كتاب الذهب المسبوك في ذكر من حج من الخلفآء والملوك تأليف المقريزي
مخ ۱۱۵
بسم الله الرحمن الرحيم، رب، يسر، يا كريم.
الحمد لله، وبه المستعان، على كل ما عز وهان.
وصلى الله على نبينا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه والتابعين، صلاة باقية إلى يوم الدين.
وبعد، فأسأل الله مبتهلا إليه مادا يدي له أن يتبع أيام المقر المخدوم بأخواتها الباقيات الصالحات والزيادات الغامرات، ليكون كل دهر يستقبله وأمل يستأنفه، موفيا على المتقدم له قاصرا عن المتأخر عنه، ويؤتيه من العمر أطوله وأبعده ومن العيش أعذبه وأرغده، عزيزا منصورا محميا موفورا، باسطا يده فلا يقبضها إلا على نواصي {أعداء} وحساد، ساميا طرفه فلا يغضه إلا على لذة غمض ورقاد، مستريحة ركابه فلا يعملها إلا لآستضافة عز وملك، {حائزة} قداحه فلا يجيلها إلا لحيازة مال حتى ينال أقصى ما تتوجه اليه أمنية جامحة، وتسموا إليه همة طامحة.
وقد استفاض أن العزم الشريف قد {قوى} على الحج والتحلى بالعج والثج. وجرت العادة بإلطاف العبيد السادة، فتأملت حال الأتباع الذين يجب عليهم الهدايا في مثل هذه الحركة، فاردت التأسى بهم، ورأيتني أن اهديت نفسي فهي في ملك المقر المخدوم، وأن اهديت مالي فهو منه، وأن اهديت مودتي وشكري فهما خالصين له غير مشتركين. وكرهت أن أخلي هذا العزم من سنته وأكون من المقصرين، أو أدعى في ملكي ما يفي بحق المقر المخدوم فأكون من الكاذبين [الكامل]
مخ ۱۸۰
إن أهد نفسي فهو مالكها و{لها أصون كرائم الذخر} أو أهد مالا فهو واهبه وأنا الحقيق عليه بالشكر أو أهد شكري فهو مرتهن بجميل فعلك آخر الدهر والشمس تستغني إذا طلعت أن تستضئ بطلعة البدر ولما كان العلم أنفس الذخائر وأعلاها قدرا وأعظم المآثر وأبقاها ذكرا، جمعت برسم الخزانة الشريفة المخدومية -عمرها الله {ببقاء} مالكها- {جزءا} يحتوي على ذكر من حج من {الخلفاء} والملوك سميته "الذهب المسبوك"، ليكون تذكرة للخاطر الشريف بما هو مني أدري وأحق بإفادته وأحرى. و{إني} - فيما فعلت وصنعت- كمن أهدي القطر الى البحر، أو بعث النور إلى القمر والأرج الى الزهر، بل كالذي أرسل {الضياء} إلى الشمس وروح {الحياة} إلى النفس، غير أن في كريم أخلاقه الزكية، وزاكي أعراقه المرضية ما يقبل اليسير ويتجاوز عن الخطأ والتقصير.
رعى الله المخدوم من حيث لا يرتقب، وحرسه من حيث لا يحتسب. وكان له في سفره خفيرا، أو في حضره عونا وظهيرا بمنه.
مخ ۱۸۲
فصل في حجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم افتتحت بها هذا {الجزء} إذ كان -صلى الله عليه وسلم- هو الذي بين للناس معالم دينهم وقال: "خذوا عني مناسككم".
وقد امتلأت كتب الحديث بذكر حجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأفرد فيها الفقيه الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي مصنفا جليلا، قد اعترض عليه في مواضع منه، أجبت عنها في كتاب «شارع النجاة « وملخص حجة الوداع أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما دخل ذو القعدة تجهز للحج، وأمر الناس بالجهاز له، وأذن فيهم، فاجتمعوا. ثم صلى الظهر يوم الخميس لست بقين من ذي القعدة سنة عشر من الهجرة بالمدينة أربعا، وخرج منها بمن معه من المسلمين من أهل المدينة ومن تجمع من الأعراب -
مخ ۱۸۴
وهم عشرة آلاف-، بعدما استعمل على المدينة أبا دجانة الساعدي -ويقال سباع بن عرفطة الغفاري. فصلى العصر بذي الحليفة ركعتين وبات بها.
وأتاه آت من ربه -عز وجل- في ذلك الموضع -وهو وادي العقيق- يأمره -عن ربه تعالى- أن يقول في حجته: "هذه حجة في عمرة". ومعنى هذا أن الله سبحانه أمره بأن يقرن الحج مع العمرة.
مخ ۱۸۶
فأصبح -صلى الله عليه و سلم- فأخبر الناس بذلك. وطاف على {نسائه} {يومئذ} بغسل واحد -وهن تسع وقيل إحدى عشرة. ثم اغتسل وصلى عند المسجد ركعتين، وأهل بحجة وعمرة معا.
هذا الذي رواه بلفظه ومعناه عنه -صلى الله عليه وسلم- ستة عشر صحابيا، منهم خادمه أنس بن مالك -رضي الله عنه.
وقد رواه عنه -صلى الله عليه وسلم- ستة عشر تابعيا، قد ذكرتهم في كتاب «شارع النجاة». وهذا صريح لا يحتمل التأويل إلا أن يكون بعيدا، وما عدا ذلك مما {جاء} من الأحاديث الموهمة التمتع أو ما يدل على الإفراد ، فليس هذا محل ذكرها. والقران في الحج هو مذهب إمامنا أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي - رحمة الله عليه، وقد نصره جماعة من محققي أصحابه، وهو الذي يحصل به الجمع بين الأحاديث
مخ ۱۸۸
كلها. ومن {العلماء} من أوجبه، وممن قال بأفضليته الإمام أبو حنيفة {النعمان بن} ثابت -رحمه الله-، وهو رواية عن الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني -رحمه الله.
وساق -صلى الله عليه وسلم- الهدي من ذي الحليفة، وأمر من كان معه هدي أن يهل كما أهل -صلى الله عليه وسلم. وسار -صلى الله عليه وسلم- والناس بين يديه وخلفه وعن يمينه وشماله أمما لا يحصون كثرة، كلهم قدم ليأتم به -صلى الله عليه وسلم. فلما قدم -صلى الله عليه وسلم- مكة لاربع ليال خلون من ذي الحجة طاف للقدوم. ثم سعى بين الصفا والمروة، وأمر الذين لم
مخ ۱۹۰
يسوقوا هديا أن يفسخوا حجهم إلى عمرة ويتحللوا حلا تاما، ثم يهلوا بالحج وقت خروجهم إلى منى.
وقال ثم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة". وهذا دليل ظاهر أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن متمتعا، كما ذهب إليه بعض أصحاب الإمام أحمد وغيرهم.
وقدم علي بن ابي طالب -رضي الله عنه- من اليمن، فقال له -صلى الله عليه وسلم-: "بما أهللت؟" قال: "بإهلال كإهلال النبي -صلى الله عليه وسلم". فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إني سقت الهدي وقرنت". روى هذا اللفظ أبو داود وغيره من الأئمة
مخ ۱۹۲
بإسناد صحيح، وهو صريح في القران. وقدم مع علي -رضي الله عنه- من اليمن هدايا. فأشركه -صلى الله عليه وسلم- في هديه أيضا، فكان حاصلهما {مائة} بدنة.
ثم خرج -صلى الله عليه وسلم- إلى منى، فبات بها، وكانت ليلة الجمعة التاسع من ذي الحجة. ثم أصبح، فسار إلى عرفة ، وخطب بنمرة خطبة عظيمة شهدها من أصحابه نحو من أربعين ألفا -رضي الله عنهم أجمعين. وجمع بين الظهر والعصر. ثم وقف بعرفة، فحج على رحل، وكانت زاملته. ثم بات بالمزدلفة، وجمع بين المغرب و{العشاء ليلتئذ}. ثم أصبح، فصلى الفجر في أول وقتها. ثم سار قبل طلوع الشمس إلى منى، فرمى جمرة العقبة، ونحر وحلق. ثم أفاض، فطاف بالبيت طواف الفرض، وهو طواف الزيارة.
مخ ۱۹۴
واختلف أين صلى الظهر {يومئذ}، وقد أشكل ذلك على كثير من الحفاظ. ثم حل من كل شيء حرم منه -صلى الله عليه وسلم. وخطب ثاني يوم النحر خطبة عظيمة أيضا، ووصى وحذر وأنذر، وأشهدهم على أنفسهم بأنه بلغهم الرسالة. فنحن نشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الإمانة، ونصح الأمة. صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. ثم أقبل -صلى الله عليه وسلم- منصرفا إلى المدينة، وقد أكمل الله له دينه.
مخ ۱۹۶
لطيفة النداء بالحج سنة للمسلمين. وينادى بديار مصر في رجب، وهو قياس ندائه -عليه السلام- أول ذي القعدة، لأن مسافة الحج من المدينة عشرة أيام فقدم {النداء} بثلاثة أمثالها، ومسافة الحج في البر من مصر أربعون يوما، فقدم النداء بثلاثة أمثالها، فكانت الجملة من أول رجب إلى انقضاء عشر ذي الحجة خمسة أشهر وعشرة أيام.
وكذلك بدمشق.
وأول من أدار المحمل الملك الظاهر بيبرس البندقداري -رحمه الله.
مخ ۱۹۸
فصل في ذكر من حج من الخلفاء في مدة خلافته 1. أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
اسمه عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك القرشي التيمي، خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
بويع له بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيعة العامة يوم الثلاثاء ثالث عشر شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة.
فحج بالناس في هذه السنة عتاب بن آسيد، وقيل: عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما.
مخ ۲۰۰
وحج أبو بكر -رضي الله عنه- بالناس سنة اثنتي عشرة، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وقيل: حج بالناس عمر بن الخطاب أو عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما-، والأول أصح.
وتوفي أبو بكر -رضي الله عنه- على رأس سنتين وثلاثة أشهر واثني عشر يوما، وقيل غير ذلك.
مخ ۲۰۲
2. عمر بن الخطاب ابن نفيل بن عبد {العزى} بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدى بن كعب القرشي العدوي، أبو حفص، أمير المؤمنين -رضي الله عنه.
ولي الخلافة بعد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه. بويع له بها باستخلافه له في جمادى الآخرة سنة {ثلاث} عشرة، واختلف في اليوم كما اختلف في يوم وفاة أبي بكر -رضي الله عنه. وقتل مطعونا بيد أبي لؤلؤة -غلام المغيرة بن شعبة- لثلاث بقين من ذي الحجة سنة {ثلاث} وعشرين. فكانت خلافته عشر سنين ونصف، حج في جميعها إلا السنة الأولى فقط، فإنه حج بالناس فيها عتاب بن آسيد، وقيل: بل حج عمر بالناس سنيه كلها.
وفي سنة سبع عشرة اعتمر -رضي الله عنه- وبنى المسجد الحرام ووسع فيه، وأقام بمكة عشرين ليلة.
فهدم على قوم أبوا أن يبيعوا دورهم وعوضهم أثمانها من بيت المال. وجدد أنصاب الحرم على يد
مخ ۲۰۴
مخرمة بن نوفل في آخرين. واستأذنه أهل المياة في أن يبنوا منازل بين مكة والمدينة، فأذن لهم وشرط عليهم أن ابن السبيل أحق بالظل و{الماء}.
ثم خرج من المدينة عام الرمادة حاجا أو معتمرا، فأتى الجار ليرى السفن التي قدمت من مصر في الخليج الذي احتفره عمرو بن العاص، كما قد ذكرت خبره في كتاب «المواعظ والاعتبار بذكر
مخ ۲۰۶
الخطط والآثار». وقال للناس: "سيروا بنا ننظر إلى السفن التي سيرها الله إلينا من أرض فرعون".
وأكل في سفره هذا -وهو محرم- لحم ظبي أصابه قوم حلال. فلما نزل على البحر قال: "اغتسلوا من {ماء} البحر فإنه مبارك".
ثم صك للناس بذلك الطعام صكوكا، فتبايع التجار الصكوك بينهم قبل أن تقبضوها. فلقي عمر {العلاء} بن الاسود، فقال: "كم ربح حكيم بن حزام؟" فقال: "ابتاع من صكوك الجار {بمائة} ألف درهم، وربح عليها {مائة} ألف". فلقيه عمر، فقال: "يا حكيم، كم ربحت؟" فأخبره بمثل خبر {العلاء}، قال: "فبعته قبل أن تقبضه؟" قال: "نعم". قال: "فإن هذا بيع لا يصلح، فاردده". قال: "ما علمت أن هذا لا يصلح وما أقدر على رده". قال: "ما بد". قال: "والله، ما أقدر على ذلك، وقد تفرق وذهب، ولكن رأس مالي وربحي صدقة".
مخ ۲۰۸
واتفق في آخر حجة حجها عمر -رضي الله عنه- أنه لما رمي الجمرة أتاه حجر فوقع على سلعته، فأدماه. وثم رجل من بني لهب، فقال: "اشعر أمير المؤمنين لا يحج بعدها". ثم {جاء} إلى الجمرة الثانية، فصاح رجل: "يا خليفة رسول الله". فقال: "لا يحج أمير المؤمنين بعد عامه هذا". فقتل عمر -رضي الله عنه- بعد رجوعه من الحج. لهب -مكسور اللام- قبيلة من قبائل الازد تعرف فيها العيافة والزجر.
وعن {عائشة} -رضي الله عنها- أن عمر أذن لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحججن في آخر حجة حجها. قالت: "فلما ارتحل من الحصبة، أقبل رجل متلثم، فقال -وأنا أسمع-: "أين كان منزل أمير المؤمنين؟" فقال {قائل} - وأنا أسمع-: "هذا كان منزله"، فأناخ في منزل عمر، ثم رفع عقيرته يتغنى: [الطويل]
مخ ۲۱۰
عليك سلام من أمير وباركت يد الله في ذاك الأديم الممزق فمن يجر أو يركب جناحي نعامة ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق قضيت أمورا ثم غادرت بعدها بوايح في أكمامها لم تفتق." قالت {عائشة}: "فقلت لبعض أهلي: "اعلموا لي من هذا الرجل؟" فذهبوا، فلم يجدوا في مناخه أحدا." قالت {عائشة}: "فوالله، إني لأحسبه من الجن". فلما قتل عمر نحل الناس هذه الأبيات للشماخ بن ضرار أو لأخيه مزرد. هكذا روى هذا الخبر الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري.
وذكر محمد بن عمر الواقدي في «كتاب الفتوح» هذه الأبيات بزيادة في عدتها.
مخ ۲۱۲
وقال أبو عثمان النهدي: "رأيت عمر يرمي الجمرة وعليه إزار مرقوع بقطعة جراب". وقال علي بن أبي طالب: "رأيت عمر يطوف بالكعبة وعليه إزار فيه إحدى وعشرون رقعة فيها من أدم".
وعن سعيد بن المسيب، قال: "حج عمر، فلما كان بضجنان قال: "لا اله الا الله العلي العظيم المعطى من {شاء} ما {شاء}، كنت أرعى إبل الخطاب بهذا الوادي في مدرعة صوف، وكان فظا يتعبني إذا عملت، ويضربني إذا قصرت، وقد امسيت وليس بيني وبين الله أحد". ثم تمثل: [الكامل] لا {شيء} مما ترى تبقى بشاشته، يبقى الإله ويودى المال والولد لم تغن عن هرمز يوما {خزائنه}، والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
مخ ۲۱۴
ولا سليمان إذ تجري الرياح له، والإنس والجن فيما بينها برد أين الملوك التي كانت نوافلها من كل أوب إليها راكب يفد حوض هناك مورود بلا كدر، لا بد من ورده يوما كما وردوا.
مخ ۲۱۶