ولقد بسط «هيوم» آراءه السياسية في مقالات عدة، لعل أهمها هي مقالته التي عنوانها «في العقد الابتدائي»؛
117
أي العقد الذي يقال إنه تم بين أفراد الجماعة عند بداية تأليف المجتمع، وفيما يلي خلاصة لرأيه كما ورد في هذا المقال.
كان في إنجلترا على عهد هيوم - كما لا يزال بها حتى اليوم - حزبان سياسيان رئيسيان، هما حزب المحافظين من جهة وحزب الأحرار من جهة أخرى، ويلاحظ هيوم في فاتحة مقاله أن كلا من الحزبين يبحث لنفسه عن مبدأ فلسفي نظري يستند إليه في مذهبه السياسي؛ أما حزب المحافظين فيلتمس أصل الحكومة الأول عند الله، وذلك بأن يجعل الحكم حقا إلهيا يتمتع به الحاكم، فالله هو الذي أراد للحاكم أن يحكم، وإذن فمن الخروج على مشيئة الله وإرادته أن يتوجه ناقد بالنقد إلى الحكومة، مهما بلغت من الطغيان في حكمها، وبالتالي لا يكون عزل الحكومة من حق الشعب، لأن الشعب لم يكن هو الذي أقامها في مناصبها؛ إنه الله هو الذي شاء لها أن تتولى مقاليد الأمر، وهو الله الذي يشاء لها أن تزول؛ وأما حزب الأحرار فيرد الأمر إلى تعاقد أولي بين الأفراد، فأعضاء الجماعة عند أول تكوينها هم الذين أرادوا لأنفسهم وتعاقدوا معا على أن يولوا حاكما معينا على أمورهم، وبالتالي يكون لهم حق مقاومة هذا الحاكم وعزله إذا ما اقتضت مصالحهم هذا العزل أو تلك المقاومة.
ويستطرد هيوم فيقول إن كلا هذين المبدأين صواب ولكن بمعنى غير المعنى الذي قصد إليه الحزبان المتعارضان؛ وكلا المبدأين تقتضيه الحكمة على شرط ألا يبالغ في تأويلهما كما بالغ أنصار الحزبين المتعارضين.
أما أن الله هو صاحب الإرادة الأولى في تأليف الحكومة وتكوينها فيستحيل أن يشك في ذلك أحد ممن يسلمون بأن حكمة الله شاملة للكون بكل ما فيه ومن فيه، بحيث تجيء حوادث العالم بأسره، صغيرها وكبيرها على السواء، وفق خطة مدبرة ومستهدفة لغاية مقصودة منشودة؛ فلما كان محالا على الجنس البشري أن تقوم له قائمة في حياة آمنة وادعة إلا في ظل حكومة تشرف على أموره وتتولى حمايته ورعايته، كان من الحتم أن تكون الحكومة نتيجة تدبير إلهي حكيم؛ وإنه ليكفينا أن نعلم أن كل مجتمع - مهما يكن زمانه أو مكانه - قد قامت عليه حكومة ما، لنعلم في يقين أن الأمر لم يكن متروكا للصدفة العابرة ، بل هو تدبير من عليم حكيم يريد الخير بعباده أجمعين؛ لكن الله إذ أراد للناس نظاما معينا في الحكم، إنما أراد ذلك من حيث المبدأ العام، ولا يجوز أن نستدل من ذلك أن الحاكم يمثل إرادة الله في كل عمل صغير يقوم به أثناء قيامه بالحكم؛ فشأن الحاكم في ذلك شأن قوى الطبيعة كلها، أرادها الله من حيث المبدأ العام، لكنا نسرف إذا قلنا إن كل فعل من أفعال تلك القوى قد استند في وقوعه إلى إرادة إلهية قائمة بذاتها؛ ولو جعلنا أفعال الحاكم الجزئية يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة معبرة عن مشيئة الله الخاصة، لتحتم أن نقول هذا القول نفسه في أفعال الناس جميعا، فلا يقضي قاض بحكم، بل لا يقترف لص جريمة السرقة ولا يعتدي معتد باعتداء إلا ومشيئة الله من ورائه.
وأما عن المبدأ القائل بأن الحكومة بادئ ذي بدء قد نشأت نتيجة لتعاقد تم بين الناس، فهو كذلك مبدأ مقبول على شرط ألا نبالغ في تفسيره؛ ذلك أننا إذ نلاحظ أن الناس متقاربون جدا في قواهم الجسدية بل وفي قواهم العقلية؛ لا يسعنا إلا أن نقرر بأنهم حينما أرادوا الاجتماع بعضهم ببعض أول الأمر، كان يستحيل على سلطة أن تفرض عليهم سلطانها بغير موافقتهم ورضاهم؛ إذ ما كان ليتاح لأحد منهم أن يفرض سلطانه بالقوة على بقيتهم، مع أنه على وجه التقريب مساو لأي واحد من هؤلاء في قدراته البدنية والعقلية معا؛ إننا لو تعقبنا أصول الحكومات إلى جذورها الأولى في الغابات وفي بيداء الصحراء، وجدناها قد قامت بإرادة الناس؛ أقاموها برغبة منهم ورضى لتنشر فيهم الطمأنينة والنظام؛ وهم الذين تنازلوا طواعية عن حرياتهم الفردية لواحد منهم، هو في الأصل مساو لكل منهم، وذلك بغية أن يقضي فيهم بما يحقق لهم سلاما وأمنا؛ فلو كان شيء كهذا هو ما يراد عند التحدث عن «عقد ابتدائي» تم بين أعضاء المجتمع عند أول تكوينه، لم يكن لنا بد من التسليم بصوابه؛ فليس هو بالتعاقد الذي نراه مرقوما في وثيقة مخطوطة، لأنه حدث قبل الكتابة، بل قبل أن تبدأ الحياة المتحضرة بشتى ألوان فنونها؛ بل هو تعاقد نستدله استدلالا من طبيعة الإنسان، ومن تساوي الأفراد في قدراتهم الفطرية أو ما يشبه التساوي؛ وما تلك القدرات الفطرية إلا قوة الأبدان وقوة البأس، فما نحسب فردا واحدا قادرا بقوته الفطرية وحدها أن يغلب جماعة على أمرها، ولا يمكن لهذه الجماعة أن تخضع لواحد من أفرادها إلا بإرادتها ورضاها.
وبالطبع لم يجتمع أفراد الجماعة ذات يوم ليقولوا: هذا هو منذ اليوم صاحب السلطان فينا، بل لا بد أن يكون الأمر قد تم تدريجا وفي ظروف طبيعية كأن تضطر جماعة من الناس - مثلا - أن ترد عنها عدوا مهاجما، فيقتضي هذا أن تكون القيادة لواحد من أفرادها، وتنتهي المقاتلة فتزول عن القائد صفته المميزة، ولكن سرعان ما ينشأ طارئ آخر، فيسهل على أفراد الجماعة أن يلقوا بزمام أمرهم إلى الرجل نفسه؛ وهكذا تظل الطوارئ تتوالى، فتتوالى معها رئاسة هذا الرئيس، حتى تصبح رئاسته عادة مألوفة، ويصبح خضوع الأفراد لأحكامه أمرا صادرا عن مشيئتهم.
فإذا ما طال العهد بالحاكم وسلالته من بعده، كان حق الحكم قائما على الإلف والعادة، لا على موافقة الناس واختيارهم، لقد كان اختيارا وموافقة في أول الأمر، ثم انتهى إلى عادة مقررة آخر الأمر، ويخطئ الفلاسفة السياسيون إذا ظنوا أنه ما دام الحاكم قد استند في أول نشأة المجتمع إلى موافقة الأفراد، فلا بد أن يكون الآن كذلك مستندا إلى مثل هذه الموافقة؛ يخطئون لو ظنوا أن الناس اليوم لا يزالون - كما كانوا أول نشأة المجتمع والحكومة - يولدون سواسية، لا فرق فيهم بين فرد وفرد، وأنهم يولدون أحرارا من كل فرض يوجب عليهم الولاء لحاكم أو حكومة، اللهم إلا إذا تعهدوا طواعية بمثل هذا الولاء؛ ولما كان الإنسان لا يتعهد لغيره بولاء إلا إذا كان له من وراء ذلك كسب مساو لما تنازل عنه من حقوقه الفطرية، كان ولاء الفرد لحاكمه أو حكومته متضمنا ضرورة أن تقوم تلك الحكومة أو الحاكم بحماية مصالحه، وإلا كان له الحق في نقض ولائه الذي تعهد به.
إن الذين يزعمون أنه ما دامت مشروعية الحكومة قد قامت في أول أمرها على رضى الأفراد، فلا بد أن تظل قائمة على رضى الأفراد الآن وفي كل حين، أقول إن الذين يزعمون هذا الزعم ما عليهم إلا أن يرسلوا أبصارهم إلى دنيا الواقع، ليروا أن ما هو واقع فعلا لا يطابق هذه الآراء النظرية التي يأخذون بها؛ فأينما يوجهون أبصارهم يرون حكاما يملكون رعاياهم كأنما هؤلاء الرعايا ملك أيديهم، ويؤسسون ملكهم هذا - لا على أساس موافقة هؤلاء الرعايا ورضاهم - بل على أساس الفتح الحربي أو الحق الشرعي الموروث للولد عن أبيه وجده؛ وسيجدون الرعايا أنفسهم يقرون لحكامهم بهذا الحق؛ إذ يقررون أنهم - أي الرعايا - إنما ولدوا وعليهم واجب الولاء والطاعة لولي الأمر منهم، كما يولد الولد وعليه واجب فطري بالولاء نحو والديه اللذين أنسلاه؛ وليس الأمر في هذا كله مقصورا على بلد دون بلد، أو عصر دون عصر، بل هو شامل للعالم كله في كل زمان أو مكان؛ تراه في فارس والصين، كما تراه في فرنسا وإسبانيا وفي هولندا وإنجلترا؛ إن طاعة الرعية لراعيها وحاكمها أمر قد بلغ من رسوخه في النفوس حدا لم يعد مقبولا معه أن يفكر أحد حتى في مجرد البحث عن أصوله ونشأته، وعن سببه وعلته، فكأنه قانون طبيعي كالجاذبية مثلا، نقبلها أمرا واقعا رضينا أو كرهنا، ولو قمت في الناس هاديا يهديهم إلى أن الروابط السياسية بين الحاكم والمحكوم إنما تقوم على رضى المحكوم وموافقته، لقضي عليك بالسجن، لأنك ستكون عندئذ في رأي القضاة - في كل بلاد العالم - مضللا يعمل على فصم عرى الولاء والطاعة التي لا مندوحة عنها بين المحكوم وحاكمه؛ لا بل إن أصدقاءك أنفسهم لن ينتظروا القضاة حتى يزجوا بك في السجن، لأنهم سيحكمون عليك قبل ذاك بالتخليط والجنون؛ أمن المعقول أن يكون أفراد الناس هم الذين تعاقدوا وتعاهدوا على أن تقوم فيهم حكومة بعينها، ثم لا نجد منهم فردا واحدا يتذكر ما قد تعاقد عليه وتعهد به؟ أيكون أفراد البشر جميعا في أنحاء الأرض كلها قد أصابهم النسيان فلم يعد أحد منهم ذاكرا لفعل يقال لنا إن جميع الأفراد قد تعهدوا به وتعاقدوا عليه؟!
ناپیژندل شوی مخ