بدأت رحلة العلاج على الفور، واستمرت طويلا حتى انتهت في عيادة حديثة بمستشفى الدمرداش خصصت لأمراض البث (التي انتشرت بشكل ملموس في السنوات الأخيرة وعلى رأسها اعوجاج اللسان)، حيث خضع الطفل النابغة إلى برنامج مكثف من عدة جلسات يجري خلالها تدريبه على تشغيل الماكينة.
اصطحب عبد المجيد ولي عهده إلى الجلسة الأولى، ولزم الفراش بمجرد عودته، عندما علم أن دوره في الانتقال إلى أحد فروع البنك في البلدان العربية قد تم تجاوزه لصالح أحد مرءوسيه الذي يحمل شهادة جامعية، وظل طريحه حتى حان موعد الجلسة التالية، فاضطرت ذات إلى القيام بالمهمة بدلا منه.
كان موعد الجلسة في الواحدة بعد الظهر؛ لهذا أرسلت الطفل كالمعتاد إلى الحضانة، وحصلت على إجازة عارضة، ثم انهمكت في ترتيب الشقة، وأعدت صينية مكرونة بالباشميل، وخلال ذلك زودت عبد المجيد، طريح الفراش، بكوب من الشاي امتنع عن شربه لأنه كان من غير ليمون. وعندما انتصف النهار وبدأت تستعد للخروج، انفجر غضب عبد المجيد.
لم يكن الليمون هو السبب وإنما الروج؛ فبعد أن استحمت واستبدلت ملابسها، وقفت أمام المرآة، في مجال رؤيته، وأخذت تمر بأصبع الروج على شفتيها. وهكذا ذكرته، لا بنفيسة أبو حسين، وإنما بمنير زاهر.
ففي مناسبة سابقة، علم عبد المجيد عندما أبدى إعجابه بلون الروج الذي تستخدمه زوجته أن زميلها المصور يشاركه نفس الرأي، وتكررت هذه المناسبة كما تعددت أشكال المشاركة، إلى أن بدأ يشعر بالقلق.
أعلن عبد المجيد فجأة من مرقده بلهجته الحاسمة: «لازم تتحجبي.»
تطلعت إليه - في المرآة - مدهوشة من قوة التليباثي؛ فقد كانت تقلب الفكرة ذاتها في رأسها كوسيلة لنفي التهمة التي جلبها جهل مدام سهير بالمذهب الشيعي، لكنها - كالعادة - كانت مترددة في الجهر بها خوفا من رد الفعل - غير المتوقع دائما، والسلبي في معظم الأحوال - من جانب زوجها.
تكرم عبد المجيد بشيء من التحديد: «على الأقل تغطي راسك.» وكان هذا أيضا هو ما يدور برأسها .
أكملت ذات استعداداتها بحذاء مرتفع الكعب؛ لتستمد من السنتيمترين الإضافيين قدرهما من الثقة بالنفس، وسألته عما إذا كان يحتاج إلى شيء، فشكرها بلهجة ما زالت غاضبة، قائلا إنه سيعتمد على نفسه، وبذلك غادرت المنزل مطمئنة، وخاضت بحرص في الأتربة المكومة فوق ما تبقى من الرصيف، وخلف السيارات المركونة إلى جواره، وأمام دكان تصليح الغسالات الذي رفع لافتة جديدة ملونة تعلن عن «رجبكو برذرز للأدوات الصحية».
كان ولي العهد ينتظرها خلف قضبان نافذة الحضانة، مزاحما بقية الأطفال الذين تعلقوا بقضبانها ليشبعوا شوقهم إلى الحرية. تدافعت الدموع إلى مآقيها وهي تعبر البلاط المكسر إلى باب مغلق فتحته فتاة محجبة، ليكشف عن صالة معتمة باردة، خلت من أي فرش، وتدفق إليها الأطفال لمعاينة الطارق، يحدوهم الأمل في إفراج مبكر، وعلى رأسهم ولي العهد، ناسيا في لهفته حقيبته الصغيرة الحمراء، ولفافة السندوتشات.
ناپیژندل شوی مخ