيرون في تيار تمجيدها إن هم إلا أناس يفرون من الواجب ليسرقوا خبز الفلاح وأجر العامل، إن هم إلا أناس يقفون في سبيل ذلك الدولاب العظيم، دولاب العمل - أي الدنيا - لولا تلك الكلمات الجوفاء لما كان في الدنيا ذلك الجيش الجرار من المجانين والمجرمين والمنتحرين والسفهاء والبلهاء والمعتوهين، نعم هذا مؤكد.
فؤاد (يريد أن يتدخل مرة أخرى) :
بالله ما هذه الحرارة والحدة في المناقشة عقب الأكل مباشرة! (إلا أنهما لا يحفلان به فيستمران في مناقشتهما.)
علية :
أكاد أتمرد يا شريف بك، أتقول إن الدنيا دولاب للعمل لا أكثر ولا أقل؟
شريف :
الأولى أن نسميها مصنعا، وما الناس فيها إلا آلات مختلفة تقوم بأعمال متباينة، ليس لنا أن نبحث في علة إنشاء هذا المصنع أو الغاية التي يتحرك من أجلها؛ لأن معرفة ذلك فوق مقدور العقل، وما أفهمه هو أن يقوم الإنسان بوظيفته كجزء من أجزاء المصنع وأن يؤدي واجبه بلا خوف ولا تردد ولا إمهال.
علية :
ما أسخف هذه الغاية!
شريف :
الإنسان الكامل هو من يقوم بهذا الواجب، نعم هذا مؤكد.
علية (مستهزئة) :
وأقرب مثل للإنسان الكامل، أنتم مثلا.
شريف :
نعم، إنني كذلك يا علية، أصرح بهذه الحقيقة دون أن أتوارى وراء برقع من التواضع المزيف، أنا كذلك يا عزيزتي رغم ما أشعر به من عجز في بعض الأحايين، أنا كذلك لأنني أقدر ما يمكنني أن أعمله، ولأنني لا أحمل في ذهني أوهاما جوفاء ولا يتسع عقلي للخيال الكاذب.
علية :
ويوجد يا سيدي البك أناس أيضا لا يرون رأيك ولا يفكرون مثل تفكيرك.
شريف :
أجل، خذي فؤاد أفندي مثلا.
علية :
دعك من فؤاد.
فؤاد (بغضب) :
هيه، دخلنا في دور الخطر، وما دخلي أنا في مناقشتكما؟
شريف (بسرعة وبدون أن يلتفت إليه) :
باردون فؤاد، حرارة المناقشة ألجأتنا إلى هذا المثل.
علية :
عفوا يا فؤاد ليست المسألة من الأهمية بحيث تستفز غضبك.
فؤاد :
ما شاء الله! ما هذا المنطق يا عزيزتي؟
علية :
إياك أن تغضب (ضاحكة)
إنك طيب القلب يا فؤاد.
فؤاد :
أمري لله! ما الذي دفعكما إلى هذه الحدة في المناقشة؟
علية :
هذه طريقتنا على الدوام في المناقشة، نحتد ونتحمس ثم لا نلبث أن ننتهي منها كما رأيت.
شريف :
وأجمل شيء في مناقشاتنا أنها لا تؤثر في علاقتنا، بل هي تزيدني إعجابا بصراحة الآنسة علية وجرأتها في بسط أفكارها.
فؤاد :
لكنك يا سيدي تستطيع أن تكون لين العريكة مع من تعجب بأفكارهم.
علية :
آه يا فؤاد ليتك تعلم الدافع الحقيقي لمناقشتنا!
فؤاد :
ما هو؟
علية :
ستقف على الحقيقة في الصحف التي تصدر غدا، أنت تعلم طبعا أن شريف بك ارتقى إلى منصب الحكمدار في القاهرة.
فؤاد :
نعم، وكنت في مقدمة المهنئين.
علية :
أتعلم ماذا كان أول عمل له في منصبه الجديد؟ إلقاء القبض على سيدة، أتعرف من هي؟ إنها سنية!
فؤاد (بدهشة) :
سنية؟ أهي سنيتنا؟
علية :
نعم، مطلقة عمنا.
فؤاد :
إن كنت لا أعلم بعد كنه جريمتها، فإنني أكاد أعتقد بأنه لم يلق القبض عليها جزافا، لا بد من سبب.
علية :
بالله دع الهذيان، إنك لن تستطيع إدراك هذه الأمور.
فؤاد :
ما لا أستطيع إدراكه هو دفاعك عن سنية، لا يستغرب الإنسان مثل تلك العاقبة لامرأة في مثل أخلاقها.
علية :
أنتما لا تعرفان سنية حق المعرفة، لم يعرفها إنسان بعد، هذه السيدة من أطيب النساء قلبا، إنني لمعجبة بها وأحبها كما لو كانت أختي.
فؤاد :
هس، حذار أن تسمعك والدتك، ما الفائدة في طيبة قلبها ما دامت سيئة الخلق؟ ألم تلوث سمعة زوجها؟ ألم تمنعها خالتي من زيارتنا اقتداء بجميع الأقارب الذين سمعوا بحادثة طلاقها؟ لقد أصابت بلا ريب في هذا المنع.
علية :
وما ذنب المسكينة في تلك الحادثة؟ أنتم لم تفهموا بعد نفسية تلك المخلوقة وما زال تعصب الرجال يغلي في عروقكم رغم الثياب العصرية التي ترتدونها، كان عمي أكبر منها سنا فقد تزوجها وهو في الخامسة والأربعين، وكانت هي في الثامنة عشر من عمرها، يجب يا عزيزي فؤاد أن تنتظر على الدوام أمثال تلك الحوادث في أسرتنا المصرية، ما دام الزواج عندنا يقوم إلى الآن على تلك الأساليب البالية وهي الاتصال الأعمى على يد الخاطبات، ما كانا ليريا بعضهما إلا ليلة الزفاف، ما كانا ليعلما شيئا عن طباعهما بل كلاهما مجهول من الآخر، عرفت هي تلك الحقيقة المؤلمة في اليوم التالي للزواج، لكن الظروف القاهرة والتقاليد المستبدة أكرهتها على الرضوخ والإذعان، وحالت دون إظهار رأيها في صراحة، أربعة أعوام قضتها تتكلف فيها الحياة في ألم وحسرة إلى أن نفد صبرها، فأظهرت رغبتها لعمي تطلب إليه الانفصال، فثارت ثورته وأخذته عزة الرجال، فاعتصم بالحقوق الوهمية التي يظن أن الدين منحه إياها وليست من الدين شيء، وأكرهها على النزول عند حد إرادته في صلابة وعناد، لكن الطير الواقع في الأسر إنما ينزع دائما إلى الخلاص، لهذا لم تطق المسكينة صبرا إذ فزعت إلى بيت أهلها وكان الطلاق.
فؤاد :
ما شاء الله، أراك تدافعين عنها فوق دفاع المحامي، ماذا تقولين إذن عن سلوكها بعد هروبها إلى دار أبيها؟ ماذا تقولين عن الإشاعات التي دارت حولها وعن علاقتها مع ابن عمها جودت ذلك الشاب المفتون؟
علية :
محض اختلاق، إنها تقابله كأي كائن آخر من صاحباتها وأقربائها، ليس كل ما يقال صحيح.
فؤاد :
نعم، غير أن لكل إشاعة أصلا كما أنه لا دخان بغير نار، ومن رأيي أن من يضع نفسه محلا للشكوك والريب إنما يدفع الناس إلى الشك والارتياب في أمره، (ملتفتا إلى شريف بك)
ما هو السبب في إلقاء القبض عليها يا سيدي البك؟
شريف :
لصلتها الوثيقة بحادثة الاعتداء الأخير، فقد تبين لرجال التحقيق أنها كانت على اتصال دائم مع جودت أحد المتهمين الذي فر من وجه العدالة، ولم تقف علاقتها عند هذا الحد بل ظهر من التحقيق أن المؤامرة تمت في منزلها، وأن لها ضلعا كبيرا في تدبير تلك المؤامرة.
فؤاد :
يا للداهية! لكن لا يبعد أن ترتكب سنية مثل هذه الجريمة، ولقد أحسنتم بإلقاء القبض عليها.
علية :
ما هذه السخافة يا فؤاد؟ إنك لتضايقني بمثل هذه الأقوال التي ترسلها جزافا بلا روية.
شريف :
علية لا تقدر بعد مسئولية الواجب.
علية :
أنا أفهم مسئولية الواجب يا شريف بك، لكنني لا أستطيع أن أفهم معنى افتخاركم بتأدية مثل هذا الواجب، وأستميحكم العفو إذا قلت: إن إلقاء القبض على سيدة ما واجب مخجل، إنني مع استنكاري لفعل سنية.
شريف (مقاطعا) :
الواجب لا يتغير في أي شأن من الشئون وإنه لمقدس جدير بالاحترام على الدوام في أي عمل كان، وأستطيع أن أقول بصراحة: إن الواجب في الأعمال التي لا تبهج النفس بل تؤلمها أجدر بالاحترام من غيره، ففي الواجبات القاسية الأليمة قد يضطر الإنسان إلى تضحية عاطفة من عواطفه إلى انتزاع قطعة من قلبه، وإلا فماذا تقولين فيمن يحكم على ابنه أو يقضي على حياة زوجه في سبيل الواجب؟
علية :
لا أجد وصفا لمثل هذا الرجل القاسي المتحجر القلب.
شريف :
أما أنا فأقول إنه جدير بكل إعجاب وتقدير؛ لأنه يضحي بقلبه في سبيل الواجب.
علية :
إذن أنت لا تحجم - إذا اقتضت الظروف - عن تضحية ابنك أو زوجك؟
شريف :
أجل، لا أحجم عن ذلك يا علية في مواطن الشرف والواجب، ولا أتردد عن تضحيتهما بل أفعل ذلك كما لو أكون مستغرقا في الصلاة والعبادة.
علية :
لا أستبعد منك ذلك يا شريف بك، نعم، لا أستبعده من ذلك الرجل الذي أمر يوما ما بإحراق قرية في السودان من أجل سرقة ماشية.
المشهد الثالث
الأولون - خديجة هانم - زينب هانم - وبعدها كمال (خديجة هانم وزينب هانم تدخلان عقب الكلمة الأخيرة مباشرة.)
خديجة :
من تكون هذه الضحايا؟ ومن يكون هذا الرجل؟
فؤاد (مطنطنا) :
شريف بك لا يحجم عن تضحية نجله العزيز سيف الدين بك.
علية (تجاري فؤاد في التهويل) :
وزوجته العزيزة زينب هانم.
خديجة :
آه، ما هذه الأقوال يا علية؟ أصحيح ذلك يا شريف بك؟ لقد تولاني الفزع من هول هذا المزاح.
زينب :
ما أرق عاطفتك يا شريف بك؟ أكاد أذوب خجلا.
شريف (ضاحكا) :
بالعكس يا زوجتي العزيزة، أردت أن أقدم أعظم مثال لمن أعزهم في الحياة فذكرتك وذكرت ابني في سياق التدليل فقلت: وحتى هما.
خديجة :
دعونا بالله من هذه الكلمات التي تهيج الأعصاب، والتي ينقبض صدر الإنسان عند سماعها مهما كان المقام.
زينب :
كيف حالك يا فؤاد؟ هل تحسنت ذراعك؟ (يدخل كمال في هذه الفترة.)
فؤاد :
إنها اليوم أحسن من أمس ولو كنت لا أصطدم بها ثمانين دفعة في اليوم، ولكن القضاء والقدر قد تناصرا.
علية (تقاطعه وتتم الجملة) :
قد تناصرا على أذيتي وكأنما أنا دادة تحمل طفلها على ذراعها. (ثم تضحك)
هذه جملته التي يكررها كالأسطوانة لكل من يسأله عن حاله. (يضحكون جميعا.)
كمال (مازحا) :
إنني لأشتم رائحة الإهانة يا فؤاد في كلمة «أسطوانة».
فؤاد (بخجل) :
لا تكفين السخرية والاستهزاء بالناس يا علية هانم.
علية :
إنني أمزح معك يا فؤاد.
فؤاد :
ليس الأمر مزاحا يا علية هانم، وإنما كما قال عنكم شريف بك، تتلذذون بالسخرية من جميع الناس في العالم.
كمال :
برافو فؤاد، كنت على وشك أن أغضب لو لم تتحمس، إن الإنسان ليشعر بالغبطة إذا وجد من يشاركه الانتقام من الساخرين.
علية :
ما هذا يا فؤاد؟ أراك تخاطبني رسميا بصفة الجمع وبلقب هانم، ما هذه الرسميات؟ عهدي بك تكلمني بلا كلفة، أنحن في خصام؟
فؤاد :
لا يا عزيزتي لا تفكروا، لا تفكري في شيء من ذلك. (ثم يأتي بحركة عصبية فتصطدم ذراعه فيصيح)
آه! آه! آه!
علية (ضاحكة) :
لقد وقع الطفل.
شريف (لكمال) :
أظن أنك كنت تحاول أن تقول شيئا؟
كمال :
كلا، أنتظر انتهاء فؤاد من حديثه.
فؤاد (مخاطبا علية) :
أتسخرين مني وتنسين نفسك ونقيدك ببعض ألفاظ ترددينها من حين لآخر، أنسيت قولك لي في كل لحظة؟ هل أقول؟ هل أقول؟
علية :
لا يا سيدي، إياك أن تقول لأنني سأبدأ أقول أول حرف منها «ع»، والثاني، والثاني «ل». (الجميع يضحكون.)
فؤاد :
علية! أرجوك أن تدعي الثرثرة جانبا. (تدخل الخادم وبيدها صينية القهوة.)
خديجة (تخاطب الخادم نبوية) :
اذهبي بالقهوة إلى كشك الحديقة؛ فإنها ليلة مقمرة زاهية الأنوار، ألا توافقون على تناول القهوة في الحديقة؟
شريف :
فكرة جميلة، نوافق طبعا. (تخرج الخادم، يأخذون في الخروج واحدا بعد الآخر.)
علية (تقترب من كمال) :
أبلتي زينب تريد التحدث معك برهة.
كمال :
حسنا، ها أنا ذا قادم إليها الآن. (يخرج الجميع ويتأخر فؤاد وكمال.)
فؤاد :
لا تنس أنك وعدتني ببرهة من وقتك الثمين.
كمال :
أفي هذه الساعة يا عزيزي؟ أيجوز للإنسان أن يتحدث في أمر جدي عقب الأكل وقبل اهتضام الطعام؟
فؤاد (بتعريض) :
لا، لا يجوز ذلك فقد أشار جميع الأطباء بضرر ذلك، اللهم إلا إذا كانت المسألة تتعلق بالبحث في مسألة مختلسين وسماع الشفاعات في حقهم.
كمال :
يا حفيظ يا فؤاد، هيا قل ما تريد، فإنني مصغ إليك.
فؤاد (بتردد) :
المسألة التي أريد أن أعرضها عليك يا كمال جدية وهامة في آن واحد (ثم يسعل ويتنحنح مطرقا برأسه) ، وقد كتبت لك بشأنها نحو عشرة خطابات.
كمال :
أؤكد لك إنني لم أستلم منك خطابا واحدا، دعك من الهذيان.
فؤاد :
مهلا يا عزيزي، قلت لك بأنني كتبت ولم أدع بأنني أرسلت واحدا منها بعد؛ لأنني رأيت أنه من الأنسب والأوفق أن أقابلك بنفسي وأعرض الأمر عليك شفاها.
كمال :
آه، الآن فهمت أيها الماكر، تريد أن تسخرني في خدمة أقضيها لك، ويلوح لي أنك جربت أن تكتب لي بشأنها، إلا أنك أدركت أن الكتابة قد لا يكون لها الوقع المطلوب أو تأتي بالنتيجة المرجوة، فعولت أن تواجهني ليسهل إقناعي باللسان، هيا تكلم.
فؤاد :
ومن الغريب أن يصعب بيان الموضوع باللسان أيضا.
كمال :
لك أن تستعين بترجمان ماهر كعلية مثلا. (يضحك.)
فؤاد (يفتح عينيه بوجل) :
لقد وجدت الشخص، بالله لا تضحك مني يا كمال، دع السخرية جانبا فإن الأمر خطير، وإذا كنت تسخر مني ولم أبدأ بشرح الموضوع فكيف أستطيع إبداء غرضي وإيضاح غايتي؟ المسألة خطيرة يا عزيزي (وهنا يغير لهجته كأنما يلقي خطابة) ، فإن الحياة طريق طويلة شاقة تحف بها الأزهار والأشواك على الجانبين، ولا بد لكل من يحاول قطع تلك الطريق أن يستعين بآخر يعطف عليه ويواسيه ويأخذ بيده، أو برفيقة كاملة الصفات تعينه وتشد أزره.
كمال (يسترسل في الضحك) :
بالله لا تظن أنني أسخر منك وإنما ضحكت ابتهاجا وسرورا لبيانك العذب؛ فقد أصبحت يا عزيزي خطيبا مفوها.
فؤاد :
إذن اسمع الباقي فإنه مفعم بالأقوال الجميلة، ماذا كنت أقول؟ (مفكرا)
آه الرفيقة في الحياة، لقد أنسيتني الباقي وقطعت علي سلسلة أفكاري.
كمال (ناظرا إلى جهة الباب بقلق) :
لا بأس، لقد كنت بليغا إلى حد الإفصاح عن غرضك في أربع كلمات، وجعلتني أفهم النتيجة من سياق المقدمة، بالإجمال تريد أن تقول لي أنك تطلب يد أختي علية، أليس كذلك؟
فؤاد (متحيرا) :
كيف علمت ذلك؟
كمال (بسرعة) :
لو أن الأمر متوقف على رضاي فإنني أقبل بكل سرور.
فؤاد (مذهولا) :
ما كنت أتصور أن يتم الأمر بمثل هذه السهولة، لقد شحذت القريحة أشهرا طويلة، وأحضرت في ذهني جعبة من الأجوبة لأفند بها الاعتراضات المحتملة (يعانق كمال بلهفة ويستمر في كلامه)
آه يا أخي كمال، يا عزيزي كمال، قد أنقذتني من اضطراب كبير.
كمال :
كانت لديك وسيلة أسهل من هذه؛ إذ كنت تستطيع أن ترسل خالتي إلى خالتك فيتم الأمر.
فؤاد :
أفي هذا العصر الذي نسمع فيه انتقاد الناس على الزواج من طريق الأمهات والخاطبات! أردت يا عزيزي أن أكون عصريا فأخطب التي أراها أهلا لمشاركتي الحياة بنفسي على الطريقة الحديثة ، ولكنك قد أدهشتني بفطانتك وسرعة خاطرك وقراءة الأفكار قبل أن يفصح عنها اللسان. (تظهر علية وزينب عند عتبة الباب.)
علية (من بعيد) :
لقد طال انتظار زينب هانم.
كمال :
ها أنا ذا قادم إليها (ملتفتا إلى فؤاد)
أنا موافق من جهتي، فيمكنك أن تفاتح علية رأسا في الموضوع (يمشي نحو علية)
اسمعي يا علية.
فؤاد (يلحق به مضطربا) :
انتظر بالله ريثما أتمالك نفسي.
كمال (دون أن يعبأ به) :
اسمعي يا علية، فؤاد يريد مفاتحتك في مسألة، (وعندما يمر بجانب شقيقته يهمس في أذنها)
لقد ظهر نصيبك في الزواج (علية تحاول أن تكتم ما في نفسها من الضحك) .
فؤاد (متجولا في الغرفة جولات عصبية) :
هيه، هيه، هيه.
علية (تضغط على شفتيها لتكتم ابتسامتها) :
أمركم يا حضرة فؤاد بك.
فؤاد (متحيرا) :
أستغفر الله، أستغفر الله.
علية :
ما هذا؟ أتوبة واستغفار؟
فؤاد (محاولا أن يجمع نفسه) :
كلا، وإنما هناك مسألة هامة، مسألة حيوية!
علية :
أتحاول أن تكلمني بجد؟
فؤاد :
نعم، في مسألة جدية، (ثم يأخذ بيدها ويجلسها على المقعد) ، والآن أرجو أن تلفتي وجهك إلى الجهة الأخرى.
علية :
لماذا؟ أتخشى أن تنظر إلى وجهي؟
فؤاد :
كلا، ولكن يحسن ألا تنظري إلي برهة من الزمن (تدير علية وجهها لتخفي ابتسامتها ويبدأ هو بجد)
الحياة طريق طويلة شاقة تحف بها الأزهار، والأوحال. باردون، والأشواك على الجانبين، ولا بد لكل من يحاول قطع تلك الطريق أن يستعين برفيق يأخذ بيده ويشد أزره.
علية :
آه فهمت يا فؤاد، تريد أن تعرض علي أمر الزواج مني.
فؤاد (متحيرا وقد نسي خجله) :
ما شاء الله! ما هذه الفراسة الفطرية في جميع أفراد الأسرة!
علية :
أهذا كل ما في الأمر؟
فؤاد :
طبعا لا، هذا القسم الرسمي، (يخفض عينيه)
ويبقى القسم القلبي الشعوري، (يضع يده على قلبه)
كنت إلى اليوم أعيش في هدوء وسكون، دون أن يكون في خيالي شاغل يعذب القلب ويلهب الذهن.
علية :
نعم، فقد كنت تنام ملء جفونك، فتغط غطيطا بينما كنت أحشو فمك بالورق.
فؤاد (بغضب) :
أفي مثل هذا الموقف الجدي يا علية هانم تسخرين بي أيضا؟ نعم، كنت مطمئن النفس مستريح القلب ولكن عينين عسليتين تألقتا كالنجمتين في سماء فؤادي على حين غرة، فغيرتا صفائي إلى اضطراب وقلق، آه لقد بزغت في قرارة الروح شمس تلك الشعور الذهبية، أتعلمين يا عزيزتي علية، من هي تلك الغادة صاحبة هذه النعم السماوية؟
علية :
كنت أظن أنني أنا، ولكنك ما دمت تذكر العينين العسليتين وتحدثني عن الشعر الذهبي فقد أخطأ ظني؛ لأن عيني سوداوان وشعري كذلك.
فؤاد :
هذه نظرة العاشق يا علية هانم.
علية (متضجرة) :
اسمع يا فؤاد، لم تكن سخيفا قبل اليوم (تسترسل في الضحك)
من أي كتاب حفظت هذه القطعة المنثورة؟
فؤاد (بتواضع وخجل) :
لا أنكر عليك أنني عثرت بها في كراسة تحتوي على طائفة من القطع المنثورة، كان يمليها علينا مدرس اللغة العربية لحفظها واستعمالها وقت اللزوم.
علية :
لقد كان مدرسك حكيما فها هي قد أفادتك اليوم.
فؤاد (بحدة) :
كلا، فقد كانت سببا في سخريتي.
علية :
لا، لا يا فؤاد، قد أحسنت الإلقاء، لكنك لم تحسن الاستعمال؛ لأنك غيرت مواضع الكلم.
فؤاد :
نعم، إنني مقر بخطئي، لكن ...
علية :
لنفرض جدلا أن الخيال جمح بك إلى حد الاسترسال في وصف ما بيننا من تعارف كالنجمتين اللتين تألقتا في سماء قلبك على حين غرة مع أننا متعارفان منذ الصغر، فما عذرك في العيون العسلية مثلا؟ وما عذر الخيال يا سيدي الشاعر في الشعور الذهبية؟
فؤاد :
كفى، كفى، بدأت أشعر بسخافتي لكنك لو كنت في مثل موقفي.
علية (مقاطعة) :
اسمع مني يا فؤاد، ليس من الحكمة أن نتمادى في المزاح إزاء مسألة جدية كهذه (خافضة بصرها وبصوت رزين)
أشكرك أولا على كبير اهتمامك بي، لكنني أقول بصراحة أنه لا سبيل إلى زواجنا.
فؤاد (بحزن) :
لماذا يا علية؟ أترينني قبيح المنظر؟
علية :
كلا يا عزيزي، فإنك وسيم الطلعة بهي المنظر.
فؤاد :
إذن فأنا لا أروق في نظرك لسوء أخلاقي ونقص تربيتي.
علية :
حاشا لله، أنت كالجوهرة المتألقة في حسن الأخلاق وجمال الخصال.
فؤاد :
إذن، إذن، خبريني عن وجه العذر، لأعلم السبب في حرماني من أكبر أمنية لي في الحياة.
علية :
ليس فيك عيب مادي أو نقص معنوي، وإنما أرى أن امتزاجنا صعب عسير وأن الأسرة التي نؤلفها تكون مضحكة للغاية.
فؤاد :
مضحكة؟ ولماذا؟
علية (بحدة ونزق) :
ستلجئني إلى الإفصاح بأقوال يسوءك سماعها، إننا لا نصلح أن نمتزج معا؛ لأننا لا نستطيع أن نتحد في الفكر.
فؤاد :
في الفكر؟ أقسم لك بأنني سأحاول أن أكون صالحا للامتزاج، أقسم لك بشرفي أنني سأكون لك كما تريدين، أيعجبك أن أغير فكري، إنني لأغير جميع نظرياتي وأفكاري في الحال، أعندك اعتراض بعد؟
علية :
ظريف منك هذا التعبير أيضا، إذا تم الأمر، علي إذن أن أوصي لك بطقم أفكار مع ملابس العرس.
فؤاد :
كل ما في الأمر أنك تتهمينني بعدم الميل إلى المطالعة وقراءة الكتب والمجلات، أعطيني قائمة بأسماء الكتب التي تختارينها وأقسم لك بأنني أخصص أربع عشرة ساعة من وقتي للقراءة والمطالعة، وإذا أردت فإنني أحفظ ما تريدين عن ظهر قلب، مع العلم بأنني كنت لا أطيق في المدرسة حفظ قطعة من أربعة أسطر فقط.
علية (بضجر) :
كل هذا مفهوم، لكن لا سبيل إلى ذلك يا فؤاد، لا سبيل إلى امتزاجنا لأنه يستحيل وقوعه، ألا توجد مسائل في الحياة يستحيل نفاذها فهذه المسألة من هذا القبيل؟ أترى هذه المنضدة؟ أيمكنك الآن رفعها عن الأرض بذراعك المضمدة؟
فؤاد (بحزن) :
يكفي أن تطلبي ذلك فيكون، (يقوم فيرفع المنضدة بذراعة المضمدة ولكنها تسقط فتبدو منه صيحة ألم)
آه، آه.
علية (بصوت مرتفع) :
ماذا فعلت يا فؤاد؟ آه ماذا فعلت؟
فؤاد :
أردت أن أكتم صياحي لكنني لم أتمالك. (كمال وزينب يظهران في الباب أثر الصيحة.)
كمال :
ما هذه الجلبة؟ ما الذي حدث؟
علية :
اصطدم فؤاد بذراعه.
كمال :
آه منك أيها المصاب، سوف لا يرتاح بالك إلا إذا تسببت في بترها (ينظر إلى المنضدة المنقلبة على الأرض)
ما هذا أكنتما تتراكضان؟ كيف أوقعتما هذه المنضدة الكبيرة؟
علية :
هل تتألم يا فؤاد؟ مسكين، مسكين تعال لأصلح لك لفافاتك. (يخرج الاثنان من باب على اليمين.)
المشهد الرابع
كمال - زينب
كمال (ضاحكا) :
ما أجنهما!
زينب (تستأنف حديثا سالفا) :
إذن ليس في الإمكان إيجاد أي وسيلة يا كمال بك؟
كمال :
كلا، بكل أسف يا زينب فقد بسطت لك المسألة بجلاء تام.
زينب :
وهل من الإنصاف أن يصبح مستقبل عائلة بأكمها مهددا بالخراب من أجل وشاية؟
كمال :
هذه هي النغمة التي يرددها جميع من كانوا على شاكلة ذلك المختلس تبريرا لما يرتكبونه، ليس في الأمر وشاية يا زينب هانم بل اختلاس جريء.
زينب (بصوت تنم نبراته على التأثر) :
ولكن ما ذنب المسكينة زوجته؟ وما هي جريرة الأبناء؟ تصور يا كمال بك عائلة مؤلفة من خمسة أولاد صغار، وتصور مصيرهم بعد الحكم على عائلهم.
كمال :
وما الذي نصنعه نحن؟ أو بالأحرى ما الذي تصنعه الحكومة في مثل هذه الحالة؟ إنه مسئول عنهم أدبيا وعليه وحده تقع مسئولية شقائهم وبؤسهم.
زينب :
إذن سوف أخبر والدته المسكينة أن لا وجه للخلاص.
كمال :
ولكنك يا زينب تكلفين نفسك مجهودا عظيما في سبيل الإشفاق عليه وعلى أولاده، (مبتسما)
لقد أصبحت سيدة كاملة ومع ذلك لا تزالين كما أعهده فيك منذ الصغر تندفعين في تيار المؤثرات لأقل الحوادث التي تحرك عاطفة الشفقة في النفس، بل ما زالت عيناك هما هما ترتجفان لأقل حادث، أتذكرين عصفورتك الصغيرة؟ لكم بكيت من أجلها عندما افترستها هرة شريرة ذات يوم!
زينب :
آه (برقة وتحسر)
نعم، بكيت يومئذ كثيرا وجزعت لموتها أشد جزع.
كمال :
ألا تذكرين كذلك أني أحضرت لك عوضا عنها عصفورة أخرى في سبيل التعزية؟ أوتذكرين أيضا كيف تولاني الشغف أنا الآخر بتربية العصافير بعد هذه الحادثة؟ إنني ما زلت أذكر أقفاصنا الصغيرة في الحديقة، تلك التي تكاثرت حتى غدت الحديقة كأنها حديقة الدواجن، وما زلت أذكر إلى اليوم كيف كنت تقفين أمام تلك الأقفاص بشعرك المرسل على الأكتاف وبثوبك الزاهي اللون.
زينب (تأتي بمحاولة تنم عن التملص من ذكريات الصبا) :
نعم، سأقول لوالدته : إنه لا سبيل إلى إنقاذه (تحاول الخروج)
لقد صدعتك قليلا؟
كمال :
أيضايقك التحدث قليلا مع صديق الصبا وزميل الطفولة؟
زينب :
كلا، ولم ذلك؟ (بشيء من التكلف)
هل أنتم مرتاحون في مركزكم الجديد بثغر الإسكندرية؟
كمال :
الإسكندرية ثغر جميل يا عزيزتي كل ما فيها ساحر جذاب، غير أنني أقيم في الناحية الهادئة منها، الناحية التي كان والدي شخصية معروفة فيها حيث انتخب عنها عضوا في الجمعية التشريعية.
زينب :
إذن يحق لي أن أقول بأنكم لا تشعرون فيها بشيء من السرور.
كمال :
بالعكس فإنني مغتبط بوجودي في الإسكندرية، ومسكني فيها محاط بحديقة فيحاء لا تقل عن حديقة قصر العائلة بحدائق القبة.
زينب :
أكاد لا أصدق يا كمال بك، أتغتبط اليوم بالإسكندرية وقد كنت في مقتبل صباك لا تحتمل المكث بها يوما بعد انتهاء العطلة المدرسية، كانت نصائح والدك في الالتحاق بمدارسها لتكون على مقربة منه تذهب مع الهواء، ألم تقل لي يومئذ إن الإسكندرية كئيبة حزينة مقبضة للصدر؟
كمال :
ذلك عبث الشباب، يكاد المرء لا يعرف حقيقة الأشياء الجميلة في مثل ذلك العمر، لقد كان لأوروبا خيال جذاب في ذهني فطرت إليها كما تطير الفراشة نحو المصباح، ولكنني ما لبثت أن عدت إلى بلادي بنفس متعطشة إلى استنشاق هوائها؛ ذلك لأنني تقدمت في السن فصرت لا أرى بريق ما كنت أراه خلابا.
زينب :
والأجدر أن تقول: إن أوروبا أحرقت جناحي الفراشة.
كمال :
لم تحرقها أوروبا فحسب، لكن ما لنا ولهذا حدثيني عن نفسك، عند أوبتي من أوروبا علمت بخبر اقترانك من شريف بك، وكنتما إذ ذاك في الخرطوم ويلوح لي بأنك تجولت معه كثيرا.
زينب :
نعم، تسعة أعوام، جبنا فيها أرجاء السودان إلى أن أصابني المرض.
كمال :
من أي مرض تتألمين؟
زينب :
الأعصاب، فالحمى، وأظن أنني مصابة بضعف القلب أيضا، إلا أن الأطباء يكتمون عني ذلك، وبالإجمال فقد جمعت تذكارات شتى من كل إقليم حللت به، وها نحن اليوم في القاهرة حيث انتقل زوجي من الحربية إلى الداخلية.
كمال :
قضيت إذن زهرة شبابك بين الصحارى والأدغال وسط الأحراش والغابات، وهل كان شريف بك يهتم بأمرك الاهتمام اللائق في تلك الأصقاع؟
زينب :
لقد اهتم بأمري كثيرا وبذل ما في وسعه في سبيل راحتي، ولم تبد منه في يوم من الأيام حادثة تدعو إلى إيلامي غير أنه كان يغيب كثيرا عن المنزل بحكم وظيفته العسكرية، فتارة يكون في الثكنات لتمرين الجنود، وتارة يكون في الجبال مقتفيا أثر العصاة والأشقياء وما كنت أشعر بالقلق لهذا الغياب إذ كنت أجد التسلية في تربية الدواجن، وبالأكثر كنت أتسلى بأشغالي اليدوية.
كمال :
نعم، نعم، ما أجمل تلك النفائس التي طرزتها يداك!
زينب (بلهجة تنم عن ارتياحها للتحدث في أحب الأشياء لديها) :
آه، لو رأيت ما أصنعه الآن لأخذتك الدهشة بلا ريب؛ لأنني تمكنت من هذه الصناعة وأتقنها كل الإتقان.
كمال :
أعلم ذلك يقينا فقد رأيت عند أختي علية مفرشا من صنع يديك، وأظن أنك كنت أرسلته إليها منذ عامين عندما كنت في «واد مدني».
زينب :
هل رأيت ذلك المفرش؟
كمال :
نعم، (بتردد)
ولشدة إعجابي بتلك القطعة الفنية توسلت كثيرا إلى علية لتهديها إلي، وهي اليوم في منزلي تكاد تكون أجمل زينة فيه.
زينب :
لقد طرزت تلك القطعة في بلدة «أم درمان» حيث توفي ابني البكر إثر المرض، لم يمهله أكثر من أسبوع واحد وكان شريف بك يعود من عمله الشاق منهوك القوى، فأصبحت تلك القطعة سميرتي في الليالي الطوال.
كمال (بصوت خافت عميق) :
سميرة الهموم، تفضين إليها بمكنون قلبك وهواجس نفسك، أليس كذلك؟ لقد قرأت ذلك في تلك القطعة الفنية البديعة، يا لها من قطعة تكاد تنطق بما أوحي إليها من ألم وأمل؛ ففيها مسالك الأمل المنتهية بأضيق السبل، فيها ما يشابه أيام العمر الطويلة المملة التي تنساب في بحر الزمن على نسق واحد، بالإجمال يا زينب هانم هي قطعة أودعتها الأنامل ثورة النفس تكاد لفرط الإبداع تتحدث وتبكي وتضحك، وتظهر ألوانا من الجلد والصبر، هل كنت تشعرين بالسعادة في تلك التنقلات؟
زينب (بتهيج) :
ما الذي يدعوني ألا أكون سعيدة؟ لقد كنت في أتم سعادة، (بعصبية)
ما الداعي إلى مثل هذه الأسئلة؟
كمال :
نعم، أنت على صواب فليس ما يدعو إلى ذلك، أتذكرين ليلة سفري إلى أوروبا؟ أتذكرين كيف خرجنا معا في نزهة قصيرة على القارب عند شاطئ البحر؟ أتذكرين خوفك وجزعك من مرور باخرة على مقربة منا، وكيف انخرطت في البكاء تلك الليلة لفرط ما نالك من خوف وجزع لتلك الحادثة؟ (يراها تلتفت إلى الجهة الأخرة لتكفكف دموعها)
ما هذا؟ ما الذي أصابك؟
زينب :
لا شيء، نسيت أن أخبرك بأنني أصبت بمرض في عيني أثناء أسفاري، إنها لتدمع على الدوام (تخفي عينيها بالمنديل) .
كمال :
دعيني أنظر.
زينب (باضطراب) :
ليس ما يدعو للاهتمام (تحاول الخروج)
سوف أغسلها الآن بقليل من الماء فينتهي الألم.
كمال (مقتربا منها بمصباح لمبة كهربائية على شكل تمثال يأخذها من المنضدة) :
اسمحي لي أن أرى، (عندما يرى الدموع في مآقيها)
آه لقد رأيت، لقد فهمت. (يأخذ المنديل من يدها فيكفكف دموعها ثم يدني منديلها إلى فمه بخفة ليقبله)
آه لو تعلمين أثر هذه القطرات في نفسي. (تضع زينب يدها على وجهها فتجهش في البكاء، ثم لا تلبث أن تعدو نحو الباب فيلحقها كمال ويعانقها في جنون.)
كمال :
كلمتان فقط يا زينب، بالله اسمعي.
زينب (وهي تحاول التملص من بين ذراعيه) :
لا، لا، دعني، دعني.
كمال :
دقيقة، لحظة، برهة صغيرة، لا تحرميني هذه النعمة.
زينب :
أرجوك، أتوسل إليك أن تتركني، لا يلبث أن يدخل علينا أحد فيرانا على هذه الحالة.
كمال :
سوف لا يرانا أحد، سوف لا يسمعنا إنسان؛ لأنني سأتكلم بصوت هادئ.
زينب (بصوت تخنقه العبرات) :
لا يا كمال، لا أريد أن تقول شيئا، لا تحاول ذلك لقد انقضى الأمر، حكمت على نفسي بأن أبتعد عنك حتى الممات.
كمال :
لا تحاولي التملص من يدي، لن أتركك تذهبين قبل أن أقول كلمتي، أحببتك يا زينب، أحببتك أعواما وما زلت محتفظا بحبي إلى اليوم.
زينب :
لا تحاول أن تخدعني يا كمال، لم تحب، لكنك شئت أن تعذبني، أردت أن تجرح قلبي وأن تتركه داميا، أردت أن أبكي من أجلك.
كمال :
هذه الفكرة التي تضمرينها نحوي هي التي تعذبني وتقطع نياط قلبي، كنت أعلم أنك على هذا الظن، فكنت لا أملك وسيلة تبدد سحابة هذا الوهم من نفسك، فيا لتلك الآلام يا لتلك اللوعة المضنية! يا لتلك الحسرات والزفرات التي تتملكني كلما شعرت بالعجز أمام ذلك الوهم القائم في ذهنك، دعيني اليوم أعترف لك بدخيلة نفسي، دعيني بالله هذه اللحظة أنثر بين يديك حشاشة قلبي، وأطرح تحت قدميك سري الرهيب لأزيح ذلك الألم الكامن في قرارة نفسي، لقد خفق قلبي من أجلك يا زينب - وأنت بعد صبية صغيرة تمرحين وتلعبين في حديقة منزلنا - لقد كنت أنا أيضا طفلا ناشئا لا يفقه شيئا من حقائق الحياة، كنت صبيا مغرورا يرى السعادة والشهرة والحب بل كل زينة خلابة في الحياة ملك يمينه، كبرت على الصبي أن يقف حياته للصبية الصغيرة التي خفق قلبه من أجلها، غير أن الفضل في بقائي، الفضل في نمو مداركي إنما يرجع إلى تلك الصبية التي نفخت في نفسي أول شعور سماوي. نعم، إلى تلك التي همست في أذني أول نغمة موسيقية من نغمات الحب، أدركت هذه الحقيقة بمرور الشهور والأعوام، لمست هذه الحقيقة بعد أن كبرت، وبعد أن قاسيت كثيرا في الحياة، ستضحكين مني إذا أنا سألتك هل تحبين السماء؛ ذلك لأنها دائما فوق رءوسنا لا تحدثنا الناس بفقدانها، أما إذا فقدناها إذا غابت عنا بشموسها وأقمارها ونجومها فكم تكون اللوعة شديدة؟ ولقد غدوت اليوم كذلك في حبي المقفر من الأمل، لم أعلم قدرك ولم أعلم مقدار حبي لك إلا بعد أن غابت السماء التي كانت تشع أنوار شموسها فوق أرجاء قلبي، لا أنكر أنني سببت لك الدموع والآلام كما تقولين، ولكنك لم تسألي هل أنا اليوم أسعد منك حالا؟
زينب (وهي تبكي) :
لماذا جئتني اليوم تحدثني عن هذه الأشياء التي ما كنت أرجوها وما كنت أحلم بها في يوم من أيامي يا كمال ؟ ما الذي تريده مني؟ لقد تعودت على حياتي الجديدة (تخفض رأسها بحزن)
رباه، كيف أستطيع الصبر بعد اليوم؟
كمال :
أنت إذن ما زلت مقيمة على حبي؟
زينب :
نعم يا كمال، وإنه لحب عميق، أليس من العار لامرأة متزوجة أن تقيم على حب لا غاية من ورائه، لا تلمني يا كمال، لقد تركت في قلبي أثرا لم تمحه الأيام، مكثت طوال السنين حانقة عليك أحاول النسيان بقلب جريح ولكنك لا تعلم شيئا عن حب النساء يا كمال، ذلك الحب الذي يدوم أبد الدهر، بلا غاية ولا أمل لن تفهم ذلك ولن تدركه بتاتا، لنفترق الآن، لنفترق، وسوف أعاني كثيرا، سوف أتعذب طويلا، لكنني أصارحك القول بأنني سأشعر بشيء من راحة القلب بعد اليوم.
كمال :
أتتركيني على هذه الحالة فريسة للآلام دون أن تلقي إلي بكلمة واحدة أغالب بها الوحشة في وحدتي، بالله لا تكوني قاسية إلى حد حرماني من الأمل، امنحيني ساعة واحدة من الزمن أتملى فيها بمشاهدة وجهك، اسمحي لي بساعة واحدة في مكان نأمن فيه أعين الرقباء لأنثر بين يديك كوامن النفس بلا خوف ولا وجل، هيا إنني لأنتظر من فمك العذب مثل هذا الوعد الذي ينزل على قلبي بردا وسلاما.
زينب :
إنك لتطلب المستحيل يا كمال، ستسافر إلى الإسكندرية غدا وأسافر أنا أيضا بعد غد لزيارة والدي في دمياط.
كمال :
بالله لا تفعلي، لا تهدمي صرح أملي، لا تتركيني على هذه الحال.
زينب :
لا سبيل إلى ذلك، أتريد أن أحضر لضيافتك بالإسكندرية؟
كمال :
بالله لا تقولي ذلك، لا توقظي في نفسي مثل هذا الحلم المستحيل، إنه لكثير منك أن تسخري مني إلى هذا الحد؟ كلا، كلا، لن أطيق احتمال هذا الحلم، أيمكن أن يكون؟ تكلمي يا عزيزتي، قولي: إنه مستحيل.
زينب :
ما قلت ذلك إلا لاستحالته، وإلا فهل كنت أجرؤ على التفوه به؟ لكنني رأيتك اللحظة تلمع عيناك ببريق السعادة عندما ذكرت لك ذلك، وما كدت أحدثك باستحالته حتى رأيت ذلك البريق ينطفئ سراعا (بسكون ورزانة)
سأنفذ بالفعل ما ظننته مستحيلا، سأصير الحلم حقيقة ملموسة، اعتزمت التضحية بكل شيء، سأحضر إليك في منزلك بل في منزلنا بالإسكندرية.
كمال :
أكاد لا أصدق، أيمكن ذلك؟! (يحاول أن يترامى على يديها.)
زينب (وهي تقاومه) :
ابتعد الآن، أسمع وقع أقدام. (تدخل الخادم نبوية.)
كمال :
ماذا تريدين يا نبوية؟
نبوية :
أبحث عن ستي علية (تتجه نحو الباب على اليمين وتنادي)
ستي علية ستي علية.
زينب :
دعنا نخرج إليهم في الحديقة (يخرجان) .
المشهد الخامس
علية - نبوية (قبل أن تخرج الخادم نبوية تدخل علية إثر صياحها.)
علية :
ماذا يا نبوية؟
نبوية :
سيدة تريد مقابلتك على حدة.
علية :
على حدة؟ أمر غريب؟ أين هي؟
نبوية :
عند باب الحديقة، وقد امتنعت عن الدخول.
علية :
ما شكلها؟
نبوية :
لم أر وجهها لشدة تحجبها بإزار قديم، لكن مظهرها يدل على أنها هانم، وقد لمحت في إصبعها خاتما ثمينا من الماس.
علية :
من تكون؟ دعيها تدخل وأخبريها بأنني في مكان ليس فيه أحد. (تخرج الخادم وتعود ومعها سنية متحجبة بنقاب سميك.)
المشهد السادس
علية - سنية
علية (متعجبة) :
أخبرتني الخادم بأنك ترغبين في مقابلتي من تكونين يا هانم؟ (ترفع سنية نقابها.)
علية (تصيح بدهشة) :
آه آه سنية! أبلتي سنية؟ كيف جئت هنا؟
سنية :
لا تضطربي يا علية، ألم تسمعي بما حدث لي؟
علية :
نعم، سمعت كل شيء.
سنية :
ألقوا القبض علي هذا المساء، لكنني تمكنت من الفرار بعد بضع ساعات من القبض علي، والتجأت أولا إلى مكان في جهة العباسية غير أنني أدركت أنه من الخطر الاختفاء هناك هذه الليلة؛ ولذلك ...
علية :
ولذلك ماذا؟ ما هذه الجرأة؟ كيف وصلت هنا؟ وما الذي جاء بك؟
سنية :
بالله أشفقي علي، أعلم يقينا بأن الواجب كان يقضي علي بعدم المجيء إلى هنا، لكنني أكرهت على هذا العمل، لقد انسدت أبواب الأمل في وجهي، لم أجد بين صديقاتي من أعتمد عليها في الالتجاء إليها، وفي اللحظة التي فكرت فيها بتسليم نفسي للقسم مرة أخرى ذكرتك يا علية، نعم ذكرتك في تلك اللحظة العصيبة وأنا في أشد الضيق والكرب، ذكرت حنانك وعطفك وفكرت في مروءتك وعلو نفسك، فلم أر بدا من الالتجاء إليك يا عزيزتي، أي إلى فتاة في السابعة عشرة، فإذا رفضت ...
علية :
لا أعلم ما أقوله، لا أدري، ولكن لا، إنه ليصعب علي أن أتركك وأنت في هذه الحالة، ولكنني لن أستطيع أن أفعل شيئا من أجلك، إن أخي كمال عندنا هذه الليلة وأنت تعرفينه، فإذا أخبرته بالأمر ...
سنية (تقاطعها) :
أهو هنا؟ لا، لا قد رجعت عن عزمي، دعيني أنصرف (تعدو نحو الباب) .
علية (تلحق بها وتمسك يديها) :
كلا يا عزيزتي، ما دمت التجأت إلي فلن أتركك. (صوت فؤاد): علية هانم، علية هانم. (تدفع سنية إلى باب في اليسار)
أسرعي، ادخلي هنا، ثم اصعدي توا إلى غرفتي فليس فيها أحد (سنية تغيب عن الأنظار) .
المشهد السابع
علية - فؤاد
فؤاد (يدخل) :
أنت هنا؟ نسيت أن أقول لك مسألة.
علية :
دع الآن ما تريد أن تقوله، واسمع ما أقوله أنا، لقد سنحت فرصة جميلة من أجلك.
فؤاد (بذهول) :
فرصة؟ أي فرصة؟
علية :
فرصة جميلة لإثبات شهامتك ومبلغ حبك لي، ولأرى إلى أي حد يمكنني الاعتماد عليك.
فؤاد (بذهول وتهيج) :
أنا رهين إشارتك في أي أمر يا علية، كلمة واحدة من فمك اللطيف كافية لإقدامي على إلقاء نفسي من أعلى نافذة في المنزل.
علية :
سوف لا أطلب منك مثل هذا الأمر الجسيم، سأطلب إليك الأخذ بيد امرأة بائسة وانتشالها من وهدة الضيق.
فؤاد :
أمرك وما تريدين.
علية :
إذن تعال معي (وتقوده إلى باب اليسار). (ستار)
الفصل الثاني
(ترتفع الستار عن غرفة صغيرة في منزل كمال بك في محرم بك بالإسكندرية ذات بابين على اليمين وعلى اليسار، وفي نهاية الغرفة بلكون مزين بالأزهار والورود على إحدى جدران الغرفة بندقية صيد.)
المشهد الأول
زينب - مريم
مريم :
كفاك تعبا يا سيدتي لقد أنهكت قواك، لا ريب أنني سأكون عرضة لتأنيب سيدي كمال بك لهذا التعب.
زينب (تدخل من البلكون وفي وسطها مريلة سوداء وبيدها رشاشة الزهور) :
كادت الزهور تذبل من قلة الري.
مريم :
ما رأيت سيدة في مثل نشاطك وهمتك يا سيدتي، تغيرت معالم المنزل في نصف ساعة فقط، أخشى أن يتوهم سيدي كمال بك عند حضوره أنه يدخل بيتا غير بيته.
زينب :
لماذا غاب كمال بك كل هذا الغياب؟ ألم تقولي: إنه سيحضر بعد نصف ساعة؟
مريم (تضحك برنة سرور وتعريض) :
وهل مضت النصف ساعة يا سيدتي الهانم؟ سيحضر حالا فلا تستسلمي إلى القلق، إنها لصدفة سيئة، يجلس كل يوم غارقا بين كتبه الساعات الطوال دون أن يسأل عنه إنسان لو رأيت يا سيدتي ارتباكه عندما طلب منذ هنيهة لأشفقت عليه، جلس منذ الصباح في نافذة الطابق العلوي يرقب بمنظاره قدوم القطار، وبينما هو على مضض الصبر والانتظار إذا بالباب يدق، وإذا هو مطلوب لمقابلة المحافظ في أمر مهم، اضطرب المسكين في أول الأمر واعتذر بأنه مريض لا يستطيع الذهاب، غير أنه بعد عشر دقائق جاء الرسول يقول بأن المحافظ يلح في طلبه، وأنه إذا لم يحضر فسيجيء هو إليه أثناء انصرافه إلى البيت، فجمع المسكين أوراقه وكلفني بأن أستقبل سيدتي الهانم ريثما يعود بعد نصف ساعة، يا للمسكين! لن أنسى حالة سيدي واضطرابه في هذا اليوم.
زينب (بتعب) :
حقا يا مريم قد تعبت فإن العمل بعد السفر الطويل أنهك جسمي.
مريم :
لقد نسيت أن تخلعي عنك المريلة يا سيدتي.
زينب :
لا أريد أن أخلعها؛ لأنني أرغب في مقابلة كمال بك وأنا في هذا الزي، (تشير إلى الباب المفتوح على اليسار)
ما أجمل الطابق العلوي يا مريم! يكاد الإنسان يشاهد جميع بساتين محرم بك وهو واقف في النافذة العلوية، حقا إنه منزل بديع يشابه أوكار الطيور في الأشجار العالية.
مريم :
وما فائدة الأوكار إذا كانت خالية من الطيور يا سيدتي الهانم؟ ألم تلاحظي كيف أشرق المنزل بأنوار السرور والنشاط في هذه اللحظة القصيرة لوجودك بيننا؟ كم نصحت لسيدي البك أن يجد له عروسا جميلة تليق بمقامه لكنه لم يعبأ بنصائحي، ولا أنكر عليك يا سيدتي الهانم أنه كان يساورني شيء من الارتياب لمعيشته، ألم أكن على حق؟ ألا يرتاب الإنسان في شاب جميل نشط أوتي حظا وافرا من الوجاهة والمال إذا ظل أعزبا؟ نعم، كنت أقول في نفسي لا بد أن يكون سيدي البك مغرما بصبية جميلة تحول دونه ودونها ظروف قاسية، ولكن كل شيء تبع القسمة وما هو مكتوب على الجبين لا بد أن تراه العين وها قد صدق ظني.
زينب :
كيف؟
مريم :
هل خيل إليك يا سيدتي الهانم أنني خادم فقط عند كمال بك؟ كلا، إنه ليخصني بمنزل الأم، لقد قص علي أمس كل شيء يتعلق بك وبسبب زيارتك.
زينب (بامتعاض ظاهر واضطراب خفي) :
ماذا قال عني؟
مريم :
إنك يا سيدتي الهانم أرملة أحد الباشاوات، وإنكما عازمان على الزواج بعد الانتهاء من مشكلة تتعلق بميراث وإن المشكلة سوف تنتهي على أحسن حل بعد ثلاثة أشهر أو أربعة على الأكثر، (بشيء من الغرور)
أرأيت كيف أعلم عنك كل شيء؟ إن سيدي كمال لا يكتم عني شأنا من شئونه، إنني عليمة بكل أسراره.
زينب (تضحك ضحكة الارتياح) :
حقا يا مريم الأمر كما تقولين، ولكن ليس للقسمة دخل في شأننا، (تحس بخطئها)
آه، كيف أستطيع إفهامك بالاختصار يا مريم، سنقترن ببعض في القريب العاجل، وقد حضرت اليوم لرؤية المنزل الذي سيصبح فيما بعد منزلنا المشترك، لكن إياك أن تبوحي بهذا السر إلى الهانم والدة كمال بك أو إلى أخته عندما تحضر واحدة منهما إلى الإسكندرية.
مريم :
اطمئني يا سيدتي من هذه الناحية فقد أوصاني بذلك كمال بك أيضا، إن فمي كالقفل المتين وصدري صندوق محكم الغلق لا ينفذ منه سر.
زينب :
إذن فأنت عليمة بأسرار أخرى لكمال بك؟
مريم :
أرجوك أن تقلعي عن هذا الوهم يا سيدتي الهانم، إن كمال بك مثال الوداعة والاستقامة فأي سر يكون لمثل هذا الشاب؟ تكاد جميع الفتيات الجميلات هنا يترامين على سيدي، ولكنه لا ينظر إلى واحدة منهن، ليس له في هذه الدنيا محبوبة سواك يا سيدتي الهانم وسوى محسوبتكم مريم، لكن أتوسل إليك يا سيدتي منذ اليوم أن تفكري في إبقائي لديكما بعد الزواج؛ لأخدمكما معا كما كنت أخدمه أيام العزوبة، إما إذا عولت على إقصائي عنكما فإنني سوف لا أحتمل الحياة إذ كيف أنساها بعد خدمتي لكمال بك، إنني لأكاد أطير فرحا منذ اليوم عندما أفكر في مصير هذا المنزل بعد وجودك فيه، سيكون بهيجا بلا ريب، وسيغدو جنة ترفرف فيها الملائكة الصغار، هل أعيش لأرى أطفال سيدي البك، فأنعم بتربيتهم وتدليلهم على أكتافي؟! (جرس الباب يدق.)
زينب (تقوم في عجلة) :
ها هو كمال، ها هو كمال سأفتح له الباب بنفسي يا مريم (تعدو نحو الباب، ولكنها تقف فجأة واضعة يدها على قلبها)
آه، لا أستطيع ذلك بنفسي، هيا اذهبي أنت يا مريم.
المشهد الثاني
زينب - كمال
كمال (يدخل الغرفة في حالة تعب) :
زينب.
زينب (في مثل اضطراب كمال) :
مهلا يا كمال، لقد اشتدت ضربات القلب (تشير إلى قلبها مبتسمة)
لقد كان وقع هذه الدقيقة شديدا على قلبي.
كمال (بتوسل وأنين) :
أنت، أنت يا زينب في بيتي؟ رباه ما أجمل هذا الحلم! يستحيل أن يكون ما أراه الآن حقيقة، هل طال غيابي؟ وهل طال انتظارك؟ لم يدعوني مستريحا حتى في يومي هذا. (يتأمل شكلها ويرى المريلة عليها)
آه، أكنت تنوين انتظاري مساء كل يوم في هذا الزي؟ أكنت سأجدك في مثل هذه الحالة تحاولين اليوم أن تفهميني مقدار الهناء الذي فقدته، يا له من انتقام مريع.
زينب (بتأثر عميق) :
كلا يا كمال، إنني لا أنتقم منك، إنما أنتقم لنفسي من سوء طالعي، أنتقم اليوم من دهري الذي حرمني تذوق هذا النعيم، أردت أن أتغلب في هذا اليوم على الدهر القاسي لأشرب - رغم إرادته - نهلة من كأس السعادة، لقد اختلست من الأقدار هذا اليوم، استعرت من الزمن الجائر يومي هذا لأشعر بأنني سيدة في دارك.
كمال (بنغمة حزن) :
وبعد اليوم غدا، وبعد غد، ماذا يكون شأني عندما تقفر هذه الربوع من أنسك اللطيف عندما تفترسني أنياب الوحشة؟ كيف أطيق؟ وكيف أتجلد؟
زينب :
لا تفكر في الغد، لك الساعة التي نحن فيها، لنا هذه الساعة، لنا هذا اليوم، فهيا مد يدك يا كمال وعاهدني وأقسم كما أقسمت.
كمال :
علام؟
زينب :
على أن تحتفظ بذكرى اليوم أحسن احتفاظ، فلا نعكر صفو جماله بسموم الألم ووخزات الندم، لكن، آه، لكنك غدا سوف لا تحبني مثل حبك اليوم.
كمال :
لماذا؟
زينب (متنهدة) :
طبعا؛ لأنني كنت في نظرك حتى اليوم المرأة الطاهرة العفيفة، أما غدا فسوف أغدو المرأة الخائنة لعهد زواجها، المرأة الخادعة لبعلها، وهل في مقدوري أو في مقدور أية قوة أن تمنعك عن احتقاري؟ هل في الإمكان ألا أعتقد غير ذلك؟ وألا أكون بعد اليوم في نظرك.
كمال (مقاطعا) :
أنت في نظري يا زينب.
زينب :
لا، لا يا كمال، لقد ماتت زينبك القديمة، ماتت وهي تطأ اليوم عتبة دارك، ولكنني لم أتأسف على موتها، سوف لا أبكي على فقدها، ولا أذرف عليها دموع الحزن بعد اليوم؛ لتمت لأنها كانت شقية بائسة تتعذب في جحيم من الآلام، ولا يدورن في خلدك يا كمال أنني طائشة سفيهة إذ حضرت إليك بمثل هذه السهولة، ولا يجولن في ذهنك أن تقول قد أحسنت صنعا عندما أحجمت عن الاقتران بها، أقسم لك بكل عزيز مقدس أنني ما كنت لأخونك، وما كنت لأقف اليوم مثل هذا الموقف الشائن لو أنك كنت زوجي ورفيقي في الحياة.
كمال (يلامس ذقنها مداعبا) :
ما أطهر قلبها! ما زالت طفلة معصومة.
زينب (تقترب منه) :
ما كنت أرجو يا كمال أن يكون قدومي إليك على هذا الوجه، ما كنت أرجو أن أحضر إليك متخفية متنقبة كاللصوص الذين يتسللون البيوت في خوف ووجل، وإنما كنت أتوق إلى القدوم إليك وأنا أجر أذيال ثياب العرس، قضيت أيام الطفولة وليالي الصبا أرتع في ظلام هذا الحلم، لكنك قضيت على هذا الأمل فلم ترغب في يدي، وأحجمت عن الاقتران بي، ولا أخفي عليك أنني لبثت أعواما حانقة عليك أبطن لك الحفيظة والحقد في طيات صدري، عازمة على نسيانك، معولة على تعويد نفسي محبة بعلي، لكنني لم أجد فيه الرجل الذي يفهم ألم نفسي ويقدر حالتي الروحية، وإذ ذاك صفحت عنك وصالحتك بيني وبين نفسي في أيام وحدتي، ثم بدأت أحبك يا كمال حبا صادقا عميقا، أحببتك دون أن يكون لي أمل في رؤيتك رأي العين وأنا على قيد الحياة.
كمال (يلاطفها ملاطفة المريضة) :
مسكينة يا زينب.
زينب :
ولقد تعمق أثر ذلك الحب في نفسي إلى حد أنك استطعت أن تكسر قيود صبري وتجلدي بنظرة واحدة، ببضع كلمات، فككت قيود صبري لتغلني من جديد بقيود أسرك، وهكذا تم لك الفوز فاجتذبتني إليك وجئت بي تحت أقدامك كالطير المصاب عندما يقع تحت أقدام الصياد، كيف جئت هنا؟ وكيف أقدمت على هذا العمل؟ لا أدري وإنما الذي أعلمه أنني كنت أمزح معك على غير روية فما كدت أقول لك اعتباطا: هل أحضر إليك في دارك؟ حتى وجدت وجهك يترقرق بشرا، وعندما ذكرت لك أن لا سبيل إلى ذلك تجهم وجهك وانقبض صدرك، فلم أتمالك نفسي إذ ذاك، لم أستطع التجلد، خشيت أن أقضي حياتي في ندم مريع إن أنا حرمتك وحرمت نفسي من هذا الأمل.
كمال :
إنني مدين لك بكل شيء يا زينب (يحاول أن يضمها إلى صدره) .
زينب (تمانع) :
لا، لا تقترب يا كمال، مهلا، ولا تظن أنني أبتعد الآن دلالا؛ لأنني أعلم تماما معنى حضوري إليك وما يترتب على هذا الحضور، لكن عليك أن تنتظر حتى يخيم الظلام، حتى نلتف برداء الليل فيغدو كل شيء شبيها بالأحلام، وسأفضي إليك الآن برغبة في نفسي، سأطلب منك أن تقسم لي بأنك تنزل عند إرادتي في تلك الأمنية.
كمال :
اطلبي ما تريدين يا زينب، واعلمي أن كل رغبة من رغباتك مقدسة عندي وكل أمنية لك مقضية، فما هي رغبتك؟
زينب (بعد تردد قصير) :
سأحدثك عن رغبتي فيما بعد.
كمال :
ولم لا يكون الآن؟
زينب :
هكذا أريد، والآن أتذكر يا كمال كيف كانت عادتي معك أيام الصغر عندما كنت أروم منك شيئا؟
كمال :
كيف أنسى ذلك يا عزيزتي، كنت إذ ذاك صبية خجولة كثيرة الحياء، وكنت تغطين عيني بيديك الناعمتين قبل أن تبوحي برغبتك.
زينب (ضاحكة) :
أتعلم لماذا كنت أصنع ذلك؟ لأتمكن من مشاهدة وجهك كما أريد على مقربة منك وأنت مغمض العين.
كمال :
ما زلت طفلة يا زينب، هيا حدثيني عما كنت تريدينه الآن.
زينب :
أما قلت لك فيما بعد؟ (متنهدة)
أما الآن فأريد أمرا آخر.
كمال :
إذن حدثيني عن الرغبة الجديدة.
زينب (محدقة في وجهه) :
أريد أن أقتلك يا كمال.
كمال (ضاحكا) :
أمنية غريبة أتقبلها منك بكل سرور، لكنني أرجو أن تمهليني يوما واحدا حتى الغد.
زينب :
نعم، أريد أن أقتلك يا كمال، وأن أقفل عينيك بيدي، وأن أهيل التراب على قبرك بنفسي، أريد ذلك لأنني أغار عليك. (يسمعون جرس الباب يقرع بشدة.)
زينب (يبدو عليها الاهتمام بقرع الجرس) :
من الآلام، ولا يدورن أنت قرع الجرس؟ من يكون القادم؟
كمال :
لا تهتمي بالأمر؛ لأن مريم ستصرف القادم أيا كان.
زينب :
أعلم ذلك، لكن المذنب المتخفي يضطرب لأقل حركة. (يطل كمال من النافذة وتقترب أيضا زينب فيمنعها من النافذة برفق.)
كمال :
أظنه أحد الجيران يريد الاستفهام عن أمر من الأمور، هيا اصعدي أنت إلى غرفتنا في الطابق العلوي، وسألحق بك بعد دقيقتين. (تدخل مريم أثناء خروج زينب من باب اليسار.)
المشهد الثالث
مريم - كمال
مريم (مضطربة وجلة) :
هل الهانم في الطابق العلوي؟
كمال :
نعم، ماذا جرى؟ من هؤلاء الواقفون على الباب؟
مريم :
مأمور القسم شكري أفندي يرغب في التحدث معك.
كمال :
أمر غريب، ما الداعي إلى طلبي في هذا الوقت؟
مريم :
لقد توجست خيفة من هذا القدوم الفجائي؛ لأنني لمحت وراءه بعض عساكر.
كمال (مقطب الوجه) :
ها أنا ذا قادم إليه (يسير خطوتين نحو الباب ثم يقف) ، والأفضل أن تخبريه بأن يتفضل هنا يا مريم، وتصعدين بعد ذلك إلى الهانم فإذا سألتك انتحلي لها أي شيء.
المشهد الرابع
كمال بك - شكري أفندي
شكري :
مساء الخير يا سعادة المفتش.
كمال (متظاهرا بالسكون) :
أسعد الله أوقاتك، تفضل يا شكري أفندي، أحمد الله حيث اهتديت أخيرا إلى زيارتي.
شكري :
يعلم الله كم أنا خجل لتقصيري في زيارتكم. (متلعثما وباضطراب ظاهر)
ليتني ما حضرت اليوم للتشرف بهذه الزيارة.
كمال :
خيرا؟ ماذا جرى؟
شكري (بحيرة وارتباك) :
آه يا سيدي المفتش، هناك ظروف قاسية تجعل الوظيفة صعبة في بعض الأحيان، ويعلم الله كم نحترمك ونقدر مواهبك، ومما يزيدنا إكبارا وتعظيما مكانة سعادة والدكم في الإسكندرية عموما وفي دائرة هذا القسم خصوصا، تلك الحقيقة التي عرفتها من علية القوم مذ تسلمت عملي بهذا القسم، كما أنكم مذ حللتم في هذا الحي الذي حرم من طلعة سعادة والدكم.
كمال (مقاطعا) :
أشكرك يا شكري أفندي، ولكن الغرض من زيارتكم الآن.
شكري :
كلفت من قبل سعادة البك الحكمدار، وهو يهدي سعادتكم السلام، هناك حادثة غريبة يا سيدي البك، وردت إلى الحكمدارية برقية منذ ساعة من حكمدارية بوليس مصر تتلخص في أن سيدة كانت موقوفة في قسم الوايلي بالقاهرة فرت من وجه العدالة، وأدت التحريات الأولية إلى الظن بأنها نالت تعضيدا وتسهيلا إلى الفرار من قبل سعادتكم.
كمال (بحدة) :
ما هذه السخافة؟ ما علاقة منزلي بسيدة تفر من سجنها؟
شكري :
أرجوكم الحلم يا سعادة المفتش، فأنا أؤدي واجب وظيفتي.
كمال :
لا أقبل اتهامي بمثل هذه التهمة الشائنة، وما كان بيتي ملجأ للفارين من وجه العدالة، ويمكنكم أن تقولوا ذلك لسعادة الحكمدار يا شكري أفندي.
شكري :
ولكن مع الأسف توجد مسألة أخرى يا سيدي البك، لأن القسم بدأ في تحرياته هنا بناء على أمر سعادة الحكمدار، وتبين له قدوم سيدة مع القطار الأخير تنطبق أوصافها على أوصاف السيدة التي فرت، ودلت التحريات أيضا أن هذه السيدة استقلت العربة رقم ... (يبحث في ورقة صغيرة بيده)
رقم 138 من المحطة إلى منزلكم.
كمال :
هذا أمر بعيد عن الصواب، لقد حضرت إلى منزلي سيدة، لكن كيف لكم أن تؤكدوا أنها هي بعينها التي فرت من القاهرة؟
شكري :
إنني لا أكابر يا سيدي البك، قد يكون الأمر كما تقولون ولكن جميع الأدلة ضدكم ، فإن البرقية تقول: إن السيدة كانت ملتجئة إلى منزلكم في حدائق القبة ليلة وجودكم هناك، ثم قدوم سيدة غريبة إليكم في نفس الساعة واليوم الذي ترد فيه البرقية، ودخول هذه السيدة إلى منزلكم، كل هذه الأمور كيف يمكن تعليلها؟
كمال :
ولكن السيدة نزيلتي ليست هي التي تبحثون عنها، إني أؤكد لكم ذلك.
شكري :
إذن فما عليكم إلا تكليف خاطركم بالذهاب مع السيدة نزيلتكم إلى القسم، حيث تثبت هناك شخصيتها فينتهي الأمر.
كمال :
لا سبيل إلى ذلك يا شكري أفندي، ليس في الإمكان تنفيذ هذا الأمر.
شكري (متحيرا) :
ولكن ما هو وجه الضرر في ذلك؟
كمال :
لا تستطيع نزيلتي أن تذهب إلى القسم ولا سبيل إلى إثبات شخصيتها؛ أي إنه ليس في الإمكان أن أذكر من هي.
شكري :
آسف إذا قلت: إنه ليس لدى الحكمدارية طريق آخر للحل.
كمال :
أرجو يا شكري أفندي أن تعتقد يقينا بأن السيدة نزيلتي ليست هي التي تبحثون عنها، أقسم لك بشرفي أنها ليست هي، ولكنني لا أستطيع أيضا أن أقول من هي، لأن واجب الشرف يحتم علي كتمان شخصيتها، فأرجوكم أن تفكروا في وجه معقول لحل هذه المشكلة.
شكري :
فكروا أنتم يا سيدي البك في الطريقة المعقولة لتنفيذها، ما أنا كما تعلمون إلا موظف يؤدي واجبه ويبدي أوامر صريحة؛ فلا تضيقوا في وجهي المسالك أو تحرجوني، السيدة نزيلتكم أوقفت بناء على أمر أصدرته إدارة الأمن العام، وأستطيع عدا ذلك بأن أقول لكم بصفة أخوية إن طائفة من الناقمين عليكم ألبوا فريقا من الأشرار لاستغلال هذا الموقف ضدكم؛ إذ ما كاد يذاع حادث البرقية الواردة من القاهرة حتى أسرع هؤلاء الخصوم إلى نشره بين حثالة الحي للنكاية بكم والتشهير بسمعتكم، الأمر الذي فشلت فيه محاولاتهم عندما رشحتم نفسكم لعضوية مجلس النواب؛ لتحتلوا ذلك المركز الذي خلا بوفاة سعادة والدكم، إنهم اليوم على ساق وقدم شمروا السواعد لمنازلتكم والحط من كرامتكم، صادفت أثناء قدومي إليكم بعض هؤلاء الزعانف يطوفون في الطرقات المؤدية إلى منزلكم، والحق أقول: إنهم أوغاد أشرار قد يكونون سببا في إحداث أمور تعكر صفوكم، ها أنتم يا سيدي البك ترون الآن وجه الخطر، وأن لا حل للمسألة إلا بالطريقة التي تشرفت بعرضها عليكم.
كمال (بشدة) :
لا يمكنني تنفيذ ذلك.
شكري :
ولكن الأوامر المعطاة لي صريحة يا سيدي البك.
كمال :
ليس أمامي في هذه اللحظة إلا أمر واحد، هو الإذعان لوحي القلب، والرضوخ لواجب الاحتفاظ بشرف نزيلتي، ومنزلي مصون من التعرض، وأصمم على القول بأن نزيلتي ليست هي الموقوفة عدوة الحكومة التي تبحثون عنها، وإذا حدث أي تعد ضد منزلي المصون قانونا فإنني سأقاوم.
شكري :
تقاومون؟ كيف؟
كمال :
بالسلاح.
شكري (بدهشة) :
ما هذا الذي أسمعه منكم يا سعادة المفتش؟! أرجوكم التروي فيما تقولونه كما أرجوكم سحب كلمتكم لأن عملكم هذا يعتبر ... يعتبر ...
كمال :
نعم، أخطروا سعادة الحكمدار بأنني عزمت ألا أسلم السيدة نزيلتي إلا إذا أسلمت روحي.
شكري :
ولكن ...
كمال :
ولكن لا شيء، ليس عندي ما أقوله أكثر من ذلك.
شكري :
حسنا، سأعرض عليه الأمر مع العلم بأنني مضطر لمحاصرة المنزل منذ هذه اللحظة، فلن يخرج منه أحد حتى صدور أوامر أخرى. (يخرج شكري أفندي بعد التحية.)
المشهد الخامس
كمال - زينب
زينب :
ماذا جرى يا كمال؟ ما الذي حدث؟ أخبرني بربك، أريد أن أفهم، أريد أن أعلم كل شيء (تشير إلى مريم الخارجة بهدوء من الباب اليمين)
منعتني هذه من الاطلاع على جلية الأمر ووقفت أمامي لتحول دوني ودون معرفة الحقيقة.
كمال (يحاول التجلد) :
لا شيء يا زينب، لا تخشي شيئا، ليست المسألة من الأهمية بحيث تستلزم التفكير فيها، إنها فقط سوء تفاهم بسيط.
زينب :
قلبي يحدثني بأنها ليست كما تقول، فإنك ممتقع اللون، هل علموا بوجودي هنا؟
كمال :
لا شيء من ذلك، في الأمر خطأ، بل هي صدفة ملعونة، أما شخصيتك فلم تكن موضع بحث بتاتا.
زينب :
إذن لماذا كل هذا الارتباك؟ أطلعني على الحقيقة يا كمال، أعدك بأن أتجلد، صارحني بربك، هل نحن في خطر يتهددنا؟
كمال :
نعم يا زينب، تهب الآن فوق رأسينا عاصفة من الخطر؛ فقد ارتابوا في أنني أخفيت في منزلي إنسانا هاربا من وجه القضاء، ولقد كان من السهل دفع هذه الريبة بكلمة واحدة، انطلاقها من فمي أشق من انطلاق روحي من جسدي، فأنا اليوم في أخطر ساعة من ساعات حياتي، أوقعتك بسبب طيشي ورعونتي في مهاوي التهلكة، ولكنني سأبذل روحي وما ملكت يداي في سبيل إنقاذك، سأضحي بكل شيء من أجلك، إنني في حاجة إلى شجاعتك وثباتك وتجلدك.
زينب (بخوف ووجل) :
بالله يا كمال لا تطالبني بما فوق مقدرتي، فكر في عجزي وضعفي كامرأة، كل ما أستطيعه هو التجلد، هو الصبر دون بكاء ولا انتحاب، افعل ما يتراءى لك، جاهد بكل ما تستطيع، تناساني في جهادك، دعني أتروى في ركن منعزل أنتظر عاقبة أمري. (جلبة وضوضاء خارج المنزل وأحجار يقذفها المتجمهرون، وتسقط قطعة حجر صغيرة على إحدى القصاري في البلكون وتتلوها أخرى.)
زينب (يشتد خوفها) :
ما هذا؟ (تحاول الذهاب نحو النافذة فيمنعها كمال.)
كمال :
لا تقتربي من النافذة.
زينب (تحاول التملص) :
كلا، أريد أن أرى ما يحيط بنا، أريد أن أعرف سبب التجمهر؟
كمال :
أتوسل إليك ألا تفعلي.
زينب :
كلا، أريد أن أعرف الحقيقة.
كمال :
يجب عليك أن تطيعي؛ فإنك ... (وبينما يحاول كمال منعها من الاقتراب تسقط قطعة حجر على زجاج البلكون، فينكسر وتقع القطعة وسط الحجرة، وتصرخ زينب صرخة ألم خفيفة متراجعة إلى الوراء، فإن شظية من شظايا الزجاج تصيبها في شفتها بخدش صغير.)
كمال (متراميا على يديها) :
هل أصابك مكروه؟ ماذا جرى؟
زينب (وهي تمسح نقطة من الدم على شفتها بمنديلها) :
لا شيء (متنهدة) ؛ لأنني ألاقي جزائي.
كمال (بعصبية وتهيج) :
ماذا؟ هل جرحوك؟ هل خدشوك اللئام؟ أنا السبب، آه من الأشرار، سوف ترين كيف أتقاضى منهم الثمن (يسرع إلى بندقية صيد معلقة على الحائط فيأخذها ويهجم بها على البلكون).
زينب (تترامى عليه) :
بربك لا تفعل ذلك، اقتلني أنا أولا.
كمال (يهزها وهو ممسك بمعصمها) :
لا، لا، نحن فيما بعد، بعد أن أنتقم من الأنذال.
زينب :
أتوسل إليك يا كمال، أبتهل إليك، أبتهل وأنا أقبل يدك بفمي الجريح.
كمال (تهدأ ثورته قليلا ولكنه يعود فتهيج ثائرته بين ذراعيها) :
دعيني يا زينب أطرح كلبا منهم، (يبكي من شدة الحنق)
لقد جرحت بسببي ونالك كل هذا من أجلي، فيا لشقاوتي!
زينب :
لا، يا كمال، إنك بهذا العمل تضرني ولا تنفعني، إنك لتدفعني إلى الهلاك فلا تنس وعدك الذي قطعته على نفسك، تجلد وكن قوي العزيمة. (جرس الباب يدق).
مريم (من خلال الباب) :
حضر جلال بك القاضي يا سيدي البك.
كمال :
اتركيني لحظة قصيرة يا زينب. (يشير إلى باب اليسار)
اصعدي إلى الغرفة. (زينب تخرج.)
المشهد السادس
كمال - جلال (جلال قاض بمحكمة الإسكندرية ومن أعز أصدقاء كمال.)
جلال (يدخل الغرفة مسرعا) :
ما هذا الخطب يا صديقي؟ ما هذا البلاء الداهم يا عزيزي؟
كمال (يمد يده بيأس) :
لقد جئت في الوقت المناسب، ما هذا التجمهر في الخارج؟
جلال :
جمع من حثالة الناس ألبهم عليكم الخصوم إلا أن البوليس شتت شملهم الآن، (يرى قطع الزجاج)
إذن قذفوا المنزل بالحجارة يا لهم من أنذال!
كمال :
لا تهتم بذلك وإنما خبرني هل من جديد؟ هل علمت شيئا جديدا؟
جلال :
سمعت بالحادثة وأنا في المحكمة منذ نصف ساعة فأسرعت إلى القسم ومنه إلى الحكمدار، ويلوح لي أن المسألة خطيرة فسوف لا نستطيع إنقاذ سنية هانم.
كمال (متحيرا) :
من تكون سنية؟ أهي التي يبحثون عنها تسمى سنية؟
جلال (متحيرا أيضا) :
إذن أليست السيدة نزيلتك تسمى سنية هانم؟
كمال :
كلا يا عزيزي.
جلال :
ومن تكون إذن؟
كمال :
هذا ما لا أستطيع أن أبوح به حتى إليك.
جلال :
أنسيت أننا أصدقاء حتى لنكاد نكون إخوة؟!
كمال :
نعم، ولكن واجب الشرف يدعو إلى كتمان اسمها حتى عن أعز الأصدقاء.
جلال :
ما أغرب ذلك! لقد شرحوا لي المسألة بالتفصيل وأطلعوني على البرقيات الواردة من القاهرة؛ ولذلك كنت مقتنعا بأن نزيلتك هي سنية.
كمال :
ما هي التفصيلات التي وقفت عليها؟
جلال :
علمت من الأوامر الواردة أنهم في القاهرة بعد فرار سنية أخذوا يبحثون في الأوراق التي عثروا عليها في منزلها، فوجدوا بينها خطابات بإمضائك ...
كمال (بخشية) :
ماذا؟ ماذا تقول؟ (يتجه نحو الباب الذي دخلت منه زينب فيغلقه)
تكلم بصوت منخفض.
جلال :
وقد استدلوا من هذه الخطابات على وجود علاقات قديمة بينك وبين سنية هانم.
كمال :
صدفة غريبة.
جلال :
وقد تمسكت إدارة المباحث بهذا الأثر فارتابت بوجودك في القاهرة يوم فرارها، وأخذت في عمل التحريات حتى توصلت إلى معرفة أن المتهمة التجأت أولا إلى منزل بحي العباسية، ثم إلى منزلكم القريب من تلك الجهة بحدائق القبة في نفس الليلة التي قضيتها بالقاهرة.
كمال :
أكاد لا أصدق من شدة الحيرة وقائع هذه الصدفة الغريبة، أتثق بي يا جلال؟ تعلم أنني لا أكتمك سرا من أسراري، إن النزيلة التي عندي ليست سنية، إنها سيدة أخرى طاهرة بريئة يحتم علي الشرف كتمان شخصيتها؛ ولذلك يجب أن أدافع عنها.
جلال :
سنبذل ما في وسعنا لذلك، هذا مؤكد، ولكن شكري أفندي المأمور حدثني عن فكرة خطيرة، عن أمر مريع تنوي تنفيذه، وما أظن الفكرة إلا هاجسا فقط من الهواجس التي تنتاب الإنسان في أوقات اليأس.
كمال (بسكون) :
إنه لعزم أكيد إذا لم أجد وسيلة أخرى.
جلال :
لا، لا يا كمال، أقلع عن مثل هذه الأفكار المريعة، إن الحكمدار رجل عاقل وأنت تعلم علاقاته الودية مع المرحوم والدك، فأنا ذاهب لأتوسل إليه وأظن أنه سيكتفي بوضع الحصار على المنزل يوما واحدا، وما دام لا يستطيع اتخاذ القوة ضدك بعد إجابتك الأخيرة، فسوف ينتظر أوامر جديدة من القاهر، ولذلك ستربح يوما.
كمال :
وبعد هذا اليوم، ماذا تكون النتيجة إذا لم يتمكنوا من القبض على المجرم الحقيقي؟
جلال :
كل يوم هو في شأن، وقد بدأت فعلا في التدابير اللازمة؛ لأنني بعد مقابلتي لشكري أفندي تذكرت أن أحد أنسبائكم تعين حديثا في منصب مساعد الحكمدار في القاهرة، وخطر ببالي أن مثل هذه الأمور يمكن تسويتها على أحسن وجه بين الأهل والأقارب.
كمال :
إياك أن تفكر في مثل هذا الأمر.
جلال :
لا يا كمال، علينا أن نستعين بكل التدابير الممكنة في مثل هذه المواقف الحرجة والظروف السيئة، لأن الحكمدار سيطلب من القاهرة أوامر جديدة عقب عنادك في الإذعان والخضوع، ولذلك في استطاعة نسيبكم شريف بك أن ينهي المسألة.
كمال :
حذار يا جلال، حذار أن تفعل ذلك.
جلال (مذهولا) :
ولكنني لم أنتظر تحذيرك هذا؛ لأنني أرسلت له منذ هنيهة برقية طلبت فيها أن يسرع بالحضور لإنقاذك.
كمال (يصيح بتأثر وهياج) :
آه ماذا فعلت يا جلال؟ ماذا ارتكبت يا جلال؟ إن المرأة التي في منزلي هي ... آه، ستكون سببا في سفك دمي.
جلال :
ماذا تقول؟ إذن السيدة التي عندك؟ آه.
كمال :
أسرع، أسرع بالله يا جلال، استرجع البرقية، افعل كل ما تستطيع لاسترجاعها.
جلال :
رباه، ما هذه الظروف القاسية؟ ما هذه الصدمات العنيفة؟ (يجري مسرعا ويخرج من الباب.)
المشهد السابع
زينب - كمال
كمال (يرى زينب واقفة بجانب الباب مرتبكة فيخطو نحوها) :
هل أنت هنا؟ إذن قد سمعت الحديث.
زينب (تشير إليه بيدها تمنعه من القدوم نحوها) :
آه يا عديم الإحساس، (لا تتمالك أن تقف وتكاد تسقط فيسارع كمال لمعونتها فتتراجع إلى الوراء بتوحش)
إليك عني، لا تقترب مني، اغرب عن وجهي.
كمال (مضطربا) :
ماذا يا زينب؟ كيف أوضح لك الأمر؟ حظي سيء، موقفي عصيب.
زينب (ترمي بنفسها على أحد المقاعد بتعب) :
كفى يا كمال، كفى، المروءة الأخيرة التي أنتظرها منك ألا تحاول خداعي بعد ...
كمال :
ما هذه الأقوال يا زينب؟ أترتابين بي؟ هل كان مقدورا علي أن أسمع ذلك منك أنت؟
زينب (بتوجع كأنها تشكو إلى نفسها) :
ما أفظع ذلك يا ربي! أيعجبك ما تفعله يا كمال؟ طبعا يعجبك؛ لأنه انتصار مريع، فوز باهر على امرأة ضعيفة لا حول لها ولا قوة، وكيف لا يحق لك بأن تبتهج؟ ألم تتمكن من نفس امرأة عاجزة فدفعتها إلى معاداة أهلها وكراهة بعلها والانتقام من خدرها؟ ألم تكن مبدعا حين فزت على هذه المرأة؟ فألقيت بها إلى مواطئ قدمك بكلمة واحدة؟ أبهذا تمتازون عنا يا معشر الرجال ؟ أبمثل ذلك تفضلوننا؟ أهذه الشهامة التي تدعون؟ أهذه المروءة التي تتشدقون؟ وهل الدماء خضاب أيديكم؟
كمال :
لا تحيدي عن طريق الحق والإنصاف يا زينب، لقد أفقدك اليأس طريق الصواب، لا أنكر أنني اجترمت في حقك ولكن غرامي ...
زينب :
نعم غرامك، غرامك بي، غرامك بسنية، غرامك بمئات البائسات اللواتي لا أعلم عنهن شيئا بعد، ولكن لماذا أشكو؟ فأنا المجرمة، وهذا جزائي.
كمال :
بالله لا تقولي هذا يا زينب، لا أنكر أنه كانت بيني وبين سنية علاقة من ستة أعوام غير أنني، أرجو أن تكوني منصفة، أي شاب في الحياة لا ينزو به الطيش أيام شبابه إلى مثل هذه العلاقة؟ وهل لتلك العلاقة أن تقاس أو تقارن بالرابطة الأزلية التي تربطني بك؟ تلك كانت جريمة الشباب التي ...
زينب (مقاطعة) :
التي أتحمل أنا اليوم عقابها ... لا بأس؛ فأنا وأنت اليوم سعيدان، أنا سعيدة لأن زوجي سيقتلني ولأنني سأتخلص ... وأنت ... أنت سعيد بظفرك الباهر (تتنهد بحقد)
وإنه لظفر باهر وايم الحق ... تصور يا كمال بك مجيء زوجي إليك مرفوع الرأس في غرور الرجل القادم لتأدية وظيفته، يتقدم إليك ليلقي القبض على خليلتك، فترفع أنت الرأس أيضا في غرور وتصفعه بقولك: «أتريد خليلتي، ها هي الخليلة.» فتقذف بي ... تقذف بزوجته تحت قدميه (يزداد هياجها)
ومن يدري؟ ربما كانت لك مآرب أخرى، ربما كان في الأمر دسيسة محكمة التدبير.
كمال (مادا ذراعيه بتوسل) :
زينب.
زينب (بتوحش) :
نعم، ولم لا تكون دسيسة أحكمت تدبيرها؟ إنها دسيسة بلا ريب مدبرة لتضليل زوجي ريثما يتسع لديك الوقت لتهريب الأخرى.
كمال (متوسلا بحرارة) :
قليلا من الإنصاف يا زينب؟
زينب :
ومن المحتمل أنك دبرت هذا الأمر لتخير زوجي بين الفضيحة وبين إطلاق سراح سنية، نعم أنا اليوم رهينتك، شرف زوجي رهن يدك لإنقاذ سنية.
كمال (بتأوه وأنين) :
كفى يا زينب، لم يبق في جسمي قطعة لحم لم تنزف دماؤها، سترين يا زينب كيف أبرهن لك عن سوء ظنك بي، سأبرهن لك ذلك بدمي.
زينب (تشير بيدها إلى الباب وتتأهب للخروج) :
سآوي إلى تلك الغرفة وسألازمها حتى الصباح بمفردي، أجل بمفردي، لأقضي ليلتي الأخيرة في انتظار القصاص.
كمال :
زينب، زينب.
زينب :
سأقضي ليلتي لأول مرة في حياتي بقلب مقفر عن ذكرك وخيالك.
كمال (مغطيا وجهه بيديه) :
آه يا ظالمة. (ينزل الستار.)
الفصل الثالث
(نفس الغرفة - في اليوم التالي قبيل المساء.)
المشهد الأول
كمال - جلال - مريم (يرتفع الستار عن كمال وهو جالس أمام المنضدة مستغرقا في الكتابة وبيده لفافة تبغ.)
مريم (تستقبل جلال بك من باب اليمين) :
تفضل يا سيدي البك (تخرج مريم).
كمال (دون أن يرفع رأسه أو يلتفت نحوه) :
جئت يا جلال، لقد أخفقت أيضا في تنفيذ الفكرة الأخيرة أليس كذلك؟ (يأتي جلال بحركة يأس ويأخذ كمال في إغلاق ظرف كبير في يده، ويستمر في الحديث وظهره إلى جلال)
لقد كنت مقدرا هذا الإخفاق من قبل، ولكن الواجب كان يقضي علينا أن نطرق كل باب من أبواب الأمل.
جلال (بفتور) :
قد ناضلت وكافحت كثيرا يا كمال، وساعدني كل أصدقائي ولكن ذهبت مساعينا أدراج الرياح.
كمال :
نعم، كان علينا ألا نفكر في مسألة الفرار بتاتا.
جلال :
أجل، فإن النجاح لم يكن مضمونا، أرأيت يا عزيزي كيف أنك لم تكن موفقا عندما قلت لي بالأمس: إن المال كفيل بحل كل مشكلة، هناك مسائل لا يذللها المال.
كمال (بصوت متقطع كمن يفكر في أمر) :
نعم، طبعا، لا يبعد أن يكون الأمر كما تقول.
جلال :
ظننت أنني سأراك في حالة عصيبة وما قدرت أن ألاقيك على هذا الحال من السكون تقابل نبأ الإخفاق بمثل هذا الهدوء، والحقيقة ...
كمال (يلتفت إليه) :
الحقيقة يا عزيزي أن اليأس إحدى الراحتين، لا يبلغ اليأس من الإنسان ما يبلغه ارتباك الفكر واضطراب العزيمة، وعدم الاستقرار على أمر بات، إن الاقتناع بقبول الأمر الواقع على ما فيه من ألم مدعاة إلى السكون، وليس ما يدعو إلى تعريفك بنفسيتي وأنت أعلم الناس بها؛ إذ لو كان الأمر يتعلق بي وحدي، أي لو أنني كنت أنا الوحيد أمام العاصفة، لما اضطربت كل هذا الاضطراب.
جلال :
لا ريب في ذلك.
كمال :
وما كنت بالطفل الذي يتمسك بأهداب الحياة لولا ...
جلال :
هذا صحيح، لو لم تكن هناك امرأة محبوبة يجب إنقاذها.
كمال (يخفض رأسه يائسا مستسلما) :
نعم، هي التي جعلتني ذليل النفس، هي التي دفعتني إلى النضال والجهاد منذ ليلة أمس، هي التي صيرتني أتنازل إلى البحث عن أمثال تلك الوسائل الذليلة ... (برهة يسود فيها السكوت.)
جلال (بتردد) :
حدثني عن عزيمة تريد تنفيذها، أهو عزم صائب؟
كمال :
لا أعلم بعد أهو عزم صائب أم سخيف، ولكنني أرى أنه واجب التنفيذ، لأنه الوسيلة التي أوحى بها القلب واهتدى إليها العقل، والآن أصغ إلي جيدا يا جلال (يتلاعب بطرف من ثياب صديقه دون أن ينظر إلى وجهه)
أريد منك الخدمة الأخيرة.
جلال (متلعثما) :
الأخيرة؟ ما معنى ذلك؟ لماذا تكون الأخيرة؟
كمال :
ستفهم السبب، ها قد وصل القطار، فلا يلبث شريف بك أن يحضر، أريد مقابلته وجها لوجه.
جلال :
كيف يكون ذلك؟ هل في الإمكان أن أدعكما تتقابلان مع علمي بالموقف، لا أستطيع ذلك بتاتا، وفضلا عن ذلك فقد كنت على غير قصد مني سببا في أكبر جرم ارتكبته إلى اليوم، فدعني أتلافى ما ارتكبته من الخطأ، سأقابله بالنيابة عنك يا كمال فأحاول إقناعه بأن نزيلتك ليست هي سنية هانم المطلوبة.
كمال :
دعك من هذه الأفكار الصبيانية.
جلال :
وإذا فشلت في إقناعه ألجأ بطبيعة الحال إلى إفهامه حقيقة الأمر، فمن المحتمل أن يكتفي بطلاق زوجته، وإذا أصر على مقابلتك فسوف أحول دون بغيته بكل الوسائل الممكنة.
كمال (بإشارة قاطعة) :
الأمر يتعلق بنا نحن الاثنين، فليس من حقك التدخل.
جلال :
ولكن يا كمال أنت تجازف بحياتك متعمدا، لأنك ستعطيه الحق القانوني عليك.
كمال :
ليس شريف ذلك الرجل الذي يحاول الاستفادة من مثل هذا الحق، اسمع يا جلال، لقد فكرت طويلا في هذا الأمر، وقلبت جميع وجوهه، فلم أر سوى طريقة واحدة تجعلني في حل من مقابلته وجها لوجه، وهي تسليم نزيلتي إلى رجال البوليس قبل حضوره، ولكنني لا أقوى على ارتكاب مثل تلك الدناءة حتى ولو كانت أخرى ليست لها تلك المنزلة السامية من نفسي، أتراني منحطا سافلا إلى هذا الحد؟ وهل من الشهامة للرجل الشريف أن يتسفل لارتكاب هذه الدناءة؟ فها أنت يا جلال ترى أنه لا مناص لي من مواجهته بنفسي، سأخبره أن نزيلتي ليست سنية فإن لم يقتنع وهذا ما أنا على ثقة به؛ لأن الأدلة متوفرة ضدي إلى حد بعيد، مما سيدفعه إلى المغامرة في القيام بنفسه أو بواسطة رجاله إلى استعمال القوة، وهنا سأقاوم نعم، سأقاوم بالسلاح (يأتي جلال بحركة استنكار)
سأقاوم يا جلال لا لغرض الفتك أو رغبة في قتل أحد، وإنما في الهواء ستكون الطلقات لأتوصل بذلك إلى قتل نفسي، ولكي لا أرى المأساة التي ستمثل هنا بعد موتي، هل فهمت؟
جلال (باضطراب) :
ولكن هي؟ إنك تزجها في أحرج موقف عندما تدفع بنفسك إلى الموت.
كمال (بسكون) :
نعم، الأمر كما تقول، ولكن ... (مشيرا بيده إلى دماغه)
بعد أن يتهشم هذا لا يبقى في داخل القلب ما ينهشه (يضحك بعصبية) ، ومع ذلك ألا يكفي الدم للتكفير عن الذنوب الماضية والمستقبلة؟
جلال :
هذا فظيع، إنه لجنون محض، لا أطيق أن أحتمل ذلك.
كمال (مبتسما في حسرة ومداعبا صديقه) :
لا تكن طفلا يا جلال ولا تسترسل في الإحساس كل الاسترسال، أنت تعرفني تماما، لن أحيد عن هذه الخطة مهما كانت العاقبة، وما أريده منك أن تقوم غدا في قطار الصباح إلى القاهرة لتكون عند أهلي قبل وصول أخبار الحادثة، فتجمع أختي وأمي وتنبئهما أولا بأنني جريح طريح الفراش، هكذا أوصلوا إلينا نعي والدي الباشا منذ أعوام، وبعد ... (بتعب)
وبعد ... أترك لك التصرف في الباقي حسبما يتراءى لك، لقد جمعت كل أعمالي الرسمية والخصوصية وجميعها داخل هذا المظروف، وغدا (يبتسم ابتسامة مرة)
سوف لا تحضر حفلة عرسي بطبيعة الحال، إنما أرجوك أن توصي أهلي بنقل رفاتي إلى تلك المقبرة النائية التي بنيت حديثا في مدفن العائلة، نعم، هناك في ركن هادئ من أركان المقبرة (لا يتمالك جلال نفسه فيترامى على صديقه باكيا معانقا ويأخذ كمال في مداعبة شعره)
ما زلت طفلا يا جلال ... أمر آخر أحذرك منه تمام التحذير، إياك أن تحدثك نفسك بأن تقوم بإحباط مشروعي قصد إنقاذي، إنك بذلك إنما تلجئني إلى تنفيذ القرار بيدي، هيا الآن نتعانق (يتعانقان ويخرج جلال والمنديل على وجهه) .
المشهد الثاني
كمال - مريم
كمال (يلمح مريم تبكي بصوت خفيف عند الباب الذي خرج منه جلال) :
لماذا تبكين يا مريم؟ هل كنت هناك؟
مريم :
رأيت جلال بك يبكي أثناء خروجه فلم أتمالك نفسي فبكيت أنا أيضا، آه يا سيدي البك، ماذا يكون حالنا؟
كمال :
لا يكون إلا الخير إن شاء الله.
مريم (بصوت متقطع) :
إن شاء الله، إن شاء الله.
كمال :
هل تفقدت زينب هانم؟ كيف حالها؟
مريم :
زينب هانم كما هي منذ الأمس، ساكتة لا تتكلم ولا تنطق بحرف واحد ... حاولت كثيرا في إقناعها بأن تتناول قليلا من الطعام فأبت، حتى اللبن رفضت أن تشرب منه شيئا ... وكاد اسمك يجري على لساني فرأيتها تجزع في خوف.
المشهد الثالث
كمال - زينب (تدخل زينب باهتة اللون هزيلة وتقترب ببطء فتنسحب مريم.)
كمال (بصوت مرتعش) :
ما هذا النحول يا زينب؟ أفي ليلة واحدة يعتريك هذا الاصفرار؟ (تجلس زينب على مقعد بشيء من الإعياء، ولا يجرؤ كمال على الاقتراب منها.)
زينب :
لقد سمعت صفير القطار، فأصبح على وشك القدوم، أليس كذلك؟
كمال (يخفض رأسه ويتكلم بصوت خافت كأنه مجرم يعترف بذنبه) :
لقد بذلت كل ما في وسعي يا زينب ... ناضلت طول ليلتي، وضعت حياتي ومستقبلي وشرفي في سبيل النجاة ... بذلت كل ما يستطيع أن يبذله الإنسان.
زينب :
وقد أخفقت مساعيك، أليس كذلك؟ كنت أقدر ذلك.
كمال :
ومع ذلك فما زال أمامنا بريق من الأمل، هو آخر جهد، قليل من الصبر يا زينب.
زينب (تبتسم ابتسامة حزينة وتعتمد برأسها على يديها) :
لا أمل حتى الصبر، لقد خارت قواي حتى أصبحت لا أحتمل الكلام، نزلت هنا لأنتظره بنفسي يا كمال، عليك أن تنسحب أنت، وأن تفسح الطريق أمامي لاستقباله، يجب أن أكون هنا أول من يقع عليه نظره، ستكون الصدمة عنيفة بلا شك، والضربة قاسية بلا ريب، ستكون آلامي شديدة عندما أتجلد لأتلقى نظرة الحيرة والدهشة التي سيصوبها إلي سهاما قاتلة، ولكنها بالرغم من ذلك سحابة صيف سوف تمر.
كمال :
كيف ... أتجرئين على ذلك يا زينب؟
زينب :
لقد كان ذلك أمس من الصعوبة، بل من الاستحالة بمكان، أما اليوم فقد تبدلت كثيرا، تغيرت نفسي هذه الليلة ... نعم، سأخرج إليه، سأطرح رأسي عند قدميه ليسحقها بنعليه.
كمال (متأثرا) :
أتكونين كالضحية التي تنتظر السكين معصبة العينين؟
زينب :
هذا ما لا بد منه، إنه نصيبي من الحياة، ما دمت المرأة التي تحاول أن تخون عهد الزوجية.
كمال :
ما زلت تفكرين كالأطفال، أتحسبين أنه من الممكن أن يمسك إنسان بسوء وأنا حي بعد؟
زينب (بتسفيه) :
أنت؟ ربما، ولكن من تكون لي؟
كمال :
لا تكوني قاسية إلى هذا الحد يا زينب، أرجوك أن تصبري نصف ساعة فقط، لو تمهلت قليلا لغيرت فكرك، والآن بربك اصعدي مكانك.
زينب :
كلا، سأمكث هنا لأنتظر قدومه.
كمال :
إذن سأخرج أنا إلى الشارع لانتظاره خارج المنزل لتأدية الحساب.
زينب :
بالله انتظر يا كمال، لقد قاسيت كل هذه المتاعب من أجلك فلا تكن معي قاسيا إلى هذا الحد، أريد أن أكون أول من يقابل زوجي. (صوت عربة تقف - الجرس يدق بشدة.)
زينب (تركض إلى النافذة ثم تتراجع مذعورة كالأطفال) :
آه ... هو، هو، حضر، حضر. لا تتركني يا كمال، أوصد الأبواب، مر الجنود أن لا يدعوه يدخل، سيقتلني ... آه سيقتلني ... (يغمى عليها وذراعاها على كتفي كمال.)
كمال (يرفعها بين ذراعيه ويدخل بها الغرفة التي على اليسار) :
لقد أغمي عليها، يا لحسن الحظ!
المشهد الرابع
مريم - شكري أفندي - شريف بك - وبعد كمال
شكري (لمريم) :
أخبري كمال بك بقدومنا (تخرج مريم من اليسار)
أرجوك يا سعادة البك أن تجد حلا لهذه المشكلة، فإنكما على كل حال أقرباء، وربما استطعت أن تحمله على الإقلاع عن عناده.
شريف :
اتركنا معا على انفراد. (وبينما يخرج شكري من اليمين، يدخل كمال من الشمال فيؤديان التحية من بعيد.)
شريف :
آسف جدا لحضوري إليكم في مأمورية مؤلمة، ولكنكم من الرجال الذين يقدرون موقفي حق قدره، وصلتني أمس برقية من أحد أصدقائكم مع أنني كنت عازما على الحضور بنفسي قبل استلامي تلك البرقية.
كمال (متجلدا وفي شيء من الغرور) :
لقد أرسل ذلك الصديق تلك الرسالة على غير علم مني ... فإن لي من عزة النفس ما يحول دون استغلال القرابة في مثل هذه الظروف.
شريف :
هذا ما أعتقده فيكم (ببرود وبسرعة)
إن السيدة سنية هانم المتهمة في الاشتراك بجريمة المؤامرة ... والتي تحققنا من التجائها إليكم، موقوفة بقرار وزير الداخلية، أما أنتم فقد تقررت محاكمتكم دون إيقافكم بتهمة تشجيعكم على تسهيل الفرار لها ...
كمال :
ما زلت مصرا في ادعائي بأن السيدة التي هي في منزلي الآن غير سنية التي تبحثون عنها.
شريف :
إنني كإنسان عادي أستطيع أن أقدر عملكم هذا، ولكنني كموظف مسئول عن أداء واجبه أجدني معذورا إذا أنا لم أفهم وجهة نظركم هذه.
كمال :
أقسم لك يا شريف بك بكل عزيز مقدس لدي بأن السيدة نزيلتي ليست سنية (يكمد شريف وجهه بعلامة تدل على عدم الاقتناع)
إنكم لا تريدون أن تقتنعوا، ومن العبث أن أحاول إقناعكم، إنني يا سيدي أمتنع عن تسليمكم السيدة التي في منزلي.
شريف :
لا تفعلوا ذلك يا كمال بك؛ لأنكم تلجئونني إلى القيام بواجبي قسرا.
كمال :
كما تريد، كما تشاء (يسرع بإقفال باب اليسار)
سأقاوم بالسلاح.
شريف (بعصبية وبصوت أجش) :
ما هذا يا كمال بك؟ عملكم هذا عصيان في وجه القانون، فكروا فيما تقولونه، إن عائلتكم وشخصكم وشرفكم كل ذلك له مكانة عندي من الاحترام والتقديس؛ ولذلك سأتجاهل تلك الأقوال، سأنكر سماعها، سأنسى هذه النغمة التي تشف عن الإجرام.
كمال (بتهور) :
لم يبق عندي ما أقوله. سأدافع عن هذا الباب بالسلاح.
يمكنكم أن تدمروا مسكني بالقنابل، يمكنكم أن تشعلوا فيه النار، ولكنكم لا تستطيعون اجتياز هذا الباب وأنا حي.
شريف :
قد يكون الأمر كما تقول، ولكن ليس في عملك هذا ما يشرف قدرك، إنه لغرور أجوف، فكر يا كمال بك أنكم تشهرون السلاح في وجه جنودنا؛ أي أنكم تعلنون الخصومة في وجه الحكومة والشعب.
كمال :
هذا صراع لا مفر منه كصراع هابيل مع أخيه قابيل، صراع لا بد منه.
شريف :
كلا، ليس هذا القياس صحيحا، وليس التشبيه مطابقا للواقع؛ أنتم اليوم تقفون في وجه القانون، أما هما فقد كانت بينهما حزازات قلبية، كانا في خلاف على حب مشترك، ولو كان موقفنا الآن مثل موقفهما لاغتفرت لك سلوكك هذا، لو أننا رقيبان نتنازع في سبيل امرأة واحدة، لو أننا غريمان نتناحر من أجل امرأة مشتركة، لكان الدم المسفوك بيننا حلالا، لكنني اليوم أمثل القانون، وأنتم فرد ككل الأفراد الخاضعين لهذا القانون الذي أمثله، وليس الدافع لكم إلى العصيان سوى الغرور، إن سلوككم هذا لا يمكن التعبير عنه إلا بأنه جرم خطير.
كمال (يخرج المسدس) :
سوف لا أتكلم بلساني بعد.
شريف :
أنت مجنون! سوف آمر بالقبض عليك (ينادي من البلكون)
يا أونباشي. (يتراجع في الحال)
ما هذا؟ سيدة تريد الدخول عنوة.
صوت علية :
دعوني أدخل، اتركوني أدخل.
كمال (يسرع نحو النافذة) :
صوت علية! أختي! أختي!
شريف :
نعم، هي بعينها ... ما أغرب ذلك (يصيح من النافذة)
دعوا السيدة تدخل (يحاول كمال أن يسرع لمقابلتها، ولكنها هي (علية) تصل الغرفة بسرعة).
المشهد الخامس
علية - شريف - كمال
علية (تصيح) :
أخي! أخي! (تترامى في أحضان كمال)
ماذا جرى؟ ماذا حدث؟ أرجو أن ...
كمال (بصوت متقطع) :
ولكن من أين هبطت إلينا هكذا؟ كيف ولم حضرت؟
شريف :
جئت في الوقت المناسب يا علية، فإن كمال يتمرد على القانون.
علية :
القانون لا يطالبه بشيء، ليس للقانون ثأر عند أخي.
شريف :
هنا مجرمة يدافع عنها.
علية :
المجرمة ليست في بيته، وقد جئت لأسلمها إليكم.
شريف :
ما هذه الأقوال يا علية؟
علية :
نعم، جئت لأسلمكم المجرمة، أنا هي المجرمة يا شريف بك، نعم أنا هي.
شريف :
قد بلغ بك التأثير حد الاضطراب في الكلام (ناظرا إلى كمال الذي يجيل نظرا حائرا فيما حوله)
ألا تأخذك الشفقة على هذه المسكينة يا كمال بك؟ انظر كيف صيرها التأثير.
علية :
كلا يا شريف بك أنا المجرمة (تقذف إليه بحقيبة صغيرة في يدها)
الأدلة والوثائق التي تبرهن لكم حقيقة ادعائي ... لم يكن أخي مذنبا؛ لأن سنية لم تلتجئ إليه؟ وإنما التجأت عندي أنا.
شريف :
ما أغرب هذه الدعوى (يفحص الأوراق التي في الحقيبة)
نعم، هذا صحيح، ولكن أين هي الآن؟
علية :
لقد أقلعت اليوم على ظهر باخرة إيطالية، وأنا التي قمت بتدبير سفرها وإخراج جوازها، وبالإجمال أنا التي سعيت في تسهيل فرارها، وفي الأوراق التي بيدكم جميع الأدلة التي تثبت إدانتي.
شريف (يعيد النظر في الأوراق) :
ما هذه الجرأة يا علية؟ أفي هذه السن تتدخلين في مثل هذه المسائل الخطيرة؟ إنه لعمل خطير، هذه مجازفة مشينة، ولقد ارتبكت الآن وصرت في أحرج المواقف.
علية :
لا أعلم أهو أمر خطير أم تافه! ولا أدري أهو عمل قبيح أم جميل! بل غاية ما أعلم أن امرأة بائسة ساقها القدر إلي ... التجأت إلى منزلي في منتصف الليل حيث كان يطاردها رجال مسلحون كما تطارد الوحوش في الأدغال، استنجدت بي وقالت إنها لم تجد في القاهرة على اتساعها من تلجأ إليه سواي، نعم سواي أنا الفتاة التي تحمل قلبا فتيا نقيا وافر الإشفاق والعطف ... فضلا عن ذلك فقد كانت لسنية، رغم عيوبها ومساوئها، مكانة في قلبي مشمولة بالمحبة والاحترام؛ لهذا لم أجد مفرا من الإذعان لنداء القلب، ووحي العاطفة، ففعلت ما فعلت.
شريف :
نداء القلب، وحي العاطفة، هذه هي النغمة التي ترددها الإنسانية العاجزة على الدوام، وها أنت اليوم أصبحت في أسوأ مركز أتصوره؛ لأنك مسئولة عن سنية، ولكن (بعد تردد قصير كأنما هو في نزاع داخلي يتكلم بصوت خافت)
ولكنني سأحتفظ بهذه الأوراق، وسأتخذ إجراءات أخرى في اقتفاء أثر تلك المجرمة الفارة، وسأسدل الستار على جريمتك يا علية. (مبتسما)
وها أنا ذا أناقض نفسي لأول مرة في حياتي، ولكن يجب أن لا يفوتك يا علية أنني إنما أحيد عن مبدئي للمرة الأولى والأخيرة، وفقط من أجلك.
علية :
هذا ما كنت أنتظره منكم نحوي يا شريف بك.
شريف :
وأما أنتم يا كمال بك، فإنني آسف لما حدث وأرجوك المعذرة، فقد كنت مضطرا إلى اتباع هذه الخطة التي سلكتها بحكم الوظيفة، وأظنك توافقني في التماس العذر.
كمال (بنفس الحيرة التي لم تفارقه) :
نعم، بلا ريب.
شريف :
لا يسعني الآن إلا الاعتراف بشهامتكم غير أنني آخذ عليكم أمرا واحدا ما كنت أرجو أن تتورطوا فيه، أو تندفعوا إليه، وهو إشهاركم السلاح ضد جنودنا.
كمال (بشيء من الملل) :
ما كنت أنوي إيذاء أحد أو المساس به، وإنما كنت أريد الموت من طريق الإرهاب بالمقاومة.
شريف (يصافح كمال رغم إحجامه) :
لماذا لم تندمجوا في السلك العسكري يا كمال بك؟ والآن اسمحوا لي بالرحيل.
علية :
لا يمكن أن نتركك، يجب أن تبقى هذه الليلة في ضيافتنا.
شريف :
كفى، كفى، سأحضر غدا لزيارتكم قبل السفر.
علية :
لا لا، إن كمال يلح في ضرورة بقائكم الليلة، أليس كذلك يا كمال؟
كمال (مترددا) :
طبعا، طبعا.
شريف :
إنني أرجو مهلة قصيرة، ساعة واحدة فقط ريثما أقابل الحكمدار وأتدبر في رفع الأمر إلى القاهرة ببرقية مفصلة، آه يا علية، ستكلفينني مجهودا كبيرا (يخرج) .
علية (وهي تشيعه) :
إننا في انتظارك على أي حال.
المشهد السادس
كمال - علية
كمال :
لماذا تصرين على ضيافته؟
علية :
لأمر ستعلمه فيما بعد؛ فقد كان ذلك واجبا لا مفر منه.
كمال (بتردد وتفكير) :
هل لك أن تنتظريني هنا بضع دقائق يا علية؟
علية (بحياء كأنها تفشي سرا) :
ولكن أين هي زينب هانم؟ أهي بخير؟
كمال :
أكنت تعلمين؟
علية :
نعم، كنت عليمة بكل شيء (يستحي كمال)
ولكن لا تبتئس يا أخي، يكفيني تعزية أنني وجدتكما بخير ... (تذهب إلى الباب وتنادي)
زينب هانم، آبلا، آبلا زينب. (تدخل زينب بخجل خائرة القوى، ويخيم السكوت على الجميع.)
المشهد السابع
كمال - علية - زينب
علية (بتنهد) :
لا تجزعي يا آبلا، هي الحياة وظروفها القاسية تدفع الإنسان إلى موارد التهلكة، اطلعت على ما بينكما من سر على غير قصد مني أثناء عودتي من الغرفة التي أخفيت فيها سنية، ولا أخفي عنكما أنني استنكرت ما بينكما ودفعني الاستنكار إلى السخط عليكما، ولكنني ما كدت أسمع بأنكما في خطر داهم، ما كدت أتصور في ذهني هول الموقف، حتى امحى عامل السخط من نفسي، واتجهت أفكاري إلى إنقاذكما، اشتد قلقي عليكما إلى حد الجنون، وقضيت ساعات قطعت فيها كل أمل في نجاتكما، أقول إنني كنت حاقدة عليكما في أول الأمر لجهلي بالعوامل الخفية التي دفعتكما إلى هذه المجازفة.
كمال :
ولكن كيف علمت بموقفنا؟ وكيف تسنى لك الوصول إلينا؟
علية :
يطول بي الشرح إذا أنا سردت تفاصيل الحوادث التي تمت في اليومين الماضيين، يا لهول تلك الحوادث، لقد مرت سراعا كما تمر الحوادث على لوحة السينما، كانت سنية مختبئة في منزلنا، وأخذت أنا وفؤاد نسعى في سبيل إعداد جواز السفر من أجلها، وبعد جهود عظيمة ومشقات جسيمة فزنا ببغيتنا وتمكنا من تسهيل فرارها على ظهر باخرة إيطالية أقلعت صباح اليوم، ولقد ارتاح بالنا وهدأت أنفسنا عقب هذا العمل، غير أننا بعد قيام الباخرة بنصف ساعة اتصل بنا أن سنية التجأت إلى منزل مفتش المالية، وأنه يقاوم في تسليمها للحكومة، فاستفسر فؤاد بالتليفون من أحد أصدقائه الضباط فعلم بأنها في منزل أخي كمال بك، وأن شريف بك مساعد الحكمدار ببوليس مصر انتدب من قبل الوزارة لإلقاء القبض عليها، فانقضت هذه الأخبار علي انقضاض الصواعق، لا سيما وكنت قد سمعت أثناء حواركما أن آبلا زينب ستذهب في ضيافة أخي بالإسكندرية، فأيقنت أن المقاومة إنما هي من أجل آبلا زينب، وهالني الموقف وأفزعني، ففكرت في الذهاب إلى الحكمدارية لأفضي إليها بهرب سنية، ولكنني خشيت أن يضيع الوقت في استجوابي، وأخيرا عولت على اللحاق بشريف بك.
كمال :
آه يا أختي العزيزة! ما أسمى عواطفك!
علية :
إن الجهود العظيمة التي بذلت كان لفؤاد اليد الطولى فيها.
كمال :
وهل فؤاد معك هنا؟
علية :
نعم، إنه هنا ينتظر خارج المنزل.
مريم (من الباب) :
هنا ضابط يسأل عنك يا علية هانم، ويقول بأن السيارة على أهبة الاستعداد.
علية :
هيا آبلا زينب، ارتدي ملاءتك فقد خيم الظلام، فإن فؤاد سينقلك بالسيارة إلى طنطا في طريقه إلى القاهرة، ومن طنطا تركبين القطار إلى دمياط.
زينب (تغطي وجهها بيدها) :
يا للعار! لم يبق إنسان لا يعلم بسوأتي.
علية :
لا أحد غريب يعرف عنك شيئا، فؤاد خطيبي بعد اليوم فنحن إذن شخص واحد.
المشهد الثامن
كمال - علية
كمال :
دعيني أقابل فؤاد.
علية :
لا داعي لذلك الآن.
كمال :
ولكن هل يسافر بها في مثل هذا الوقت؟
علية :
لا تجزع؛ فالطريق أمين، إنك تستطيع أن تعتمد على فؤاد في مثل هذه الأمور؛ لأنني جربته فألفيته مثال النشاط والشهامة.
كمال :
ولكن كيف تتحمل المسكينة مشقة الطريق بعد هذا الاضطراب؟ لا سيما وأنها تشكو من ضعف القلب.
علية :
ما كانت لتستطيع أن تتحمل كل هذه المفاجآت المريعة لو أنها ضعيفة القلب إلى الحد الذي تتصوره. (تدخل زينب مكشوفة القناع استعدادا للرحيل.)
المشهد التاسع
كمال - علية - زينب
علية (بعد أن تطل من البلكون) :
لقد خيم الظلام وأصبح الشارع مقفرا، فلم يبق وجه للخطر، وها أنا سائرة أمامك يا آبلا فاتبعيني، لا ريب في أنه لم يحن الوقت بعد لعودة شريف بك ولكنه يحسن الاحتياط (فتومئ زينب برأسها علامة الإيجاب وتسير بخطوات متثاقلة نحو الباب) .
كمال :
أذاهبة أنت يا زينب؟ (تقف زينب وتطرق برأسها دون إجابة)
أتذهبين على هذه الصورة دون كلمة وداع؟ (تطرق زينب برأسها أكثر من قبل.)
علية :
سأنتظرك يا آبلا عند الباب، لكن عليكما الإسراع في الوداع.
كمال (بلهجة قاطعة) :
كلا يا علية، ما أنت فضولية بيننا، كلمتي الأخيرة هي من النزاهة بمكان بحيث تستطيع أذناك النزيهتان أن تسمعاها، (بعد توقف قصير)
قد أردنا أن نحقق حلما من أحلام الطفولة، ولم نكن ندري أننا بهذا العمل إنما نجفف بيدينا منهلا عذبا يروي نفوسنا فيحييها، لم ندر أننا نعمد إلى سد السبل في وجه نسيم الربيع الذي ينعش أفئدتنا فيملؤها سرورا، قضينا على ذلك الحلم البديع ذي الذكريات الجميلة بحلم مريع، وإنه لمن المؤلم أن يكون ذلك الحلم الذي سما بزينب يكاد يكون سببا في سقوطها، ولكنها اليد التي رفعت بزينب إلى مكانة القديسات أبت رغم ما أحاط بها من نكبات وخطوب إلا أن تحول دون سقوطها، لم تسقط إذن زينب التي عاشت نقية زاهرة كالزنبقة؛ لأن الطبيعة الجميلة، الطبيعة القاهرة، لها قوة تسخرها في بعض الأحايين لصيانة الأشياء الجميلة، علمتني هذه الحقيقة تلك الحصاة الصغيرة التي أدمت شفتيها اللتين لم تدنسهما بعد قبلة أجنبية، لقد تمردت الطبيعة، تلك الطبيعة الصامتة الخرساء وقت شروعك في السقوط يا زينب، ويا لهول الطبيعة إذا تمردت بعد هدوء، فسخرت جنودها وزأرت زوابعها وثارت عواصفها لتزود عنك رجس السقوط، وها قد هدأت العاصفة الآن وظلت الزنبقة محتفظة بنقاوتها وأريجها، فاذهبي الآن بسلام يا زينب ما دمت دفعت الثمن غاليا لا للجريمة بذاتها، ولكن لخيال الجريمة، اذهبي الآن إلى زوجك بروحك النقية الطاهرة التي لم تشبها شائبة السوأة، اذهبي لتختمي حياتك بالطهارة كما بدأتها بالنقاوة، ستكون بلا ريب حياة قاسية مريرة، ولكنها ستتغذى دواما بروح النقاوة من حلمنا الطاهر الذي كدنا نلوثه، ونقضي عليه اليوم بجهلنا، أما أنا (تسمع زينب هذه الكلمات وهي تبكي بصوت خافت ومنديلها على وجهها) ، فدعيني يا زينب قبل دفن هذا الحلم إلى الأبد، وقبل أن أهيل عليه التراب، دعيني أقبلك بين عينيك للمرة الأولى والأخيرة، تلك القبلة البريئة لتكون:
آية الذكرى! (يقبلها في جبينها ويسدل نقابها، ويكون نزول الستار مع إسدال النقاب.) (تمت)
ناپیژندل شوی مخ