المطلقات والطبائع البسيطة والمسائل
ما المنهج الذي اكتشفه ديكارت - إن وجد - قبل عام 1628؟ يشير الجزء الثاني من «مقال عن المنهج» أنه إبان التجربة التي عاشها ديكارت في الغرفة ذات الموقد، كان قد حدد بالفعل أربعة مبادئ يسترشد بها في جميع تساؤلاته (6 : 18). تساءل نقاد «مقال عن المنهج»: هل كانت هذه المجموعة من القواعد يمكن حقا أن ترقى لتكون «منهجا»؟ وتعاطف ديكارت نفسه مع هذا الاعتراض؛ ففي تعليق لمراسل حول الوصف المناسب لمؤلفه، رفض أن يطلق عليه أطروحة كما أشار البعض عليه، استنادا إلى كونه يلمح إلى وجود منهج أو يعلن عنه دون أن يتجاوز ذلك إلى تدريس المنهج نفسه. هناك مشروع أشبه بالأطروحة وضعه ديكارت قرابة عام 1628، ولكنه لم ينته منه قط، وكان من المقرر أن يحوي عددا من القواعد لا تقل عن 36 قاعدة في ثلاث مجموعات، قوام كل منها 12 قاعدة، وسميت الأطروحة غير المكتملة: «قواعد لتوجيه الفكر». وتناوله للمنهج في تلك الأطروحة أكثر تعقيدا من تناول مؤلفه «مقال عن المنهج» له، ولكن لعله أكثر التزاما بالإجراءات العامة لحل المسائل التي خطرت لديكارت أول الأمر.
وإذ يشرح ديكارت القواعد الاثنتي عشرة الأولى في «قواعد لتوجيه الفكر»، نراه يمر على بعض النقاط التي من المفترض أنه درسها خلال تأملاته على مقربة من مدينة أولم في نوفمبر عام 1619. تنص القاعدة الرابعة على أنه يجب أن يكون المنهج لا الفضول دليلنا في البحث. وتعليقا على هذه القاعدة، يركز ديكارت على فائدة الأساليب المعلومة لحل المسائل في العلوم الرياضية المحدودة، ويتساءل عما إذا كان في الإمكان توسعة نطاقها بحيث تشمل «فروعا معرفية تعرقل تقدمها عقبات أكبر» (10 : 373). ويستقر رأيه على أنه يمكن توسعة نطاقها، أو يقرر أن الأساليب المعمول بها في الجبر والهندسة حالات خاصة لشيء أكثر عمومية؛ إجراء للإجابة عن مسائل خاصة بالأرقام والأشكال والكثير من الأشياء غيرها. وفي مرحلة تالية من نقاشه للقاعدة الرابعة، وبعد أن ألمح إلى توافر منهج عام بالكامل لحل المسائل، أكد فعليا أن ثمة «رياضيات كلية»:
تجلى لي أن الاهتمام الوحيد للرياضيات ينصب على مسائل الترتيب أو القياس، وأنه لا يهم إن كان القياس المعني ينطوي على أرقام أو أشكال أو نجوم أو أصوات أو أي شيء آخر أيا كان. وقادني هذا إلى إدراك أنه لا بد وأن هناك علما عاما يفسر جميع الأمور التي يمكن طرحها بخصوص الترتيب والقياس بغض النظر عن الموضوع نفسه، وأن هذا العلم يجب أن يطلق عليه اسم «الرياضيات الكلية» ... ذلك لأنه يغطي كل ما يؤهل ... العلوم الأخرى لأن تسمى فروعا من الرياضيات. (10 : 377-378)
ويواصل حديثه قائلا إن هذا العلم يتجاوز العلوم الثانوية الممثلة في الهندسة والفلك والموسيقى والبصريات والميكانيكا وغيرها «من حيث الوحدة والبساطة»، ويضيف أنه نظرا لمستواه العالي جدا من العمومية، فإنه لا يحوي بعض الصعوبات التي تعرقل العلوم المتخصصة.
يرى ديكارت أن هناك ثلاث قواعد محورية بالنسبة للأطروحة بأسرها (10 : 392). فالقاعدة الخامسة تملي على الباحث أن «يختزل القضايا المعقدة والغامضة بصفة تدريجية إلى قضايا أبسط، ثم يبدأ من خلال حدس القضية الأبسط على الإطلاق، ويحاول أن يرقى وفق نفس التدرج إلى معرفة القضايا الأخرى» (10 : 379). وتتوسع القاعدة السادسة بعض الشيء فيما يعد «بسيطا »؛ أما القاعدة السابعة فتقدم أسلوبا «للارتقاء» استنادا لألفاظ القاعدة الخامسة من القضايا الأبسط التي اختزلت فيها مسألة صعبة، مرورا إلى القضايا الباقية كلها.
ويوضح ديكارت كيف يمكن تطبيق هذه القواعد وغيرها من القواعد بشكل صحيح (10 : 393 والصفحات التالية). ويبدأ ديكارت بمسألة «انكسار الضوء»؛ وهذه مسألة في علم البصريات لوصف الخط أو المسار الذي تنحرف عنده أشعة متوازية من الضوء بطريقة تجعلها تتقاطع عند نقطة واحدة، عندما تصطدم بوسط أكثر كثافة. يقول ديكارت إن أي رياضي لا يفقه شيئا في الفيزياء لن يستطيع أن يحرز سوى تقدم محدود في هذه المسألة؛ فسيكتشف أن الخط الذي يسعى إليه يعتمد على نسبة بين الزوايا التي تصطدم عندها الأشعة بالوسط الأكثر كثافة والزوايا التي تنكسر عندها. وسيتتبع القاعدة الخامسة في اكتشافه لهذه المسألة بقدر أكبر؛ القاعدة الخامسة التي تملي على الباحث حل أية مسألة بواسطة اختزالها إلى قضايا أبسط؛ أي قضايا معلومة بما يسهل حل المسألة. وتورد إحدى القضايا نسبة الزوايا إلى بعضها، ولكن هذا هو منتهى ما يمكن أن يصل إليه الرياضي البحت؛ وذلك لأن الرياضي البحت، الذي ينتهك القاعدة الأولى من البحث المنصوص عليها في «قواعد لتوجيه الفكر» (قارن: 10 : 361)، يسعى إلى الحقيقة المرتبطة بالأرقام والأشكال وحسب، لا المتعلقة بالأشياء عموما. «يمكن» إيجاد حل لمسألة الأشعة المنكسرة، ولكن من قبل شخص يتجاوز مسألة النسبة بين الزوايا ويرى ما تعتمد عليه تلك النسبة. ما يتعين على الباحث فهمه أن النسبة بين الزوايا تتباين بفعل تغيرات في الزوايا تحدث بسبب اختلافات في الوسائط التي تمر عبرها أشعة الضوء. ولكي يفهم هذه التغيرات، يتعين عليه أولا استيعاب أشياء أخرى؛ وهي كيفية مرور الضوء عبر «المادة الدقيقة» المناسبة لانتقاله، وطبيعة حركة الضوء أو قوته، وطبيعة القوة الطبيعية عموما. ويرتهن استيعاب تلك الأشياء بفهم قضايا «أبسط» من القضية التي تنص على النسبة بين الزوايا. القضية «الأبسط» من بين هذه القضايا البسيطة هي التي تشرح ماهية القوة الطبيعية.
وطبيعة القوة الطبيعية هي ما يعتبرها ديكارت الاصطلاح الأكثر «إطلاقا» في سلسلة الاعتبارات المتعلقة بمسألة انكسار الضوء (10 : 395). وعموما، فإن الاصطلاحات المطلقة لمتسلسلة ما هي التي تمكن الباحث من أن يضع يده على الأشياء «البسيطة» التي تجعل الطبائع المجهولة، كطبيعة الضوء، مفهومة. واستنادا إلى القاعدة السادسة في «قواعد لتوجيه الفكر»، يقدم لنا بعض الخصائص النموذجية للمطلقات:
إنني أصف كل ما يحوي بداخله الطبيعة المحضة البسيطة محل البحث بأنه: «مطلق»؛ أي ما ينظر إليه باعتباره مستقلا، سببا، بسيطا، شاملا، واحدا، مكافئا، مشابها، خطيا، وغيرها من السمات الشبيهة. (10 : 381)
تبدو قائمة السمات متنوعة حتى يقرأ المرء المزيد ويكتشف أنه بالنسبة لديكارت يمكن التعبير عن جميع المسائل القابلة للحل بمعادلات بين الكميات المعلومة والمجهولة المستخلصة من البيانات المرتبطة بتلك المسائل. ويرد ذكر التكافؤ في قائمة المطلقات بسبب استخدام المعادلات في بيان العلاقات التي تربط ما بين المعلوم والمجهول. ويرد ذكر صفة «الخطية»؛ لأن ثمة معادلات بعينها يمكن التعبير عنها كخطوط مستقيمة في نظام إحداثي. ويمكن بيان الإطلاق، من حيث ما يمكن فهمه بذاته لا استنادا إلى أشياء أخرى، في حالة انكسار الضوء: فيمكن فهم قوة الضوء حال فهم القوة عموما وحسب، ولكن فهم القوة عموما لا يعتمد على فهم نوع بعينه من القوة، كقوة الضوء.
ناپیژندل شوی مخ