فركب يوما فرسا صعبا فكبا به فوقصه فجزع عليه أبوه جزعا شديدا وامتنع من الطعام واحتجب عن الناس فاجتمعت وفود العرب ببابه ليعزوه فلامه نصحاؤه في إفراط جزعه، فخرج إلى الناس فقام خطباؤهم يؤسونه وكان في القوم الملبب بن عوف بن سلمة بن عمرو بن سلمة الجعفي وجعادة بن الحارث وهو جد الجراح بن عبد الله الحكمي صاحب خراسان.
فقام الملبب، فقال:
أيها الملك: إن الدنيا تجود لتسلب وتعطي لتأخذ وتجمع لتشتت وتحلي لتمر وتزرع الأحزان في القلوب بما تفجأ به من استرداد الموهوب.
وكل مصيبة تخطيك جلل ما لم تدن الأجل وتقطع الأمل.
وإن حادثا ألم بك فاستبد بأقلك وصح عن أكثرك لمن أجل النعم عليك وقد تناهت إليك أنباء من قد رزئ فصبر وأصيب فاغتفر إذ كان شوى فيما يرتقب ويحذر فاستشعر اليأس مما فات إذا كان ارتجاعه ممتنعا ومرامه مستصعبا فلشيء ما ضربت الأسى وفزع أولو الألباب إلى حسن العزاء.
وقام جعادة فقال:
أيها الملك لا تشعر قلبك الجزع على ما فات، فيغفل ذهنك عن الاستعداد لما هو آت، وناضل عوارض الحزن بالأنفة عن مضاهاة أفعال أهل وهن العقول، فإن العزاء لحزماء الرجال والجزع لربات الحجال!
ولو كان الجزع يرد فائتا أو يحيي تالفا: لكان فعلا ذميما!
فكيف به وهو مجانب لأخلاق ذوي الألباب فارغب بنفسك أيها الملك عن ما يتهافت فيه الأذلون وصن قدرك عما يركبه المخسوسون وكن على ثقة من أن طمعك فيما استبدت به الأيام ضلة كأحلام النيام.
مخ ۱۵۷