154

قال الضابط: «إنت حر، وإلا سنضطر لاستخراج الجثة وتشريحها. ترضى بنتك تتعذب؟»

عادت ذات من زفتى من غير حمص أو حصير، وإنما بكيلوين من الكانتالوب، وقصة جيهان التي تلقاها عبد المجيد بغير مبالاة وهو يلتهم محتويات ثمرة بملعقة صغيرة معلقا: «نصيبها.» فحملت القصة في اليوم التالي إلى الأرشيف.

لم تلق القصة النجاح الذي توقعته ذات؛ فقد اتسعت العيون وارتفعت الحواجب ومصمصت الشفاه، ثم انفض السامر وعاد كل شيء إلى سابقه، فحكت وجه الأرنب عن حريق البتانون الذي وصله رجال المطافئ بعد ساعة ونصف من نشوبه، ثم اكتشفوا أن خراطيمهم مخرومة، وروت صاحبة المنكبين ما جاء في بريد الأسبوع عن الزوجة الثانية الصغيرة التي أصيبت بالعمى عندما دعا عليها أولاد زوجها، وقالت الشامة السوداء إن زوجها يطالبها بالتحجب، ثم انتقل الحديث إلى موعد الخروج ويوم العطلة المحتمل والعلاوة أو المكافأة القادمة وأماكن التصييف في العام القادم، ونصيب كل فرد من المساهمة الإجبارية في سداد ديون مصر، والبلاستيك الذي يلتصق بالزجاج من تلقاء نفسه فيحول الزجاج الأبيض إلى لون الفيميه، والزوجة التي قطعت زوجها بالسكين.

أعادت ذات الحكاية مرة واثنتين، وعندما تأكدت من إحكام المقاطعة وجهت حديثها إلى الرئيس ذي المخالب الذي تصادف وجوده، ورفعت صوتها ليصله عبر الماكينات المنهمكة في البث، فاستمع إليها في اهتمام، وعندما انتهت قال لها دون أن تطرف له عين: «الحمد لله على سلامة البنت.»

هل تيأس ذات؟ أبدا؛ فقد توصلت إلى تكتيك ذكي. لبثت تتحين الفرص، منتبهة للحوارات الدائرة، فإذا ما عرجت على الريف تدخلت بشهادة ذاتية من واقع رحلة الأمس التي لم تكن في الحسبان، وتمت بشكل مفاجئ بسبب ما حدث لجيهان. فإذا لم يعرج الحوار على الريف، فلا بد أن يمر بمنطقة الحوادث؛ انفجارات أنابيب الغاز وسقوط المنازل وحوادث السيارات، أو تكفي إشارة عابرة إلى حانوت ذي اسم أجنبي لتعلق ذات على الظاهرة كما لمستها في الطريق الزراعي المؤدي إلى زفتى. وبالطبع فهناك طرق أقصر هي؛ الصرف الصحي، الصعق بالكهرباء، والكانتالوب.

ما لم تدركه ذات أنها تواجه كتيبة متمرسة وملولة، بالإضافة إلى أنها تجاهلت أهم قواعد البث؛ فالأنباء - مهما بلغت أهميتها أو بشاعتها - تفقد طزاجتها، وبالتالي ضرورتها بمجرد تعرضها للهواء، ولا بد من استبدالها بغيرها في أي بث لاحق.

أتاحت لها زيارة عابرة من منير زاهر تجربة تكتيك أخير؛ فقد جاء المصور البدين ليبث أحدث اكتشافاته؛ جهاز صغير اسمه فيديو سندر، يوضع فوق الفيديو، فينقل إرساله، عن طريق هوائي خاص، إلى أجهزة التليفزيون القريبة، في نفس العمارة والعمارات المجاورة، فارضا على المتلقي ما يشاء صاحب الفيديو من بث. فكرت ذات على الفور فيما يتيحه الجهاز الجديد من مزايا؛ فهو يوفر على الشنقيطي عناء نقل الفيديو إلى شقتهما بعد منتصف الليل، ثم إعادته إلى شقته بعد ذلك، والنتيجة؛ إطالة مدة البث، وتمكين عبد المجيد من الاعتماد على نفسه، وذات من النوم في سلام واطمئنان.

منير الذي لم يكن يعلم شيئا عما يجري في شقة ذات من أحداث بعد منتصف الليل، كان مشغولا بإمكانيات أخرى للجهاز الجديد، يستغل فيها براعته في عمل مونتاج من الأفلام والشرائط، مستعينا بجهازين للفيديو: «تصوروا فيلم من الأفلام إياها (ابتسامة ذات مغزى احمر لها وجه ذات، وجلبت ضحكة ممطوطة من وجه الأرنب، وابتسامة خجلى من الشامة السوداء، وتقطيبة عابسة من المنكبين) تتخلله في الأماكن المهمة لقطة لوزير وهو يقص الشريط في افتتاح مشروع ما، أو لرئيس مجلس الشعب وهو يدق بمطرقته طالبا الهدوء، أو لأحد الملوك العرب في المطار وهو ينحني ليتناول باقة ورد من طفلة، أو لزوجة رئيس الوزراء أثناء زيارة حضانة للأطفال .. والا بلاش .. خدي فيلم لعبد الحليم حافظ وساعة ما يبدأ الغناء أقطع على رئيس الوزراء في خطبة من خطبه المملة .. أقدر أخليه يظهر كأنه يغني. بذمتك مش جنان؟»

فعلا، لكن ذات التي اجتذبتها خيالاته الطفولية، ورغبته في التسرية عن الآخرين، لم تنس لحظة قضيتها الحيوية، فانطلقت تسرد قصة جيهان، مرة أخرى، وإنما من زاوية جديدة بالمرة، هي الواجب المهني.

كان رد فعل منير محبطا: «تفتكري أنا حر في اختيار موضوعاتي؟ ثم إني مجرد مصور ولازم يطلع معي محرر، والأغلب أن رئيس التحرير لن يوافق على موضوع كهذا لأنه صديق لمحافظ الغربية، التي تتبعها زفتى. وهؤلاء المحافظون أمرهم عجب .. الواحد منهم يعتبر أي شكوى من أي شيء في محافظته موجهة ضده شخصيا. إذا كان الموضوع يهمك جربي الصحف الأخرى، أو أقولك، عليك بصحف المعارضة.»

ناپیژندل شوی مخ