أتيحت للجارين فرصة توحيد الجولات عندما عرض الشنقيطي على عبد المجيد أن يصحبه في زيارة لمكتب أحد معارفه. ماذا يعمل؟ في السوق.
كان المكتب المذكور في عمارة حديثة من عمارات الأطراف، بمدخل من الألوميتال، أشبه بمداخل السوبر ماركت، وغرفة خارجية غصت بمكاتب الموظفين المعدنية، وأخرى داخلية، غلفت جدرانها بالخشب الذي أوشك أن يختفي خلف الآيات القرآنية ودولاب للكتب انفرد المصحف بأحد رفوفه، وأخيرا المكتب الضخم الذي استقر خلفه معرفة الشنقيطي؛ عملاق في جلابية مؤمن، ولحية ناسك، ومسبحة درويش.
لم يلمح عبد المجيد، فوق مكتب الموظفين، أو مكتب رئيسهم، أو على الجدران الخشبية وغير الخشبية، ما يشير إلى طبيعة العمل الذي يمارسه معرفة الشنقيطي في السوق، واكتفى الأخير بإيضاح مقتضب: «إنه رجل يعرف ربنا. إذا كان عندك قرشين أعطهم له يشغلهم لك.» وأجاب عبد المجيد بتنهيدة من الأعماق: «يا ليت.»
بعد أسبوع صحب عبد المجيد الشنقيطي إلى منزل واحد آخر من معارفه، من الذين يعملون في السوق، دون أن يحدد له ما إذا كان يعرف ربنا أو لا يعرفه، مكتفيا - غالبا - بلقب الحاج الذي يسبق اسمه؛ قرشي. ذهبا هذه المرة إلى عمارة حديثة من طراز عمارات الأطراف، أقيمت في المركز، بجوار كلية البنات، وشغل الحاج طابقا كاملا من طوابقها، خصص للمعيشة فيه خمس غرف مفتوحة على بعضها البعض، وبالتالي كانت هناك خمسة أنتريهات من طرز مختلفة، جلسا فيها جميعا.
لم يكن الحاج قرشي موجودا عند وصولهما، فجلسا في الأنتريه الخارجي، حتى خرجت إليهما زوجته الشابة في ملابس ومكياج عصريين وشعر ذهبي، بالطبع، فرحبت بهما، وطلبت منهما أن يتنقلا إلى الأنتريه رقم 2 حيث شربا الشاي في فناجين من البلور المنقوش حملتها صينية مذهبة. ثم اعتذرت عن تأخر زوجها واقترحت عليهما الانتقال إلى الأنتريه رقم 3 لمتابعة المسلسل من تليفزيون وضع فوق جهاز للفيديو، وتناولا عصير البرتقال. وعندما اشتكى عبد المجيد من قوة البث المثلج لجهاز التكييف عالي الكفاءة، قالت السيدة وهي تهم واقفة: «نو بروبلم.» وعرضت عليهما الانتقال إلى الأنتريه رقم 4 حيث يوجد بث تليفزيوني آخر، بالفيديو أيضا، بدرجة تكييف ملائمة، وحيث شربا القهوة، إلى أن وصل الحاج قرشي (وهو رجل خمسيني ضئيل الحجم في قميص وبنطلون، ولحية ومسبحة)، فانتقلوا جميعا، بطبيعة الحال، إلى الأنتريه رقم 5.
جرت هذه التنقلات وسط أعمدة مربعة الشكل، زخرفت جدرانها بحيث تبدو كأنها مكونة من صفوف من قوالب الطوب، ودهنت بلون غريب يشابه لون الحناء، ومدت فوقها صفوف من المرايا في مربعات صغيرة، وقبعت عند قواعدها كلاب من الرخام في ارتفاع قامة الإنسان، وفازات من نفس المادة والحجم، تحيط بها ستائر من القطيفة بألوان الموكيت والأنتريهات، وموائد صغيرة من الرخام، وواحدة كبيرة للسفرة بعشرة مقاعد، وبوفيهات تحمل مجموعة ملفتة من الساعات المختلفة الأحجام والأشكال، تعلوها فوق الجدران لوحات من الكانافاه والآيات القرآنية المكتوبة بماء الذهب، وباختصار؛ سوبر ماركت كبير للأدوات المنزلية.
تولت خادمة فيليبينية بسط مائدة من المزات؛ كميات من الساليزون والبسطرمة واللانشون، وكل أنواع الجبن المعروفة، وخيار صغير لامع القشرة، وسلاطات متنوعة، بالإضافة إلى المكسرات والبرازق والبقلاوة، كل شيء تقريبا ما عدا الخمر؛ لأن الحاج، كما همس الشنقيطي، لا يقربها.
انهمك الشنقيطي في حديث جانبي خافت مع الحاج، فاضطر عبد المجيد إلى مسامرة سيدة الدار، مثنيا على المزات، والمشويات التي تلتها، معتذرا عما قد تكون الزيارة قد سببته من إزعاج. وهزت السيدة رأسها الذهبي مكررة: «نو بروبلم.» أما البروبلم الحقيقية التي تواجهها فتتمثل في الأتت.
لم يفهم عبد المجيد ما تعنيه إلا عندما أضافت: «الأته تيجي كل يوم لشباك المطبخ وتقول ناو فافتح لها.» عندئذ انطلق يحكي لها بحماس معركة القطط التي شارك فيها، مقترحا عليها أن تجرب نفس التكتيكات، لكنها أشاحت بيد سمينة قائلة: «أنا أسيب لها دايما حتة لحم. المشكلة أنها تاكل الأحمر بس وتترك السمين على الأرض.»
في تلك اللحظة لمح عبد المجيد حركة أسفل مائدة السفرة، وتبين طفلا صغيرا يزحف تحتها حاملا في يده كأسا من الآيس كريم في حجم عشرة من التي تهبل في الأمفتريون. أشار إليه أن يقترب، لكنه لم يستجب ، وعلقت أمه: «هوا دايما كده لما يكون عندنا زوار.»
ناپیژندل شوی مخ