(مقدمة المؤلف) بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد:
حمدا لله الذي جعل الحمد ثمنا لثوابه، ونجاة يوم الوعيد من عقابه.
والصلاة والسلام على (1) محمد الذي شرفت الأماكن بذكره، وعطرت المساكن بريا (2) نشره، وعلى آله وأصحابه الذين عظم قدرهم بقدره، وتابعوه في نهيه وأمره.
فاني لما صنفت كتاب المقتل الذي سميته (مثير الأحزان ومنير سبل الأشجان) (3)، وجمع فيه من
مخ ۴۹
طرائف (1) الاخبار، ولطائف الآثار ما يربى على الجوهر والنضار، سألني جماعة من الأصحاب أن أضيف إليه عمل الثأر، وأشرح قصة (2) المختار فتارة أقدم وأخرى أحجم، ومرة (3) أجنح جنوح الشامس (4)، وأونة أنفر نفور العذراء من يد اللامس، وأردهم عن عمله فرقا من التعرض لذكره، واهار مخفي سره.
ثم كشفت قناع المراقبة في إجابة سؤالهم، والانقياد لمرادهم (5)، فأظهرت ما كان في ضميري، وجعلت نشر فضيلته أنيسي وسميري، لأنه به خبت نار وجد سيد (6) المرسلين، وقرة عين زين العابدين، وما زال السلف يتباعدون عن زيارته، ويتقاعدون عن اظهار فضيلته، تباعد الضب عن الماء، والفراقد عن (7) الحصباء، ونسبوه إلى القول بامامة محمد بن الحنفية (8)، ورفضوا قبره،
مخ ۵۰
وجعلوا قربهم (1) إلى الله هجره مع قربه من الجامع (2)، وان قبته لكل من خرج من باب مسلم بن عقيل كالنجم اللامع، وعدلوا من العلم إلى التقليد، ونسوا ما فعل بأعداء المقتول الشهيد، وانه جاهد في الله حق الجهاد، وبلغ من رضا زين العابدين عليه السلام غاية المراد، ورفضوا منقبته التي رقت حواشيها (3)، وتفجرت ينابيع السعادة فيها.
وكان محمد بن الحنفية أكبر من زين العابدين عليه السلام سنا، ويرى تقديمه عليه فرضا ودينا، ولا يتحرك حركة الا بما يهواه، ولا ينطق الا عن رضاه، ويتأمر له تأمر الرعية للوالي، ويفضله تفضيل السيد على الخادم والموالي، وتقلد محمد - رحمة الله عليه - أخذ الثأر إراحة (4) لخاطره الشريف، من تحمل الأثقال، والشد والترحال (5).
ويدل على ذلك ما رويته عن أبي بجير (6) عالم الأهواز، وكان يقول بامامة ابن الحنفية، قال: حججت فلقيت يوما امامي (7) وكنت يوما عنده فمر به غلام شاب فسلم عليه، فقام فتلقاه (8) وقبل ما بين عينيه، وخاطبه بالسيادة، ومضى الغلام، وعاد محمد إلى مكانه (9)،
مخ ۵۱
فقلت له: عند الله أحتسب عنائي.
فقال: وكيف ذاك؟
قلت: لأنا نعتقد انك الامام المفترض الطاعة تقوم وتتلقى هذا الغلام، وتقول له: يا سيدي؟!
فقال: نعم، - والله - هو امامي.
فقلت: ومن هو (1)؟
قال: ابن أخي علي بن الحسين عليه السلام (2) اعلم أني نازعته الإمامة ونازعني، فقال لي: أترضى بالحجر الأسود حكما بيني اعلم أني نازعته الإمامة ونازعني، فقال لي: أترضى بالحجر الأسود حكما بيني وبينك؟
فقلت: وكيف نحتكم إلى حجر جماد؟
فقال إن إماما لا يكلمه الجماد فليس بامام، فاستحييت من ذلك، وقلت: بيني وبينك الحجر الأسود..
فقصدنا الحجر، وصلى وصليت، وتقدم إليه. وقال: أسألك بالذي أودعك مواثيق العباد لتشهد لهم الموافاة الا أخبرتنا من الامام منا؟
فنطق - والله - الحجر، وقال: يا محمد، سلم الامر إلى ابن أخيك، فهو أحق به منك، وهو امامك وتحلحل (3) حتى ظننته يسقط، فأذعنت بإمامته، ودنت له بفرض طاعته.
قال أبو بجير (4): فانصرفت من عنده وقد دنت بإمامته، أعني
مخ ۵۲
علي (1) بن الحسين عليهما السلام، وتركت القول بالكيسانية (2). (3) وروي عن أبي بصير أنه قال (4): سمعت أبا جعفر الباقر عليه السلام يقول: كان أبو خالد الكابلي يخدم محمد بن الحنفية دهرا ولا يشك أنه الامام حتى أتاه يوما فقال له: جعلت فداك، ان لي حرمة ومودة، فأسألك بحرمة الله ورسول الله (5) صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام الا أخبرتني أنت الامام الذي فرض (6) الله طاعته على خلقه؟
قال: يا أبا خالد، لقد حلفتني (7) بالعظيم، الإمام علي ابن أخي،
مخ ۵۳
علي وعليك وعلى كل مسلم (1).
فلما سمع أبو خالد قول محمد بن الحنفية جاء إلى علي بن الحسين عليهما السلام فاستأذن ودخل، وقال له: مرحبا بك يا كنكر (2)، ما كنت لنا بزائر، ما بدا لك فينا؟
فخر أبو خالد ساجدا لله (3) لما سمع من زين العابدين عليه السلام هذا الكلام (4)، وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى عرفت امامي.
قال: وكيف عرفت امامك يا أبا خالد؟
قال: لأنك دعوتني باسمي الذي لا يعرفه سوى أمي، وكنت في عمياء (5) من أمري، ولقد خدمت محمد بن الحنفية عمرا لا أشك أنه الامام حتى أقسمت عليه فأرشدني إليك، وقال: هو الإمام علي وعليك وعلى كل مسلم، ثم انصرف، وقد قال بامامة زين العابدين عليه السلام (6).
مخ ۵۴
وقال قوم من الخوارج لمحمد بن الحنفية: لم غرر بك أبوك في الحروب (1) ولم يغرر بالحسن والحسين عليهما السلام؟
قال: لأنهما عيناه وأنا يمينه، فهو يدفع بيمينه عن عينيه (2)
مخ ۵۵
وروى العباس بن بكار، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما كان يوم من أيام صفين دعا علي عليه السلام ابنه محمد ابن الحنفية، فقال له (1): شد على الميمنة، فحمل محمد مع (2) أصحابه، فكشف ميمنة عسكر معاوية (3).
ثم رجع وقد جرح، فقال: العطش العطش، فقام إليه أبوه عليه السلام (4) فسقاه جرعة من الماء، ثم صب الماء بين درعه وجلده، فرأيت علق الدم يخرج من حلق الدرع، ثم أمهله ساعة (5).
ثم قال: يا بني، شد على القلب، فشد عليهم فكشفهم (8)، ثم رجع وقد أثقلته الجراحات وهو يبكي، فقام إليه أبوه عليه السلام فقبل (9) ما
مخ ۵۶
بين عينيه، وقال: سررتني فداك (1) أبوك، لقد سررتني - والله - يا بني بجهادك بين يدي (2)، فما يبكيك؟ أفرح أم جزع؟
فقال: كيف لا أبكي وقد عرضتني للموت ثلاث مرات فسلمني الله تعالى، وكلما رجعت إليك لتمهلني عن الحرب (3) فما أمهلتني، وهذان أخواي الحسن والحسين عليهما السلام ما تأمرهما بشي؟
فقبل عليه السلام رأسه وقال: يا بني، أنت ابني، وهذان ابنا (4) رسول الله صلى الله عليه وآله أفلا أصونهما عن القتل (5)؟
قال: بلى، يا أبتاه، جعلني الله فداك وفداهما (6).
وإذا كان ذلك رأيه فكيف يخرج عن طاعته، ويعدل عن الاسلام بمخالفته مع علم محمد بن الحنفية أن زين العابدين عليه السلام ولي الدم، وصاحب الثأر، والمطالب بدماء (7) الأبرار، فنه المختار نهوض الملك المطاع، ومد إلى أعداء يدا طويلة الباع، فهشم عظاما تغذت بالفجور، وقطع أعضاء نشأت على الخمور ، وجاز (8) إلى فضيلة لم يرق إلى شعاف (9) شرفها عربي ولا أعجمي، وأحرز منقبة
مخ ۵۷
لم يسبقه إليها هاشمي ولا قرشي (1).
وكان إبراهيم بن مالك الأشتر (2) مشاركا له في هذه البلوى، ومصدقا على الدعوى، ولم يك إبراهيم شاكا في دينه، ولا ضالا في اعتقاده ويقينه، والحكم فيهما (3) واحد، وأنا أشرح بوار الفجار على يد المختار، معتمدا قانون الاختصار، وسميته: (ذوب النضار في شرح الثأر)، وقد وضعته على أربع مراتب، والله الموفق للصواب، المكافئ (4) يوم الحساب.
* * *
مخ ۵۸
المرتبة الأولى في ذكر نسبه (1) وطرف من أخباره هو المختار بن أبي عبيدة (2) بن مسعود بن عمير الثقفي. وقال المرزباني: ابن عمير بن عقدة بن عنزة، كنيته أبو إسحاق.
وكان أبو عبيدة والده (3) يتنوق في طلب النساء (4)، فذكر له نساء قومه فأبى أن يتزوج منهن، فأتاه آت في منامه فقال: تزوج دومة الحسناء الحومة (5)، فما تسمع فيها للائم لومة، فأخبر
مخ ۵۹
قومه (1)، فقالوا: قد أمرت، فتزوج دومة بنت وهب بن عمر بن معتب. (2) فلما حملت بالمختار، قالت: رأيت في النوم قائلا يقول:
أبشري بالولد * أشبه شي بالأسد إذا الرجال في كبد * تقاتلوا (3) على لبد (4) كان له الحظ الأشد فلما وضعته (5) أتاها ذلك الآتي، فقال لها: انه قبل أن يترعرع (6)، وقبل أن يتشعشع (7)، قليل الهلع، كثير التبع، يدان بما صنع، وولدت لأبي عبيدة: المختار، وجبرا، وأبا جبر، وأبا الحكم، وأبا أمية.
وكان مولده في عام الهجرة، وحضر مع أبيه وقعة قس
مخ ۶۰
الناطف (1) وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وكان يتفلت للقتال فيمنعه سعد ابن مسعود عمة (2)، فنشأ مقداما شجاعا لا يتقي شيئا، وتعاطى (3) معالي الأمور، وكان ذا عقل وافر، وجواب حاظر، وخلال مأثورة، ونفس بالسخاء موفورة، وفطنة (4) تدرك الأشياء بفراستها، وهمة تعلو على الفراقد بنفاستها، وحدس مصيب، وكف في الحروب مجيب، وقد مارس (5) التجارب فحنكته، ولامس (6) الخطوب فهذبته.
وروي عن الأصبغ بن نباتة أنه قال (7): رأيت المختار على فخذ أمير المؤمنين عليه السلام وهو يمسح رأسه ويقول: يا كيس يا كيس (8) فسمي كيسان، واليه عزي الواقفية (9) إلى موسى
مخ ۶۱
ابن جعفر عليهما السلام، والإسماعيلية إلى أخيه إسماعيل، وغيرهم من الفرق.
وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنه قال: لا تسبوا المختار، فإنه قتل قتلتنا، وطلب ثأرنا، وزوج أراملنا، وقسم فينا المال على العسرة (1).
وروي أنه دخل جماعة على أبي جعفر الباقر عليه السلام وفيهم عبد الله بن شريك، قال: فقعدت بين يديه إذ دخل عليه شيخ من أهل الكوفة، فتناول يده ليقبلها، فمنعه، ثم قال: من أنت؟
قال: أنا أبو الحكم (2) بن المختار بن أبي عبيدة الثقفي، وكان متباعدا منه عليه السلام فمد يده عليه السلام فأدناه حتى كاد يقعده في حجره بعد منعه يده.
فقال: أصلحك الله، ان الناس قد أكثروا في أبي القول، والقول (3) والله قولك.
قال: وأي شي يقولون؟
قال: يقولون: كذاب، ولا تأمرني بشي الا قبلته.
فقال: سبحان الله! أخبرني أبي أن مهر أمي مما بعث به المختار إليه، أو لم يبن دورنا، وقتل قاتلنا (4)، وطلب بثأرنا؟ فرحم الله أباك - وكررها ثلاثا - ما ترك لنا حقا عند أحد الا طلبه (5).
مخ ۶۲
وعن أبي حمزة الثمالي، قال: كنت أزور علي بن الحسين عليهما السلام في كل سنة مرة في وقت (1) الحج، فأتيته سنة وإذا على فخذه صبي، فقام الصبي يمشي فوقع على عتبة الباب، فانشج رأسه (2)، فوثب إليه مهرولا، فجعل ينشف دمه ويقول: اني أعيذك (3) أن تكون المصلوب في الكناسة.
قلت: بأبي أنت وأمي، وأي كناسة؟
قال: كناسة الكوفة.
قلت (4): ويكون ذلك؟
قال: اي والذي بعث محمدا بالحق نبيا، لئن (5) عشت بعدي
مخ ۶۳
لترين هذا الغلام في ناحية من نواحي الكوفة (1)، وهو مقتول مدفون منبوش مسحوب مصلوب في في الكناسة، ثم ينزل فيحرق ويذرى في الهواء (2) فقلت: جعلت فداك، وما اسم هذا الغلام؟
فقال: ابني (3) زيد، ثم دمعت عيناه وقال: لأحدثنك بحديث ابني هذا، بينا أنا ليلة ساجد وراكع إذ ذهب (4) بي النوم فرأيت (5) كأني في الجنة، وكأن رسول الله صلى الله عليه وآله وعليا وفاطمة والحسن والحسين عليهما السلام قد زوجوني حوراء من حور العين، فواقعتها واغتسلت عند سدرة المنتهى ووليت، هتف بي هاتف (6)، ليهنئك زيد.
فاستيقظت وتطهرت وصليت صلاة الفجر (7)، فدق الباب رجل فخرجت إليه فإذا معه جارية (8) ملفوف كمها على يده، مخمرة بخمار، قلت: ما حاجتك (9)؟
مخ ۶۴
قال: أريد علي بن الحسين عليهما السلام.
قلت: أنا هو (1).
قال: أنا رسول المختار بن أبي عبيدة الثقفي إليك وهو (2) يقرؤك السلام ويقول: وقعت هذه الجارية في ناحيتنا فاشتريتها بستمائة دينار، وهذه ستمائة دينار أخرى فاستعن (3) بها على دهرك، ودفع إلي كتابا كتبت جوابه، وقلت: ما اسمك (4)؟
قالت حوراء، فهيؤوها لي وبت بها عروسا، فعلقت بهذا الغلام، فأسميته (5) زيدا، وستري ما قلت لك.
قال أبو حمزة الثمالي: فوالله لقد رأيت كل ما ذكره عليه السلام في زيد (6).
مخ ۶۵
وروي عن عمر بن علي عليه السلام أن المختار أرسل إلى علي بن الحسين عليهما السلام عشرين ألف دينار، فقبلها وبنى منها (1) دار عقيل بن أبي طالب ودارهم التي هدمت (2).
مخ ۶۶
وكان المختار ذا مقول مشحوذ الغرار (1)، مأمون العثار، ان نثر سجع، وان نطق برع، ثابت الجنان (2)، مقدم الشجعان، ما حدس الا أصاب، ولا تفرس قط فخاب، ولو لم يكن كذلك لما قام بأدوات المفاخر، ورأس على الأمراء والعساكر.
وولى علي عليه السلام عمه على المدائن عاملا والمختار معه، فلما ولي المغيرة بن شعبة الكوفة من قبل معاوية - لعنه الله - رحل المختار إلى المدينة، وكان يجالس محمد بن الحنفية ويأخذ عنه الأحاديث، فلما عاد إلى الكوفة ركب مع المغيرة يوما فمر بالسوق، فقال المغيرة: يا لها غارة ويا له جمعا، اني لاعلم كلمة لو نعق لها ناعق ولا ناعق لها لاتبعوه، ولا سيما الأعاجم الذين إذا القي إليهم الشئ قبلوه.
فقال له المختار: وما هي يا عم؟
قال: يستأدون (3) بآل محمد صلى الله عليه وآله، فأغضي عليها المختار، ولم يزل ذلك في نفسه، ثم جعل يتكلم بفضائل (4) آل محمد صلى الله عليه وآله وينشر مناقب علي والحسن والحسين عليهم السلام ويسير ذلك ويقول: انهم أحق بهذا الامر (5) من كل أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، ويتوجع لهم مما نزل
مخ ۶۷
بهم.
ففي بعض الأيام لقيه معبد (1) بن خالد الجدلي - جديلة قيس - فقال له: يا معبد، ان أهل الكتاب ذكروا أنهم يجدون رجلا من ثقيف يقتل الجبارين، وينصر المظلومين، ويأخذ بثأر المستضعفين، ووصفوا (2) صفته، فلم يذكروا صفة للرجل (3) الا وهي في غير خصلتين أنه شاب وأنا قد (4) جاوزت الستين، وأنه ردى البصر، وأنا أبصر من عقاب.
فقال معبد: أما السن فان ابن الستين والسبعين عند أهل ذلك الزمان شاب، وأما بصرك فما تدري ما يحدث الله فيه لعله يكل.
قال: عسى، فلم يزل على ذلك حتى مات معاوية، وولي يزيد ووجه الحسين عليه السلام مسلم بن عقيل إلى الكوفة، فأسكنه المختار داره وبايعه، فلما قتل مسلم رحمه الله سعي بالمختار إلى عبيد الله بن زياد - لعنه الله - فأحضره، وقال له: يا ابن عبيدة، أنت المبايع لأعدائنا؟
فشهد له عمرو بن حريث أنه لم يفعل.
فقال عبيد الله بن زياد (5): لولا شهادة عمرو لقتلتك، وشتمه
مخ ۶۸