وفي سنة 1811 بعث الأمير بفارس الشدياق والشيخ بشير جانبلاط برجل من الدروز يقال له حسون ورد إلى الجبل الأعلى عند حلب لإنقاذ جماعته من الدروز هنالك من يد أعدائهم معززين بكتب إلى بعض الكبراء في تلك الأنحاء؛ ليمدوا له يد المساعدة، فقضيت الحاجة وأتي بتلك الجماعة إلى لبنان وكان عددهم أربعمائة بيت، فأعطاهم الأمير مائة ألف غرش وأقرهم متفرقين في مقاطعات أرباب المناصب من الدروز. وفي تلك السنة أيضا أعطيت ولاية بلاد جبيل ملكا لمحمود بك ابن سليمان باشا، وفي سنة 1813 اتخذ الأمير معلما لولده رجلا فاضلا من حمص يقال له بطرس كرامة قدم بيت الدين من عكار، وقد أحبه الأمير حتى جعله بعد ذلك كاتبا أولا ثم مدبرا له، وكان الرجل عالما نحويا شاعرا فصيحا، وبالجملة فإن الأمير بشيرا كان هادئ البال في جميع المدة التي كان مرجعه فيها إلى سليمان باشا؛ لأن سليمان باشا كان يوده كثيرا، حتى إنه لما وفد عليه الأمير مرة يعزيه بموت مدبره احتفى به احتفاء كبيرا وأكرمه إكراما لم ينل مثله أمير من أمراء لبنان من وزير عكة، ولم تتكدر كأس الأمير إلا في أواخر مدة هذا الوزير، ولكن الكدر لم يجئ من صوب الوزير بل كان بسبب حادثة جرت بين الأمراء الشهابيين أنفسهم، وبدا فيها من الشيخ بشير بعض الخيانة للأمير؛ وذلك أن الأمير حسنا الملقب بالإسلامبولي سأل من عمه الأمير حيدر أن يزوجه من ابنته الكبرى فأبى وزوجها من غيره، ثم سأله ابنته الصغرى فأبى كذلك؛ فأضمر لعمه الشر وكاشف في ذلك بعضا من بني الغريب من الدروز، فزينوا له ما نوى من قتل عمه ووعدوه باستمالة الشيخ بشير إليه، وبأن يتفانوا في سبيل مساعدته، وأشاروا عليه أن يجهر باعتناق دين الإسلام قبل أن يقوم للعمل؛ فإن ذلك يساعده على نيل الولاية، فانقاد لمشورتهم، ثم ترقب فرصة بعمه حتى بلت يده به فقتله وقتل أباه أيضا، وفر إلى دمشق فأفتى له علماؤها بأنه لا يجوز قتله لأنه مسلم قتل مرتدين عن الإسلام، وكان الأمير بشير يكاتب سليمان باشا في ذلك، وسليمان باشا يرسل إلى وزير دمشق أن يدفعه إليه، فجعله وزير دمشق في السجن لكثرة الإلحاح عليه، وكان الشيخ بشير يرسل إلى السجين سرا ويشدد عزيمته، وقد درى بذلك الأمير وأضمر في قلبه النفرة من الشيخ.
ولكن سليمان باشا ما انفك عن مراسلة وزير دمشق في الأمير حسن حتى بعث به إليه، ولكن بعد وعده بالأمان له، فلما وصل الأمير حسن إلى عكة سيره سليمان باشا إلى إسلامبول، وأما الشيخ بشير فبات في خوف من الأمير بشير وسعى جهده أن يبرئ ساحته لديه فأمنه، ولكن قلبه مفعم من الحقد عليه ومن الميل إلى تقوية اليزبكية للاستعانة بهم عليه، وقد أحس الشيخ شرف الدين القاضي الدرزي يومئذ أن الأمير يكره الشيخ بشيرا ويود اتفاق النكدية واليزبكية، فسعى لذلك سرا ووقف بينهم على أنهم يكونون مع الشيخ علي العماد زعيم اليزبكية يدا واحدة مع الأمير ضد الشيخ، ولكن ظروف الحال أبت أن يتم ذلك حينئذ؛ لأن المنية أنشبت أظفارها في وزير عكة سليمان باشا سند الأمير وركنه الأعظم، فخشي الأمير - فيما يظهر - أن يأتي أمرا خطيرا مثل ذلك حينئذ وهو على ريب من عواقبه، فاضطر لذلك ملافاة الأمور في مجراها وتسكين الأحوال بقدر الإمكان حتى يتبين ما عساه أن يكون من أمره مع الوالي الجديد عبد الله باشا الخزنة دار الذي خلف سليمان باشا بعكة.
ومن أجل ذلك فإنه لما اطلع الشيخ بشير على دخيلة الأمر وسعى عند الأمير لعزل الشيخ شرف الدين عن القضاء وللضغط على اليزبكية استجاب له وولى القضاء مسلما من برجا من إقليم الخروب يقال له أحمد البزري، وضايق اليزبكية حتى فروا إلى البقاع، ولحق بهم الشيخ حمود والشيخ ناصيف النكديان، ولبثوا مدة بين دمشق وأنحائها، وقد جرت لهم وقعة مع الأمير أمين ابن الأمير بشير؛ إذ أرسله أبوه ليبطش بهم ويقصيهم عن البلاد، فبدت منهم بسالة شديدة. ومع قلة عددهم، كسروا عسكر الأمير أمين على كثرة عدده، وجعلوا يترقبون الفرصة لقهر الأمير حتى بدت لهم؛ وذلك بسبب نفرة وقعت بين عبد الله باشا والأمير، إذ تعذر الأمير عن القيام بأداء كل ما كان يطلبه منه الباشا من الأموال؛ مما اضطر الأمير أخيرا إلى اعتزال الولاية، ولما أحس اليزبكية بذلك طرقوا أبواب عكة ففتحت لهم وسعوا لدى وزيرها أن تكون الولاية للأمير حسن علي والأمير سلمان سيد أحمد فكان ذلك، وأرسل الوزير إلى الأميرين الشيخ محمودا الدسوقي ليعيدهما إلى الإسلام، وأما الأمير بشير فرحل من لبنان ولبث شهرا ونيفا حتى مهد له درويش باشا وزير الشام يومئذ سبيل الرضا عنه من عبد الله باشا، فأذن له أن يأتي إلى جزين من لبنان، فدخلها هو والشيخ بشير، وكان الوزير قد وعده برده إلى الولاية، ولكن بعد أن يجمع الأميران اللذان ولاهما الباشا الأموال المطلوبة منهما ويبدو منهما شيء ينفتح به السبيل إلى خلعهما، ولم يلبث الأمير بشير أن تظاهر الناس بالميل إليه وعصوا الأميرين؛ فعجزا عن تحصيل الأموال، ثم خشي بأسه اليزبكية فالتمسوا سبيلا إلى استرضائه، فجرت مصالحة واتفقت جميع الأحزاب على تولية الأمير، واجتمعت جميع القلوب على ولائه.
فلما أحس بذلك وزير عكة امتلأ قلبه غيظا من الأمير فبعث إليه يلومه على ذلك وعلى مصالحة الأميرين، فأجابه أن الناس يودون أن يكون هو في خدمة الوزير، فإن لم يشأ الوزير اعتزل الخدمة، وكان إمام الوزير يحب الأمير بشيرا، فمهد له سبيل الرضا عنه؛ فآل الأمر إلى تولية الأمير بشير، ولكن الأميرين سلمان سيد أحمد وحسن علي كانا يترقبان فرصة لإثارة الفتنة حتى بدت لهما عند جمع الأموال الأميرية، فأثارا عامة الناس في الجهة الجنوبية من لبنان على الأمير ورجاله، فحدثت عدة وقائع كان النصر فيها للأمير بشير دائما، وكان الأمير بشير يترفق كثيرا بالناس ويمسك رجاله في غالب الأحيان عن الفتك بهم، ولا يبيح المقاتلة إلا خشية من أن يغر أعداءه الطمع به. ولبث على تلك الحال حتى مهد له الأمر في الجبل من أقصاه إلى أقصاه، ونزع وزير عكة ولاية بلاد جبيل من يد متسلمها وقلدها ابن الأمير بشير، ولكن لم يطل زمن السكينة واستقرار البال بالأمير؛ لأن النفرة وقعت بين درويش باشا وزير دمشق وبين عبد الله باشا وزير عكة، فتحيز الأمير لوزير عكة عبد الله باشا وقاسى بسبب ذلك أهوال حروب كبيرة، وكان دائما مكللا بالفوز والنصر؛ فازداد لذلك عند عبد الله باشا رفعة، ولكن لما كانت الدولة العلية قد عضدت درويش باشا لما بدا لها من عبد الله باشا من التعدي عليه وسيرت والي حلب مصطفى باشا لنجدته وأصبح عبد الله باشا مخذولا؛ اضطر الأمير بشير أن يفر إلى مصر حيث أكرمه محمد علي باشا الشهير إكراما بليغا، وسعى حبا به لدى الباب العالي لاستحصال العفو عن وزير عكة كل السعي حتى ناله على حسب مرغوبه، فأعيدت الولاية إلى عبد الله باشا بعد أن كان محصورا بعكة، وأما محمد علي فقد اغتنم من التجاء الأمير إليه أن اتخذه صنيعة لينفذ على يده في المستقبل مقاصد سياسية في الديار الشامية كانت تختلج بصدره؛ لأنه آنس من الأمير من شدة الحزم والعزم وصدق الولاء ما زين لعزيز مصر صلاحية التوكؤ عليه في كبار الأمور؛ ولذلك ما برح الأمير من الديار المصرية حتى كاشفه محمد علي في شيء من تلك الأغراض، ثم وجهه إلى الديار الشامية معززا مكرما، وأصحبه بالسلاح دار من خاصته، فلما أقبل الأمير على عبد الله باشا وزير عكة استقبل بالتجلة والاحتفاء استقبال من عرف قدره وجميله في استحصال ذلك العفو من الباب العالي عن الوزير.
وفي مدة غياب الأمير بالديار المصرية كانت ولاية لبنان في يد الأمير عباس أسعد، وكان الشيخ بشير متفقا معه على كيد الأمير بشير؛ فلذلك لما عاد الأمير بشير فائزا بمرامه ودرى بذلك الشيخ اضطرب باله وسعى أولا لاسترضاء الأمير عنه، ولما أيقن أنه يتعذر عليه العود إلى المنزلة التي كانت له عند الأمير فر من وجهه وسعى في استمالة الأمير عباس أسعد إليه وغيره من الأمراء، فوافاه إلى راشيا مع أخيه الأمير حسن، ثم تبعهما أخوهما الأمير منصور، ثم الأمير حسن الإسلامبولي، واستشفع الشيخ بشير صالح باشا وزير دمشق يومئذ لدى عبد الله باشا في رجوعهم إلى مواطنهم آمنين، وفي سنة 1823 ذهب الأمير عباس إلى عكة بنفسه واسترضى الوزير عنه، فرضي ولبث عنده حتى اتفق أن وفد الأمير على الوزير مشيعا سفيرا قادما من الآستانة العلية يقال له نجيب أفندي، فأصلح الباشا بينه وبين الأمير عباس. ولما عاد الأمير إلى بيت الدين أتى بالأمير عباس معه وخلع عليه خلعة دلالة على رضاه عنه، وأما الشيخ بشير فبعد أن سعى ليحالف بعضا من الأمراء على الأمير بشير ورأى نفسه مخذولا كتب إلى الأمير يستأذنه في المثول لديه ببيت الدين لاسترضائه عنه فأذن له فمضى، ولكن قلبه غير آمن من العواقب مع أن الأمير أمنه وخلع عليه خلعة الرضا ووعده بأن يعيده إلى ما كان عليه سابقا من سمو المنزلة عنده، وإذ بقي الشيخ في ريبة خصوصا بعد أن ورد من محمد علي على وزير دمشق أمر بطرده؛ عاد فسعى لاستمالة خصوم الأمير إليه، وشرع في إثارة ثورة كبيرة فأمكنه ذلك، وضم تحت لواء تلك الثورة الأمراء الأرسلانيين وكثيرين من رؤساء الأحزاب، ثم زين للأمراء سيد أحمد وأخيه الأمير فارس والأمير حسن أسعد، ثم الأمير عباس أسعد أن يكونوا يدا واحدة على الأمير بشير؛ فاتحدوا على ذلك، وانضم إليهم الأمير فاعور علي وأخوه الأمير أمين والأمير حسن الإسلامبولي وبعض الأمراء اللمعيين، وكتب الشيخ علي جنبلاط والشيخ علي العماد إلى الشيخ بشير يخبرانه بذلك ويستقدمانه إلى البلاد؛ إذ كان قد انتزحها، فاجتمع هؤلاء القوم في المختارة، ثم ما لبثت أن دارت رحى الحرب وجرت مواقع شتى بين الأمير وأعدائه، وكان الأمير معضدا من الوزراء ومن عزيز مصر بنفسه الذي عندما بلغه أمر تلك الحرب قال للأمير أمين ابن الأمير بشير يوم كان عنده موفدا من أبيه حتى يبلغه أن قد جهز له عشرة آلاف مقاتل من اللبنانيين بحسب رغبته ليحاربوا مع العساكر المصرية بكريد: «إنني إن مست الحاجة أعدل عن محاربة كريد وأملأ لبنان من عساكري.» وجهز العزيز ستة آلاف مقاتل لمساعدة الأمير، وما وقفت عن المسير إلى الديار الشامية إلا لأن الأمير أصبح في غنى عنها؛ فإن الدوائر دارت على أعدائه، ولكن بعد أن ضايقوه مضايقة شديدة، ففر الأمراء الشهابيون والأرسلانيون والمشايخ إلى جزين يقصدون الديار الحورانية، ولما بلغوا مجدل شمس اختلفوا رأيا، فبعضهم تقدم إلى حوران وبعضهم لم يشأ أن يتقدم، ولكن لم يجدهم فرارهم نفعا فقد وقعوا في يد من كانوا يتعقبونهم، أما الشيخ علي العماد فكان نصيبه أن قطع بأمر وزير دمشق بالسيوف تقطيعا.
وأما الشيخ بشير والشيخ أمين العماد فقتلا خنقا بعكة بأمر وزيرها؛ بناء على طلب من الأمير معزز بإرادة عزيز مصر، وبقيت جثتاهما ثلاثة أيام معروضتين للناظرين، وأما الأمراء الشهابيون سلمان وأخوه فارس والأمير عباس أسعد فسمل الأمير أعينهم وقطع ألسنتهم، وأما الشيخ نجم بن علي بن بشير بن نجم، فسعى الأمير لتخلية سبيله من سجن عكة وصادره بخمسة وعشرين ألف قرش، ثم جعل ولده الأمير خليلا على إقليم جزين وإقليم التفاح وجبل الريحان، وولده الآخر قاسما على العرقوب، وجعل الأمير بشير ملحم على الشويفات، وعهد بأمور الأمراء اللمعيين إلى الأمير ملحم والغرب الأسفل عدا الشويفات جعله في يد التلاحقة، والشوف في يد الشيخ حمود والشيخ نصيف النكديين، وإقليم الخروب في يد الشيخ حسين حماده من بعقلين، وخلا له الجو واستقام الأمر، ثم عاد الأمير أمين من مصر بعد أن مكث بها أكثر من سنة. وفي سنة 1826 جمع الأمير عسكرا كبيرا من لبنان لنجدة بيروت ضد السفن اليونانية التي سطت على المدينة، ولكن ما لبثت تلك السفن أن أقلعت عنها على أثر احتشاد العساكر فيها فلم تقم سوق الحرب، ثم انقضت مدة لم يحدث فيها شيء من الحوادث الحرية بالذكر إلا رجوع بعض الأمراء الفارين من البلاد خوفا من الأمير، وتجاوز الأمير عن الانتقام منهم، ولما كانت سنة 1830 سار الأمير وابنه الأمير خليل وبعض من أرباب المناصب في ألفي مقاتل من اللبنانيين لفتح قلعة سانور بنابلس إنفاذا لإرادة وزير عكة، فظهرت بمحاصرة تلك القلعة بسالة الأمير ورجاله ولا سيما الشيخ نصيف النكدي، وعلى يدهم أخذت تلك القلعة، فعاد الأمير بجماعته إلى بيت الدين فائزا منصورا. وفي السنة التالية سنة 1831 استعاد الأمير باقي الذين انتزحوا لبنان إلى مواطنهم فعادوا آمنين، ومالت نفس الأمير إلى السكينة، ولكن كتب لهذا الرجل الكبير أن يظل دائما في ساحة القتال فإنه في خلال تلك السنة قدم إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا من مصر إلى الديار الشامية لإنفاذ مقاصد أبيه التي كاشف فيها أبوه الأمير بشيرا أيام كان هذا الأمير بمصر، كما تقدم ذكر ذلك فيما مضى، فتعمد إبراهيم باشا أن يحاصر بجيوشه عكة، فطلب عبد الله باشا من الأمير أن ينجده برجاله وكذلك إبراهيم باشا؛ فإنه سأل الأمير النجدة، فرأى الأمير أن ينصاع في آخر الأمر لإرادة ابن عزيز مصر، فوافاه بمائة فارس إلى صحراء عكة، فأكرمه إبراهيم باشا، ووسع في نطاق سلطته بناء على إرادة أبيه محمد علي، وكان الأمير مساعدا لإبراهيم باشا في غالب حروبه في الديار السورية، ولكن اللبنانيين كانوا حينئذ حزبين، منهم من تحيز للدولة العلية وقد انضم إليهم بعض الأمراء، ومنهم من تحيز لإبراهيم باشا تبعا للأمير، وكان الأمير خليل ابن الأمير بشير ينجد العساكر المصرية في غالب المواقع، وقد سأل إبراهيم باشا من الأمير أن يجمع له من الدروز ألف وستمائة جندي من شبان الدروز ليكونوا في سلك العساكر المصرية المنظمة، فتعذر ذلك في أول الأمر ثم استحصل بالعنف.
وقد امتد إبراهيم باشا في حروبه إلى حوران مع الدروز فيها، وقد انضمت إليهم العربان، وكانت تنجدهم دروز وادي التيم ولبنان على علم من الأمير ولم يتصد لمنعهم، وكان مقدام هؤلاء رجل مشهور يقال له شبلي العريان، أظهر بسالة في المواقع عظيمة ولم يظفر إبراهيم باشا به إلا بعد أن ألحق العريان بعساكره خسارة كبيرة. وبالجملة، فإن المدة التي قضاها إبراهيم باشا في الديار الشامية قضاها في المحاربة، وكان الأمير مساعدا له حتى بلغ إبراهيم باشا أيقونية وعقد الصلح هناك، وبعد أن عاد منها حتى سنة 1840 حين اتفقت بعض الدول الأوروبية مع الدولة العلية على استخلاص الديار الشامية من يد محمد علي، وكان الأمير قد نال في خلال تلك المدة من محمد علي بواسطة الرجل الفرنساوي الشهير كلوظ بك الذي استقدمه محمد علي إلى مصر وجعله رئيسا للقصر العيني بها أن يكون بعض من الطلبة اللبنانيين في جملة طلبة الطب في القصر العيني، فأرسل لذلك ثلاثة من الطائفة الماونية ومملوكه سليما إلى تلك المدرسة، واستمرت عادة إرسال الطلبة اللبنانيين زمنا طويلا، ولم تنقطع إلا في أيام المغفور له توفيق باشا من خلفاء محمد علي.
ثم لما كانت تلك السنة المتقدم ذكرها سنة 1840، وكان سلطان العثمانيين يومئذ ساكن الجنان السلطان عبد المجيد خان الغازي اتفق معه ملك النمسا ملك المسكوب وملكة الإنكليز وملك ألمانيا على استخلاص سورية من يد محمد علي، فأشيع في لبنان بعدئذ أن محمد علي عامد على إدخال المسيحيين في سلك العسكر النظامي المصري، فمالوا إلى العصيان على إبراهيم باشا واتحدوا مع الدروز عليه وأخذوا يسطون على عساكره كلما سنحت لهم السانحة، وتولى قيادة تلك الثورة على العساكر المصرية بعض من اللبنانيين مثل الشيخ فرنسيس أبي نادر الخازن الغسطاوي وأبي سمرا غانم البكاسيني وأحمد داغر المتوالي، ولكن الأمير سعى إلى تسكين الثورة على يد بعض الأمراء الذين استسفرهم لإقناع الثائرين بالعدول عن مسلكهم، فسلك الأمراء في الظاهر على حسب رغبة الأمير، ولكن في الباطن كانوا ينفخون في نيران الثورة، ثم انضموا إلى الثائرين.
وجعلت الإفرنج القادمة لاستخلاص البلاد من يد محمد علي تشدد عزائمهم وتمدهم ببعض من الذخيرة، فاستفحل أمرهم وكبر عددهم وجرت بينهم وبين العساكر المصرية والأمير وأعوانه عدة مواقع، ولكن أفضى أمرهم إلى الفشل والانخذال، فتبدد شملهم وتفرقوا في البلاد، ومنهم من لاذ بأمان الأمير فأمنه وجمع السلاح من البلاد، وكان الأمير خليل هو القائم بنفسه بجمعه من كسروان، وشدد عليهم في ذلك كثيرا، وقد قيد عدد من خاصة اللبنانيين وعامتهم وسيقوا أسرى إلى مصر؛ فنفاهم محمد علي إلى سنار، وكان في خلال تلك الحوادث قد قدم من الآستانة ريجارد وود الإنكليزي مفوضا إليه تدبير تلك الأمور؛ لأنه كان عارفا لأحوال البلاد واللغة العربية، فأشار على الثائرين الذين كانوا مجتمعين في ضواحي بيروت أن يرفعوا عرائض إلى الدولة العثمانية وإلى سفراء الدولة النمساوية والفرنساوية والإنكليزية ملتمسين إنقاذهم من يد الحكومة المصرية، ففعلوا ودفعوها إليه فبعث بها إلى الآستانة، ثم قدم الأميرال تيجر الإنكليزي بخمس سفن إلى بيروت، وأرسل يبشر اللبنانيين بقدوم الأسطول العثماني معززا بأساطيل نمساوية وإنكليزية وروسية وألمانية لنزع السلطة المصرية عن الديار السورية، فلما أحس بذلك الأمير أرسل ينهى أهل البلاد عن مخالطة الإفرنج، ويتهدد من خالف منهم بالقتل، فوقع منشور نهيه هذا في يد رجل إنكليزي، فدفعه الرجل إلى رئيس الأسطول الإنكليزي والرئيس بعث به إلى الحكومة الإنكليزية، ثم ظهرت الأساطيل الموعود بها قبالة الدامور، وكانت تبلغ أربعين سفينة بين كبيرة وصغيرة، وكان فيها من الجنود العثمانية خمسة آلاف وخمسمائة جندي، ومن الجنود الإفرنجية نحو ألفين، فتشددت عند ذلك عزائم الثائرين، ثم أطلق بعض السفن المدافع على بيروت، وخرج سرعسكر الجنود العثمانية سليم باشا بالجنود مع الأمراء الإفرنج إلى ضواحي جونية، وخيموا عند شبر الباطية هناك، ثم شرع في توزيع السلاح على الثائرين، وحرضوا على قتال العساكر المصرية، ثم أرسل السرعسكر إلى الأمير بشير بلاغا يقول له فيه: «إذا أبديت الطاعة للدولة العلية في مدى ثمانية أيام أبقتك الدولة واليا كما كنت، وكانت الولاية لك ولذريتك من بعدك، وإلا فلا يقبل منك طاعة بعد انقضاء ذلك الأجل.» فأجاب الأمير أنه يتعذر عليه ذلك ما دام أولاده وحفدته مقيدين في سلك العساكر المصرية.
وربما كان الأمير مغرورا بأن الفرنساويين ربما يجيئون لنصرة عزيز مصر، فحدثت بعد ذلك مواقع شتى، وقد انتصر إبراهيم باشا في وقعة في كسروان والفتوح انتصارا خافت منه الجنود العثمانية، حتى إنها كادت تلتمس الفرار إلى البحر، ولما انقضى الأجل المضروب للأمير بشير أن يبدي الطاعة فيه استقدم السرعسكر العثماني الأمير بشير ملحم، واستمرت نيران الحرب مستعرة بين إبراهيم باشا وأعوانه من اللبنانيين وبين عساكر الدولة وأعوانها من هؤلاء أيضا، وكانت الدوائر دائرة على الفريق الأول منهما.
ناپیژندل شوی مخ