المعارضة؟ هذا هو الجنون بعينه، فإذا كانت صورة عبد الناصر قد نقلتها إلى الأرشيف، فإلى أين يؤدي بها الاتصال بالمعارضة؟
ذاقت عينة ساعة الانصراف؛ فقد رمقتها الماكينات بنظرات غريبة ولم يعبأن بالرد على تحيتها. مضت بخطوات مترددة ووجه مذعور وقد ساورتها شكوك لم تحسمها إلا مدام سهير.
كانت مدام سهير، ساكنة الشقة المفروشة، التي تتميز بملابسها الأنيقة، وشعرها الأشقر (بالطبع) موضع مقاطعة حقيقية من سكان العمارة منذ حادثة الطلاء المخصوص الذي حظي به باب شقتها، وما أعقب ذلك من شرائها لسيارة 127 على الصفر. ذات الطيبة، التي خبرت عذاب المقاطعة، هي الوحيدة التي شذت عن الإجماع، وأقامت معها علاقة ودية، وإن كانت متحفظة؛ لهذا كان من الطبيعي أن تلجأ الأخيرة إليها عندما احتاجت إلى العون.
ففي يوم واحد امتحنت مدام سهير مرتين في عقيدتها، على يد زائرين من العراق. كان أمر الأول سهلا؛ إذ أدركت من اسمه أنه مسيحي، فاعتذرت عن تقديم خدماتها إليه. واشترط الثاني ألا يتلقى هذه الخدمات قبل أن يعقد عليها أولا طبقا للمذهب الشيعي الذي يدين به. ولم تكن مدام سهير، التي اختارت طريق الخدمة العامة هربا من امتحان الشهادة الابتدائية، قد سمعت من قبل بأمر المذهب المذكور، فاستمهلته حتى تفكر في الأمر، وعندما أعياها التفكير قامت بزيارة مفاجئة لذات، وهي تهز في يدها سلسلة ذهبية تتدلى منها مفاتيح ال 127؛ لتستفسر عن المذهب المذكور وطريقته المريبة في الزواج.
كان عبد المجيد هو الذي تولى توعية مدام سهير، فأبدت إعجابها بسعة معلوماته وبشخصيته أيضا، ولم تخف ما تشعر به من حسد لما تتمتع به ذات من جو أسري دافئ، بينما دارت الأخيرة شعورا مماثلا إزاء ما تتمتع به مدام سهير من حرية استقبال الزائرين بالنهار فضلا عن الليل. وتكررت زياراتها إلى أن جاءت النهاية الطبيعية في يوم اعتنى فيه الأستاذ بحلاقة ذقنه وحف شاربه في الصباح، ووجدته ذات في المساء (عندما دفعها هاجس غامض إلى قطع برنامج البث مع سميحة والعودة إلى شقتها) منهمكا في حديث ودود مع مدام سهير، وحدهما تماما؛ لأن الأستاذ أرسل البنتين مع ولي العهد لشراء مصاصة (دون غيرها).
ذات العازفة عن أي حديث ودود مع عبد المجيد، لم تكن تقبل أن يجرى هذا الحديث مع امرأة غيرها؛ لهذا أشارت إلى باب الشقة وطلبت منها ألا تعبر عتبته مرة أخرى لأي سبب.
اهتزت مدام سهير لوقع الإهانة، ففقدت صوابها، وفرشت لذات على السلم ملاءة عريضة ملأتها بأقذع الشتائم، إلى أن فرغ قاموسها دون غلها، وعندئذ تذكرت المذهب الغريب الذي يحلل ما حرمه الآخرون، فأرادت أن تصمها بالشيعية، لكنها كانت تعاني مثل ذات من الحالة التي تختلط فيها المعاني، وتركب فيها الألفاظ فوق بعضها البعض، فاستعصت الكلمة عليها وانتظمت حروفها بصورة أكثر طوعا (لأسباب فسيولوجية لا أيديولوجية) للسانها المعوج: «شيوعية.»
استمعت ذات من خلف باب شقتها المغلق للشتائم المنهالة عليها دون أن تهتم، إلى أن بلغها الاتهام الأيديولوجي، فهبط قلبها - فعلا - بين ساقيها؛ إذ تأكد لها أخيرا ما كانت تساورها بشأنه الشكوك؛ السبب الفعلي للمقاطعة.
10
ثمانية آلاف من جنود «الأمن المركزي» بالقاهرة
ناپیژندل شوی مخ