الحمد لله الذي طهر قلوب الموحدين من دنس الشرك، والصلاة
والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن بمحبتهم انتظم في السلك، وبعد:
[الباعث على التأليف]
فهذا تعليق سميته: ((دور الفلك في حكم الماء المستعمل في البرك)). سببه أن الملك المظفر سليم خان بن عثمان لما حكم ملك العرب، وأنشأ عمارته بصالحية دمشق بسفح قاسيون، وكان ماء بركتها ربما انقطع، وأبناء العرب حينئذ يتوضأون منه، وربما اغتسلوا، أنكر طانشمان الأروام عليهم هذا الاستعمال المشار إليه، وقالوا: إن هذا الماء الواقف باستعماله في الطهارتين صار نجسا على مذهب أبي حنيفة النعمان، تغمده الله بالرضوان.
فسألني أبناء العرب عن حكم الماء المذكور، فأجبته بأنه يجوز استعماله في الطهارتين على القول المنصور.
مخ ۱۳
ثم عن لي أن أبين مجمل هذا الجواب في هذه الأوراق، مستعينا
بالواحد الخلاق.
[متى يعتبر الماء مستعملا؟]
اعلم أن الماء المستعمل هو الذي أزيل به الحدث، أو تقرب به.
أما الأول: فظاهر.
وأما الثاني: فهو الذي نوى به المكلف الوضوء أو الغسل، ولو لم يكن محدثا.
فتارة يكون الماء مزيلا للحدث متقربا به، وتارة يكون مزيلا غير متقرب به، وتارة يكون متقربا به غير مزيل.
فالأول: كما إذا نوى المحدث الوضوء مثلا للصلاة، أو لمس المصحف، أو لدخول المسجد.
والثاني: كما إذا غسل ومسح للتبرد أو للتعليم.
والثالث: كما إذا نوى الوضوء وهو متطهر، فإنه نور على نور.
مخ ۱۴
قال شمس الأئمة السرخسي، وأبو عبد الله الجرجاني: لا خلاف بين الثلاثة: أبي حنيفة وصاحبيه، في أن الماء المستعمل هو ما أسقط فرض التطهير عن عضو، أو استعمل على وجه القربة.
والمشهور -وعليه مشى صاحب المجمع- أن سبب الاستعمال هو أحد الأمرين المذكورين عند أبي يوسف. وعن محمد: التقرب فقط.
وإنما يصير مستعملا عند الشيخ حافظ الدين النسفي إذا استقر في مكان، سواء كان أرضا، أو إناء، أو كف المتوضئ.
وقيل: يصير مستعملا بمجرد الانفصال عن العضو. قيل: هو الصحيح، وعليه مشى في ((الاختيار)).
وقال ابن فرشتة: لأن سقوط حكم الاستعمال قبل الانفصال كان للضرورة، ولا ضرورة بعده.
مخ ۱۵
ولهذا قالوا: لو بقيت لمعة على عضو المتوضئ، فبلها ببل عضو آخر: لا يجوز؛ لأنه لما زال عن ذلك العضو صار مستعملا. ولو بلها ببلل ذلك العضو جاز. وأيا بلل اللمعة في الاغتسال فجائز كيفما كان، لأن الأعضاء كلها مغسولة في الجنابة، فصارت كعضو واحد. وفي الوضوء ليس كذلك، لأن بعض أعضائه ممسوح. كذا في المحيط.
وفي النوادر: لو غسل يده للطعام، أو فمه لأجله: صار الماء مستعملا؛ لأنه أقام به قربة السنة. ولو غسل يده من الوسخ لا يصير مستعملا. انتهى.
فظهر من هذا أن الماء المستعمل هو الذي لاقى البدن أو بعضه، وانفصل عنه، ليس إلا. فلا يكون الماء الراكد الذي يكفي مائة للوضوء إذا تفرقوا -مثلا- كاستعمال إذا توضأ فيه واحد أو اثنان أو ثلاثة. هذا مما لم يقل به أحد يعتد به، ولا يعقل له وجه.
وهذه المسائل اجتهادية، معقولة المعنى، لا يعرف الحكم منها [ .. .. ] (¬1) إلا بمعرفة وجه الحكم الذي بني عليه وتفرع منه، وإلا فتشتبه المسائل على الطالب، ويحار ذهنه فيها، لعدم معرفة الوجه المبنى. ومن أجل ما ذكرناه حار في متاهات الخطأ والغلط.
مخ ۱۶
فإن قلت: قد قالوا في مسائل كثيرة إن الماء يصير كله غير طهور بمجرد استعمال بعضه، وربما صرحوا بفساده، ومن المعلوم أن الملاقي للبدن مقدار يسير بالنسبة إلى الباقي منه. ولا يخفى أن ذلك ظاهر في أن الماء يصير كله مستعملا.
فالجواب أن هذه المسائل التي يفهم منها ما ذكر مبنية على القول بنجاسة الماء المستعمل. ومن المعلوم أن ملاقاة النجس الماء القليل يقتضي نجاسته، وإطلاقات الفقهاء في الغالب مقيدة بقيود، يعرفها صاحب الفهم المستقيم الممارس للفن. وإنما يسكتون عنها اعتمادا على صحة فهم الطالب.
قال العلامة المحقق الراسخ كمال الدين بن الهمام في ((شرح الهداية)) نقلا عن الأئمة: حوضان صغيران، يخرج الماء من أحدهما ويدخل في الآخر، فتوضأ في خلال ذلك جاز، لأنه جار. وكذا إذا قطع الجاري من فوق وقد بقي جري الماء كان جائزا أن يتوضأ بما يجري في النهر.
مخ ۱۷
وذكر في ((فتاوى قاضي خان)) في المسألة الأولى: والماء الذي اجتمع في الحفيرة الثانية فاسد. وهذا مطلقا إنما هو بناء على كون المستعمل نجسا، وكذا كثير من أشباه هذا. فأما على المختار من رواية أنه طاهر غير طهور فلا، فلتحفظ ليفرع عليها. ولا يفتى بمثل هذه الفروع, انتهى.
ومن فروع القول بنجاسة المستعمل قولهم بفساد الماء في الإناء
إذا أدخل المحدث رجله فيه، بخلاف يده، لمكان الضرورة في اليد دون الرجل، وأمثال ذلك، كمسألة انغماس الجنب في البئر.
[حكم الماء المستعمل]
وقد اختلفت الرواية عن علمائنا في حكم المستعمل.
فعن أبي حنيفة أنه نجس مغلظ. وبه أخذ الحسن، لأنه مزيل للنجاسة الحكمية، فصار كالمزيل للحقيقية.
وعنه أنه مخفف، وبه أخذ أبو يوسف، لثبوت الاختلاف في طهارته.
وعنه أنه طاهر غير طهور، وبه أخذ محمد، لأنه لاقى بدنا طاهرا، ألا ترى أنه لو حمل المصلي محدثا فصلى، جازت صلاته، فلا ينجس بدون إقامة القربة، هو الصحيح، وهو المختار للرواية، ومشهور الرواية. كذا نص عليه القدوري في كتاب ((التقريب)).
مخ ۱۸
وعند زفر: إن كان مستعمله طاهرا فهو طاهر وطهور، وإن كان غير طاهر فهو طاهر غير طهور.
وعند مالك: طاهر وطهور.
وبه قال الشافعي في قول واحد في رواية. وعنه: كالصحيح.
قال القاضي أبو حازم -من أئمتنا-: أرجو أن رواية النجاسة لم تثبت، فالصحيح المفتى به أنه طاهر اعتمادا على الرواية الصحيحة.
ولهذا قال العلامة: فلتحفظ ليفرع عليها.
يعني ليفرع على القول بطهارته أنه يجوز إزالة النجاسة به، ويجوز شربه، وتجوز الصلاة معه إذا أصاب الكثير منه بدن المصلي أو ثوبه أو مكانه، وأنه إذا اختلط بالطهور وشاع فيه لا يسلبه الطهورية، إلا إذا غلب عليه كسائر المخالطات الطاهرة، وغلبة كل طاهر بحسبه على ما حققه المتأخرون، وتابعهم العلامة المشار إليه في ذلك.
مخ ۱۹
[المخالطات الطاهرة]
وقد اختلفت إطلاقات علمائنا في المخالطات الطاهرة.
فقيدها المتأخرون -كالإمام فخر الدين الزيلعي في شرح الكنز وغيره - بقيود تقتضي التوفيق بين إطلاقات المتقدمين.
قال قاضي القضاة بدر الدين العيني في مختصر الشرح المذكور: وذكر الإسبيجابي أن الغلبة تعتبر أولا من حيث اللون، ثم من حيث الطعم، ثم من حيث الأجزاء.
ويقال: الاعتبار لتغير الأوصاف الثلاثة أو أكثرها
ويقال: الاعتبار لرقة الماء وثخانته.
ويقال: الاعتبار للغلبة بالأجزاء الذاتية.
فنقول: الضابط هنا والموفق لهذه الأقوال: أن الماء إذا خالطه شيء لا يخلو: إما أن يكون جامدا، أو مائعا.
فإن كان جامدا: فما دام يجري على الأعضاء فالماء غالب.
وإن كان مائعا، فلا يخلو: إما أن يكون مخالفا للماء في الأوصاف كلها، أو في بعضها، أو لا يكون.
مخ ۲۰
فإن لم يكن، كالماء المستعمل، على القول الصحيح أنه طاهر، يعتبر بالأجزاء، حتى لو كان الماء رطلين والمستعمل رطلا فحكمه حكم المطلق. وبالعكس: كالمقيد.
وإن كان مخالفا فيها: فإن غير الثلاث أو أكثرها لا يجوز الوضوء به، وإلا كان خالفه في وصف واحد أو وصفين: تعتبر الغلبة من ذلك الوجه، كاللبن مثلا يخالفه في اللون والطعم, فإن كان لون اللبن أو طعمه هو الغالب لم يجز الوضوء به، وإلا جاز. وكماء البطيخ، يخالفه في الطعم، فتعتبر الغلبة فيه بالطعم.
فعلم من هذا أن مراد من اعتبر الرقة والثخانة ما إذا كان المخالط له جامدا. ومراد من اعتبر الغلبة بالأجزاء ما إذا كان المخالط له لا يخالفه في شيء من الأوصاف، فافهم، فإنه موضع أشكل على كثير من الناس. انتهى كلام العيني.
فقد صرح أن المخالط المائع الطاهر الموافق للطهور في أوصافه الثلاثة، ومثله بالماء المستعمل على الصحيح، إذا غلبت أجزاؤه على أجزاء الطهور تغلبه الطهورية، وإذا كانت أجزاء الطهور أغلب وأكثر فإن الكل طهور.
فالعبرة في ذلك لغلبة الأجزاء.
فرواية أن العبرة في المخالط الطاهر بغلبة الأجزاء وقعت مطلقة، فقيدها المحققون بالمائع الموافق في الأوصاف. فافهم، ولا تقف مع الإطلاقات من غير اعتبار الوجه.
مخ ۲۱
فظهر من هذا أن المعتبر في اختلاط المستعمل بالطهور غلبة
الأجزاء، بناء على الرواية المختارة.
[التوضؤ والاغتسال من البرك وأشباهها]
ومن التفرع على هذا أنه يجوز التوضؤ والاغتسال من هذه البركة المذكورة وأشباهها من برك جوامع دمشق وفساقيها مما هي دون العشر في العشر، ولو كانت مقطوعة، ما لم يغلب على الظن أن المستعمل من مائها أكثر من الماء الذي يستعمل، لما عرفت من أن المعتبر في ذلك الكثرة. فإن كان الطهور أكثر فحكمه باق، وإن كان المستعمل أكثر فقد أخذ الطهور كله، فصار الكل طاهرا غير طهور.
ولا يقال: إذا اغتسل الجنب في البركة أو الفسقية صار الكل مستعملا، لأنا نقول: قد تبين بطلان ذلك على التقرير السابق قطعا، لأنه من المحال أن يكون المستعمل قد استعمل جميع الماء، وإنما المقدار المستعمل منه هو الملاقي لبدنه، الآخذ حكم الاستعمال شرعا بالانفصال بعد الملاقاة. فلم يبق إلا أن يقال: شاع ذلك المستعمل في الجميع.
مخ ۲۲
قال العلامة شمس الدين محمد بن الغرس المتيري الحنفي: وجوابه أنه لا معنى للشيوع المذكور إلا المخالطة والمداخلة، وقد عرفت الحكم في ذلك. ولا فرق في ذلك بين أن يغتسل خارجا ويلقي الغسالة في البركة ونحوها، أو يغتسل فيها، لأن الشيوع والاختلاط في الصورتين على السواء.
بل لقائل أن يقول: إلقاء الغسالة من خارج أقوى تأثيرا من غيره، لتيقن المستعمل فيه بالمعاينة والتشخيص مع الاتصال.
وبالجملة فلا يعقل الفرق بين الصورتين من جهة الحكم. وقد مر بك أن هذه المسائل معقولة المعنى.
فالقائل بالفرق إما أن يستند إلى الوجه، وقد علمت ما في ذلك. أو إلى النقل، فعليه البيان. على أنا وجدنا النقل كما نقلناه من كلام المتأخرين، وكذا من كلام المتقدمين عليهم.
قال في البدائع: الماء القليل إنما يخرج عن كونه مطهرا باختلاط غير المطهر به، إذا كان غير المطهر غالبا، وأما إذا كان مغلوبا فلا. وها هنا الماء المستعمل ما يلاقي البدن. ولا شك أن ذلك أقل من غير المستعمل، فكيف يخرج به من أن يكون مطهرا؟ انتهى.
مخ ۲۳
وقال في موضع آخر: من وقع في البئر، فإن كان على بدنه نجاسة حكمية ، بأن كان محدثا، أو جنبا، أو حائضا، أو نفساء، فعلى قول من لا يجعل هذا الماء مستعملا: لا ينزح شيء، لأنه طهور. وكذا على قول من جعله مستعملا، وجعل المستعمل طاهرا، لأن غير المستعمل أكثر، فلا يخرج عن كونه طهورا ما لم يكن المستعمل غالبا عليه، كما لو صب اللبن في البئر بالإجماع، أو بالت شاة فيها عند محمد. انتهى.
وقال في موضع آخر: ولو اختلط الماء المستعمل بالماء القليل، قال بعضهم: لا يجوز التوضؤ به وإن قل، وهذا فاسد.
أما عند محمد فلأنه طاهر لم يغلب على الماء المطلق، فلا يغيره عن صفة الطهورية، كاللبن. وأما عندهما فلأن القليل مما لا يمكن التحرز عنه عفو. ثم الكثير عند محمد ما يغلب على الماء المطلق، وعندهما أن يستبين مواضع القطرة في الإناء. انتهى.
وما أظن الفهم يبقى في ريب من المسألة بعد ذلك.
ويؤخذ من كلام صاحب ((البدائع)) أن الماء المستعمل الذي يصيب منديل المتوضئ أو ثيابه عفو في الأقوال كلها.
أما على ما هو المختار من طهارته فظاهر.
وأما على القول الآخر: فللحرج. وبه صرح العيني.
واعلم إذا حكمنا بطهورية الماء كان طهورا بالنسبة إلى الوضوء وإلى الغسل. وإذا قلنا باستعماله كان مستعملا بالنسبة إليهما. وهذا ضروري بالنسبة إلى المحصل، فالاشتغال بالاستدلال عليه لا يليق بالفقيه.
مخ ۲۴
قال الشيخ زين الدين قاسم بن قطلوبغا الجمالي الحنفي في رسالة: ((رفع الاشتباه عن مسألة المياه)).
فإن قلت: إذا تكرر الاستعمال هل يجمع ويمنع؟
قلت: الظاهر عدم اعتبار هذا المعنى في النجس، فكيف بالطاهر؟ قال
في المبتغى: قوم يتوضأون صفا على شط نهر جار، فكذا في الحوض، لأن ماء الحوض في حكم ماء جار. انتهى.
[آثار في استعمال الجنب الماء]
وقد روى ابن أبي شيبة عن الحسن في الجنب: يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها؟ قال: يتوضأ به إن شاء.
وعن سعيد بن المسيب: لا بأس أن يغمس الجنب يده في الإناء قبل أن يغسلها.
مخ ۲۵
وعن عائشة بنت سعد قالت: كان سعد يأمر الجارية فتناوله الطهر زمن الحيض، فتغمس يدها فيه، فيقال: إنها حائض، فيقول: إن حيضتها ليست في يدها.
وعن عامر قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلون أيديهم في الإناء وهم جنب، والنساء وهن حيض، لا يرون بذلك بأسا. يعني قبل أن يغسلوها.
وعن ابن عباس في الرجل يغتسل من الجنابة، فينتضح في إنائه من غسله، فقال: لا بأس به.
وعن أبي هريرة: قال له رجل: أغتسل فيرجع من جسمي في إنائي؟ قال: لا بأس به.
وعن إبراهيم، والزهري، وأبي جعفر، وابن سيرين نحوه.
مخ ۲۶
فإن قلت: فما حكم حديث: ((لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة))؟
قلت: استدل به الكرخي على عدم جواز التطهير بالمستعمل. ولا يطابق عمومه فروعهم المذكورة في الماء الكثير، فيحمل على الكراهة. وبذلك أخبر راوي الخبر.
فأخرج ابن أبي شيبة عن جابر بن عبد الله قال: كنا نستحب أن نأخذ
من الغدير ونغتسل به ناحية. انتهى.
[حد قلة الماء وكثرته ومتى ينجس]
وأما تقدير الكثير بالعشر في العشر في الماء المربع، وثمانية وأربعين في المدور، فإنما هو بالنسبة إلى وقوع النجاسة فيه من غير أن يتغير بها فقط، كما هو ظاهر غني عن البيان، يشهد بذلك المطولات والمختصرات، لما عرفت من أن وقوع الطاهر في الطهور القليل واختلاطه به، المعتبر فيه الغلبة بحسبه.
أما الكثير فلا تؤثر فيه النجاسة من غير تغيير، فكيف يؤثر فيه اختلاط الطاهر به؟
مخ ۲۷
وتقدير الكثير مما ذكرناه هو المشهور في عامة المختصرات. ولكن قال المحقق في ((شرح الهداية)): والتقدير بعشر في عشر غير منقول عن الأئمة الثلاثة.
قال شمس الأئمة: المذهب الظاهر التحري والتفويض إلى رأي المبتلي من غير حكم بالتقدير. فإن غلب على الظن وصولها -يعني إلى الجانب الآخر- نجس. وإن غلب عدم وصولها لم ينجس، وهذا هو الأصح. انتهى.
قال المحقق: وما نقل عن محمد حين سئل عنه: إن كان مثل مسجدي هذا فكثير. فقيس حين قام، فكان اثني عشر في مثلها في رواية، وثانيا: في ثمان، في أخرى: لا يستلزم تقديره به إلا في نظره، وهو لا يلزم غيره. وهذا لأنه لما وجب كونه ماء استكثره المبتلي. واستكثار واحد لا يلزم غيره، بل يختلف باختلاف ما يقع في قلب كل. وليس هذا من قبيل الأمور التي يجب فيها على العامي تقليد المجتهد.
ثم رأيت التصريح بأن محمدا رجع عن هذا:
قال الحاكم: قال أبو عصمة: كان محمد بن الحسن يؤقت في ذلك
مخ ۲۸
عشرة في عشرة، ثم رجع إلى قول أبي حنيفة وقال: لا أؤقت شيئا. انتهى.
[تفصيل صاحب البدائع لهذه المسائل]
وقال الإمام أبو بكر الكاساني في البدائع: وإن كان الماء راكدا فقد اختلف فيه، قال أصحاب الظواهر: إن الماء لا ينجس بوقوع النجاسة فيه أصلا، سواء كان جاريا أو راكدا، وسواء كان قليلا أو كثيرا، تغير لونه أو طعمه أو ريحه أو لم يتغير.
وقال عامة العلماء: إن كان قليلا ينجس، وإن كان كثيرا لا ينجس.
لكنهم اختلفوا في الحد الفاصل بين القليل والكثير.
قال مالك: إن تغير لونه أو طعمه أو ريحه فهو قليل، وإن لم يتغير فهو كثير.
وقال الشافعي: إذا بلغ الماء قلتين فهو كثير. والقلتان عنده خمس قرب، كل قربة خمسون منا. فتكون جملته مائتين وخمسين منا.
وقال أصحابنا: إن كان يخلص بعضه إلى بعض فهو قليل، وإن كان لا يخلص فهو كثير.
مخ ۲۹
فأما أصحاب الظواهر فاحتجوا بظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم .
((الماء طهور لا ينجسه شيء)).
واحتج مالك بقوله صلى الله عليه وسلم :
((خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء، إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه)).
وهو تمام الحديث. أو بنى العام على الخاص عملا بالدليلين.
واحتج الشافعي بقول النبي صلى الله عليه وسلم :
((إذا بلغ الماء قلتين لا يحمل خبثا)).
أي: يدع الخبث عن نفسه.
مخ ۳۰
قال الشافعي: قال ابن جريج: أراد بالقلتين قلال هجر، كل قلة تسع قربتين وشيئا. قال الشافعي: و((شيء)) مجهول، فقدرته بالنصف احتياطا.
ولنا: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يده)).
ولو كان الماء لا ينجس بالغمس لم يكن للنهي والاحتياط لوهم النجاسة معنى.
وكذا الأخبار مستفيضة في الأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب، مع أنه لا يتغير طعمه، ولا لونه، ولا ريحه.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسلن فيه من جنابة)).
مخ ۳۱
من غير فصل بين دائم ودائم. وهذا نهي عن تنجيس الماء، لأن البول والاغتسال فيما لا يتنجس لكثرته ليس بمنهي. فدل على كون الماء الدائم مطلقا محتملا للنجاسة، إذ النهي عن تنجيس ما لا يحتمل النجاسة ضرب من السفه. وكذا الماء الذي يمكن الاغتسال فيه يكون أكثر من قلتين، والاغتسال فيه لا يغير لونه ولا طعمه ولا ريحه.
وعن ابن عباس وابن الزبير أنهما أمرا في زنجي وقع في بئر زمزم بنزع ماء البئر كله، ولم يظهر أثره في الماء. وكان الماء أكثر من قلتين، وذلك بمحضر من الصحابة، ولم ينكر عليهما أحد. فانعقد الإجماع من الصحابة على ما قلنا.
وعرف بهذا الإجماع أن المراد بما رواه مالك هو الماء الكثير والجاري، وبه تبين أن ما رواه الشافعي غير ثابت، لكونه مخالفا لإجماع الصحابة، وخبر الواحد إذا ورد مخالفا للإجماع يرد، يدل عليه أن علي بن المديني قال: لا يثبت هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال أبو داود:
مخ ۳۲