تحفل حياة ذات بالكثير من هذه المداخل التي اقترنت بصدمات لا تقل شأنا عن صفعة الألية الأولى، وبعضها نمطي تماما، مثل اللحظة التي اكتشفت فيها أن ما ظنته جرحا عارضا، إنما هو خاصية جديدة اكتسبها جسمها، فأصبح قادرا من الآن على إفراز مياه ملونة بغير اللون الذهبي، فلم يهيئها أحد لهذا التطور (لأن الأب، ككل الآباء، دأب على تجاهل أمثال هذه الأمور وتركها للأم، التي دأبت بدورها، ككل الأمهات، على تأجيل لحظة المكاشفة خشية أن يترتب على تفجر النبع الأحمر من مكان، نضوبه من مكان آخر).
البعض الآخر من هذه المداخل المقترنة بالصدمات يمثل تنويعا على النمط السائد لا يخلو من طرافة، من قبيل ما حدث عندما أمسكوا بها وفتحوا لها فخذيها عنوة، ثم اجتثوا ذلك النتوء الصغير الذي سبب إزعاجا شديدا للمصريين من قديم الزمان. وإن كان من الأمانة أن نسجل أن الاجتثاث، لحسن الحظ أو لسوئه (حسبما تكون وجهة النظر)، لم يكن تاما؛ فالأم التي جردت مبكرا من العضو المزعج، كانت - على عكس ما يتوقع المرء - حريصة على ألا تتمتع ابنتها بفرصة التسلية (قبل الزواج)، ثم التعويض (بعده) التي حرمت هي منها. أما الأب فكان، عكس ما يتوقع المرء أيضا، راغبا في إعفاء ابنته من العملية التقاليدية، متصورا (إن صوابا أو خطأ) أنها المسئولة عما آل إليه أمر نتوئه الخاص. ولما كان توازن القوى النتوئي في قمته، كان لا بد من حل وسط. هكذا سمح بالإبقاء على جزء من النتوء الجليل مما أتى بنتيجة عكسية؛ فبدلا من أن يصبح تعويضا عن الجزء الضائع، صار تذكرة دائمة به.
لماذا نذهب بعيدا ولدينا مدخل طبيعي، محمل بقدر عال من الدراما، بل الميلودراما، ونقصد بذلك لحظة الصدمة الكبرى، ليلة الدخلة؟
هذه الليلة الفاصلة جاءت بعد شهور طويلة من التقارب التدريجي بين ذات وعبد المجيد حسن خميس، تم خلالها ارتياد أماكن الفسحة المتاحة في ذلك الحين (منتصف الستينيات)؛ كازينو فونتانا وسط النيل، كازينو قصر النيل، الهيلتون، حديقة الأسماك، جزيرة الشاي، برج الجزيرة (الذي أقامه عبد الناصر، بديلا عن حركة الأصبع الشهيرة، بالملايين الثلاثة من الدولارات التي حاول الأمريكان شراءه بها)، كما تم ما هو أهم، ونقصد بذلك التعرف على الطفل المعجزة نفسه، الذي استوى عملاقا بمجرد مولده؛ أي التليفزيون، الذي سيلعب دورا رئيسيا في حياتهما المشتركة إلى أن يصبح الرابطة الوحيدة التي تجمع بينهما (وهو المصير الذي لم يتوقعه والد ذات لنفسه عندما أحضر الجهاز إلى منزله متحملا عبء أقساطه الشهرية، على أمل أن يتمكن بواسطته من تجنب أي شكل من أشكال الرباط بأمها).
كانا يجلسان - ذات وزوج المستقبل - أمام الجهاز بالساعات، تحت عيني الأم الساهرة، واهتمامهما موزع بين تمثيل عبد الغني قمر في المسلسل، والمحافظة على الوسائد في أماكنها؛ فقد كان ذلك هو عصر الميني الساحر، الذي خلق للوسائد وظيفة جديدة إلى جانب وظائفها المعروفة (البريء منها وغير البريء)؛ فبوضع واحدة صغيرة فوق الركبتين صار بوسع ذات أن تسترخي في جلستها كما تشاء، دون أن تكشف ما لم يحن الوقت بعد لكشفه، وأمكن للأم أن تتفرغ لمتابعة أحداث المسلسل، مكتفية بنظرة جانبية بين الحين والآخر تطمئن بها على ثبات الوسادة في موضعها، وإن كانت هذه النظرة السريعة كفيلة بتشتيت انتباهها إذا حدث وامتدت، بالرغم منها، إلى فخذي العريس المرتقب والوسادة المماثلة التي استقرت فوق حجره؛ إذ تحار في معرفة الغرض منها طالما أن عبد المجيد يملك ساترا طبيعيا ممثلا في بنطلون بذلته الأنيقة. وبمرور الوقت توصلت المرأة الساذجة التي تتميز بضآلة التجربة وسعة الخيال، بقدر يماثل ما لديها من ضيق أفق وتحجر في المشاعر، إلى قناعة ملأتها بالإشفاق على ابنتها؛ فقد تصورت أن احتياج خطيب ابنتها إلى ساتر إضافي، مبعثه ضخامة ما هو مضطر لحجبه عن الأنظار.
ما لم يكن عبد المجيد مضطرا إلى حجبه كان أكثر ضخامة، ونقصد بذلك أليته أو مؤخرته أو عجيزته (فالمعجم لا يمدنا بوصف يقارب في الدقة والإحكام المورفولوجيين ذلك الذي تؤديه الكلمة البذيئة الموجودة الآن على طرف لسان القارئ أو القارئة)، وهو الجزء الذي تضاءل وانكمش على مر الزمن في تناسب عكسي مع ازدهار قرينه لدى ذات.
فيما عدا ذلك لم يكن هناك ما يعيبه؛ كان وسيما، أنيقا، مسلحا بالضروريات الذهبية؛ علبة السجائر والولاعة (رونسون)، الخاتم، عطر أولد سبايس، الحذاء الضيق المدبب، معرفة بأنواع الطعام وبروتوكولاتها، شكوى دائمة من سياسة الدولة المتحيزة للقطاع العام والتصنيع، طريقة متعالية في الإشارة لسائقي التاكسي تجبرهم على التوقف، وتملأ ذات بالزهو، أهمية بالغة يضفيها على كل حرف يخرج من بين شفتيه، آراء قاطعة في مختلف الأمور يدلي بها في ثقة تجبر الآخرين (أو على الأقل ذات) على الاقتناع بها، وتنتهي عادة بالكلمة التي حيرتها طويلا هي وأبيها المحدود الثقافة، إلى أن أنست إليه، بعد الزفاف بالطبع، ووجدت الشجاعة لأن تستفسره، فرفع حاجبيه في دهشة أخجلتها، وتكرم موضحا: «أوف كورس؟ بالطبع.» وبالإضافة إلى ذلك كانت هناك مواقفه العنترية ومعارك الدفاع عن العزة والكرامة، فضلا عن الحق، التي لم يتح لها أن تشهد شيئا منها؛ لأنها كانت تجري إما في البنك الذي يعمل به، أو في العمارة التي يسكنها، أو في الجامعة التي «لا» يتردد عليها.
نعم، غيمة واحدة في سماء عبد المجيد الصافية؛ إنه لا يحمل شهادة جامعية، لكن بينه وبينها امتحان واحد حال مرضه دون التقدم إليه، وهو يتقاضى الآن مرتبا مرضيا، وأبواب المستقبل مفتوحة أمامه على مصراعيها.
كانت تلك فترة الآمال العريضة، والتطلعات الجسورة والأحلام؛ أحلام النوم وأحلام اليقظة بكافة أنواعها (الجاف منها والمبتل). أمام بركة البط في حديقة الميريلاند قالت له: غسيل الملابس لم يعد مشكلة بفضل الأومو. قليل منه في طبق ماء من البلاستيك، ويقلب حتى يصنع رغوة كبيرة، ثم تلقي الواحدة فيه بالقميص أو البلوزة وتنصرف لعمل الشاي أو الطبيخ. وبعد ذلك دعكة أو دعكتين، ولا حاجة إلى هري الأصابع أو الغسالة (تقصد المرأة التي تغسل وليس الآلة، التي لم يكن عصرها قد حل بعد).
استقبل عبد المجيد هذا الإعلان عن النوايا بغير حماس؛ ذلك أن صورة الغسالة الجالسة أمام الطشت كاشفة عن فخذيها وأحيانا ثدييها عندما تنحني لتقبض بحزم على ياقة القميص أو قعر الكيلوت، وتدعك أيا منهما في أناة أولا بقطعة صلبة من صابون «الميزان»، ثم بقبضة اليد. هذه الصورة كانت تعشش في ركن من رأسه، ليس فقط كذكرى أول إطلالة على العالم المثير إياه، وإنما أيضا كإمكانية محتملة في المستقبل المديد.
ناپیژندل شوی مخ