165

فقد ألفت نفسها في مواجهة سيدة سمراء مكتئبة الوجه، ترتدي فستانا رخيصا، لكن شكلها العام، وأظافر يديها وقدميها المقصوصة في عناية دون طلاء ينطقان باهتمام بالغ النظافة. وكانت تحمل في حجرها طفلا كبير الحجم والسن، معوج الساقين، مبطط الوجه كأنه فطيرة. وإلى جوارها امرأة أخرى قمحية اللون، ذابلة البشرة، تهدل شعرها على كتفيها، وكشفت فتحة صدر فستانها عن منبت ثديين جافين، وبرز من صندلها كعبان فقدا لونهما الطبيعي من زمن، استقرت بينهما طفلة كبيرة الجسم حليقة الرأس، مالت بصدرها فوق الأرض، وزحفت بحوضها نحو كسرة خبز ملقاة بجوار الحائط، فتناولتها ووضعتها في فمها. وعندما أرادت المرأة، في غير حماس، أن تنتزعها من يدها، تشبثت بها، ثم مسحت الأرض بكفها، ولوت جسدها وزحفت مبتعدة بعد أن أدارت وجهها ناحية ذات، التي طالعت ابتسامة بلهاء وعينين غريبتين أشبه ببئرين من غير قرار.

شعرت ذات بابنها يلتصق بها في خوف، متأملا الآخرين في استغراق، وألفت نفسها تتفحصه بأعين الأخريات باحثة عن أوجه القصور لديه، فراودها الشك لحظة في أن عينيه قريبتا الشبه بالعيون المنغولية، الأمر الذي كانت تخشاه طول مدة الحمل، والذي كان محور أول سؤال نطقته بعد الولادة.

انتزعت عينيها بصعوبة من وجه ولي العهد، فالتقتا فوق رأس الطفلة الزاحفة على الأرض بعيني أمها المكتئبتين. عندئذ نهضت فجأة واقفة، وجرت الطفل خلفها إلى الخارج، عائدة أدراجها إلى المبنى الأول، متولية القيادة هذه المرة. مرت من أسفل سلم الطلاء الخشبي، وهبطت إلى الباحة الخضراء، لكنها لم تجد تمرجية «تيجي لما تيجي»، وكان الباب الأخضر مفتوحا، فولجته إلى ردهة تفتح عليها عدة غرف مضاءة، لا أثر بها لأحد، وليس فيها سوى الأوراق والأقلام المتناثرة فوق المكاتب، فيما عدا الغرفة الأخيرة التي وجدت بها طبيبا جالسا إلى مكتبه، يعبث بعدد من مكعبات الأطفال الملونة.

ابتسم لها الطبيب مرحبا وأشار إليها أن تتفضل، فولجت الغرفة مع ابنها، وقدمت بطاقته العلاجية للطبيب، الذي ألقى عليها نظرة سريعة، ثم توجه بالحديث إليه: «اسسمك ايه يييا شششاطر؟»

لم ينبس الشاطر بحرف، بل تطلع إلى الطبيب في جمود منكمشا في حضن أمه، التي أبعدته عنها وهي تبتسم في خجل، وتهيب به أن يتجاوب مع الدكتور، ولكنه تشبث بصمته في عناد، فقرأ هذا من البطاقة: «أأأأأمجد ععععع عبد الممممجيد حححح سن.»

استمعت ذات في صبر للحوار المتقطع (من طرف واحد) ظانة أنه تكنيك متعمد للعلاج، ولم يلبث الشك أن ساورها وهي ترى المجهود الذي يبذله الطبيب في إخراج الكلمات المتقطعة من بين شفتيه، وقطعت الشك باليقين عندما أعلن بعد نصف ساعة: «خخخخخ لاص اننننننهاردده.»

ضبط النفس الذي أبداه ولي العهد في حضرة الطبيب تلاشى بمجرد خروجه إلى الشارع، فسدد أصبعه في تصويب حاذق إلى كشك السجائر والحلوى الذي علقت بنافذته أكياس العصائر المزوقة بصور ملونة للفواكه المختلفة. وفقد أصبعه ثباته عندما اقتربا من الكشك، فتأرجح متذبذبا بين أكياس الشيبسي والكاراتيه والبوزو والشوكو أب والكيمو، لكن ذات كانت حاسمة فأشارت إلى السندوتشات الموجودة في الحقيبة وأعلنت: «عصير وبس.»

تناولت من الأظافر القذرة للبائعة ممصا من البلاستيك، فمسحته في بلوزتها، ثم طهرت طرفيه بلعابها، وثقبت كيس العصير بأحد الطرفين، ثم قدمته له آملة أن يتكفل بإلهائه خلال رحلة العودة، التي اختارت لها، بعد حسابات معقدة، سيارة أجرة.

استمرت الحسابات داخل السيارة؛ فعندما انطلق السائق على مهل وعينه على المارة، آملا في زبون آخر، وأوشك لذلك أن يصطدم بسيارة أخرى توقفت فجأة ليشتري سائقها بضعة أرغفة من الخبز المعروض فوق قفص على قارعة الطريق، أصابها الهلع، فأنقصت الأجر الذي قدرته للسائق في كرم عندما توقف لها، من جنيه ونصف إلى جنيه. وعندما التقط سيدة بدينة وطفلتها، وأجبرها على الجلوس في الخلف إلى جوار ذات وولي عهدها؛ ليبقى المقعد المجاور له خاليا من أجل راكب إضافي، تميزت من الغيظ، وبدأت تزن إمكانية خفض الجنيه إلى نصف جنيه. وعندما لم يفز السائق بالراكب المأمول، رغم تلكئه في ميدان العباسية وأمام الجامعة والمستشفى التخصصي وفي التقاطعات وأمام المؤسسات العسكرية، رق قلبها له، وتصورته مجاهدا في سبيل إطعام سبعة أفواه أو تسعة، فارتدت إلى الجنيه وأخذت تزن إمكانية رفعه إلى الرقم الأصلي الذي قدرته في البداية.

في هذه الأثناء كان ولي العهد قد انتهى من كيس العصير، ومن تأمل المنافسة الوافدة، فطالب بسيارته، وأجبر أمه على استخراجها وفض غلافها الكرتوني، ليكتشف أنها بثلاث عجلات. أوشكت أن تهون عليه الأمر وتزعم أن السيارة من طراز خاص، لولا أن محور العجلة الرابعة كان مطلا برأسه، شاهدا على الطراز الذي تنتمي إليه السيارة، فوعدته بإعادتها إلى البائع واستبدالها بواحدة سليمة، وبهذا أمكنه أن يمارس هوايته في التعرف على الأشياء، متسائلا، بالإشارات: «إيه ده؟» أمام ضريح جمال عبد الناصر، والمدافع المهيبة التي تتصدر المباني العسكرية، والواجهات الحمراء لمحلي «الويمبي» و«كنتاكي فراي تشيكن»، والمطعم الفخم ذي النجوم، واللافتات البارزة من العمارات الجديدة، معلنة بحروف أجنبية عن مكاتب استشارية وتوكيلات أجنبية ومحلات أنتيكات وديكورات، ومستشفى للولادة، وصفوف السيارات الخاصة المنتظرة في غير نظام خروج أولياء العهود من مدارس اللغات الواقعة في الشوارع الجانبية.

ناپیژندل شوی مخ