41
وإذا كانت أحكامنا على وقائع العالم الطبيعي - على نحو ما أسلفنا - مما يمكن للعقل أن يتصور نقيضه، وأن التجربة وحدها هي التي تنبئنا بما يحدث، وأن ما قد يحدث غدا ربما جاء مخالفا لما حدث اليوم أو أمس، فلا استحالة - مثلا - عند العقل ألا تشرق الشمس غدا ... أقول إنه إذا كان الأمر كذلك، فما الذي يميل بنا كل هذا الميل نحو قبول أحكامنا على وقائع العالم الطبيعي كما لو كانت يقينا ثابتا؟ أيكون في الأمر شيء يجاوز حدود شهادة الحواس في اللحظة الراهنة، وشهادة الذاكرة بما كانت قد انطبعت به الحواس فيما مضى من خبرات؟
يذهب هيوم إلى أن كل تدليلاتنا الخاصة بأمور الواقع إنما تقوم على أساس العلاقة السببية، أي علاقة السبب بالمسبب؛ فعن طريق هذه العلاقة يجاوز الإنسان حدود شهادة الحس وشهادة الذاكرة في حكمه على وقائع العالم الطبيعي؛ فسل من شئت عن علة اعتقاده في أمر معين من أمور الواقع مما لا يكون قائما حاضرا في مجال الحس، ولا مما تشهد الذاكرة بأنه كان ذات يوم قائما حاضرا في مجال الحس، سله - مثلا - ما الذي يدعوه إلى الاعتقاد بأن صديقه فلانا هو الآن مقيم في الريف، أو هو الآن مقيم في فرنسا؛ مع أن حواسه لا تشهد في اللحظة الراهنة شيئا عن إقامة صديقه ذاك، كلا ولا ذاكرته تعي شيئا عن ذلك؛ يجبك بأنه أقام اعتقاده ذاك على أساس واقعة أخرى من وقائع العالم الطبيعي، كأن يقيمه - مثلا - على أساس خطاب ورد إليه من صديقه، أو على ما كان قد سمعه من صديقه ذات يوم أنه معتزم أن يرتحل إلى الريف أو إلى فرنسا؛ لكن «الخطاب» الذي ورد إليه من صديقه أو «العبارات» التي كان سمعها منه، ليست هي نفسها «الإقامة» في الريف أو فرنسا؛ إنه - إذن - يستدل حقيقة من حقيقة أخرى، ويبني اعتقاده بشيء على إدراكه الحسي لشيء آخر؛ وسؤالنا الآن هو: ما الذي يبرر له ذلك؟ وجواب السؤال هو - كما أسلفنا - أن المبرر هو علاقة السبب بالمسبب، فهذه العلاقة هي التي نستعين بها على مجاوزة حدود الإدراكات الحسية سواء كانت قائمة الآن أو مستعادة بالذاكرة من خبرات ماضية؛ إن من يجد أثناء سيره في جزيرة مهجورة ساعة أو أية آلة أخرى، يحكم من فوره بأن قد كان على هذه الجزيرة المهجورة إنسان، وهكذا يقيم اعتقادا ما على أساس إدراكه الحسي لشيء ليس هو نفسه موضوع ذلك الاعتقاد ... وهكذا قل في سائر أحكامنا على أمور الواقع؛ وبالطبع إذا لم تكن هناك رابطة بين الواقعة التي تقع على حواسنا والواقعة الأخرى التي نستدلها منها، كانت أحكامنا قائمة على أساس متداع؛ إنك إذا سمعت في الظلام صوتا بشريا يتحدث حديثا معقولا، حكمت مصيبا بأن هنالك إنسانا حتى وإن لم يكن في مستطاع عينك رؤيته، ذلك لأنك تربط رباطا سببيا بين الحديث الذي سمعته وبين الجهاز الآدمي؛ وهكذا حلل شتى أحكامك عن أمور الواقع تجدها جميعا قائمة على أساس الرابطة السببية، على أن هذه الرابطة التي تربط السبب بمسببه ربطا يدعو الإنسان إلى استدلال أحدهما من الآخر، قد تكون بادية ظاهرة حينا، وخافية بعيدة تحتاج إلى شيء من التحليل لإظهارها حينا آخر، كما أنها قد تكون على صورة التتابع بين الحادثتين اللتين نسميهما سببا ومسببا، أو قد تكون على صورة المعية في الوقوع، أي إنهما يحدثان معا في لحظة واحدة دائما، كما ترتبط الحرارة والضوء في صدورهما معا في النار، بحيث يجوز لنا أن نستدل إحدى الظاهرتين من وجود أخرى.
42
وما دامت الرابطة السببية هي حيث هي من الأهمية في أحكامنا على أمور الواقع، فلا مندوحة لنا عن البحث في طريقة وصولنا إلى العلم بها؛ وأول ما أقرره في هذا الصدد، مبدأ أطلقه على سبيل التعميم الذي لا يعرف الشذوذ، وهو أن علمنا بالرابطة السببية في جميع حالاتها لا ينشأ عن التفكير العقلي الخالص، الذي يستغني عن الخبرة الحسية في تقريره لما يقرره؛ أو بعبارة أخرى، ليس علمنا بالرابطة السببية في أية حالة من حالاتها علما «قبليا» مستقلا عن مصادر الخبرة الحسية في إثبات صدقه؛ بل هو علم مستمد دائما وفي جميع الحالات من الخبرة الحسية التي تقدم لنا الشيئين اللذين نحكم بأن بينهما رابطة السبب بالمسبب، تقدمهما لنا متصلا أحدهما بالآخر في كل حالة يقعان فيها لنا في خبراتنا؛ وإذا لم يحدث لشيء معين أن يقع لنا في خبراتنا الحسية أبدا، بحيث لا ندري شيئا عن سوابقه أو لواحقه أو مصاحباته، ثم سئلنا: ماذا يكون سببه أو ماذا يكون مسببه، لاستحال علينا استحالة قاطعة أن نجيب عن ذلك بشيء، مهما تكن لدينا القدرات العقلية على أتم ما تكون كمالا وقوة، فآدم - على افتراض كمال قدراته العقلية - ما كان ليستدل من سيولة الماء وشفافيته أنه يختنق به لو غرق فيه أو يستدل من الضوء والدفء اللذين ينبعثان من النار، أنه يحترق لو وثب فيها؛ ذلك أنه محال على الإنسان أن يستدل من بعض الخصائص الحسية لشيء ما بعضها الآخر، دون أن تكون هذه وتلك قد اقترنتا في خبراته الماضية اقترانا يبرر له استدلال بعضها هذا من بعضها ذاك؛ وبعبارة أخرى نقول إن التفكير العقلي وحده، أعني التفكير العقلي الخالص الذي لا يستند إلى خبرة حسية، محال عليه أن يستدل شيئا قط عن طبيعة العالم الطبيعي الواقع.
43
الخبرة الحسية وحدها - إذن - لا التفكير العقلي الخالص، هو المصدر الذي نستقي منه علمنا بعالم الواقع، ويستحيل علينا بغير تلك الخبرة أن نتوقع ما عساه أن يحدث من حوادث ذلك العالم؛ وإلا فكيف يمكن لإنسان بعقله البحث أن يحكم على قطعتين ملساوين من الرخام التصقت إحداهما بالأخرى أنهما لو جذبتا في اتجاه عمودي لتنفصل إحداهما عن الأخرى فلا بد لهما من قوة عظيمة، على حين تكفي قوة يسيرة لانفصالهما إذا ما دفعت الواحدة منهما دفعا أفقيا لتنزلق على الأخرى؟ كيف يمكن للإنسان بغير خبرة حواسه أن يعلم شيئا عن دوي البارود إذا ما تفجر، أو جذب المادة الممغطسة للمعادن. كيف يمكن بغير هذه الخبرة أن نعلم أن اللبن والخبز غذاء صالح للإنسان، وغير صالح للأسد أو النمر؟
ومع ذلك فهنالك من خصائص الوقائع الطبيعية ما يخيل إلينا أننا مدركوه بغير خبرة حسية، وأن العقل الصرف قادر وحده أن يدرك بعض العلاقات السببية بين الأشياء حتى ولو لم تقع لنا حالة واحدة من حالاتها في ماضي خبراتنا؛ مثال ذلك ما نتوهمه إزاء كرة البلياردو حين تتحرك حتى تصدم كرة أخرى فتحركها؛ فها هنا ترانا نظن أن تحريك الكرة الأولى للكرة الثانية أمر كان يمكن الحكم بوقوعه بمجرد التفكير العقلي، وأن الضرورة لا تقتضي أن ننتظر حتى يحدث ذلك في خبراتنا لنحكم بعد ذلك بإمكان وقوعه؛ لكنها العادة هي التي تخدعنا عن حقيقة الموقف، بأن تجعل لنا الأمر على درجة من الإلف بحيث نتوهم أنه أمر ظاهر اليقين، وأن الإدراك الفطري وحده كاف للكشف عنه.
لكن العقل المحض يستحيل عليه أن يجاوز حدود الأمر الواقع بحيث يقول إنه سبب لكذا أو مسبب لكذا؛ فمهما حللت بعقلك البحت واقعة ما، فلن تجد فيها ما يدل على أنها كانت مسبوقة بكذا، أو أن كذا سيصاحبها أو سيلحق بها؛ السبب شيء والمسبب شيء آخر؛ السبب والمسبب حادثان مختلفان وتحليل أحدهما تحليلا عقليا لا يدل وحده على الآخر؛ فحركة الكرة الثانية من كرتي البلياردو حادث قائم وحده بالنسبة إلى حركة الكرة الأولى، وليس في أي من الحركتين أقل علامة تشير إلى ضرورة وجود الأخرى ... اقذف بحجر في الهواء، واتركه غير مستند إلى شيء، يسقط على الأرض من فوره؛ لكن لا بد من الخبرة الحسية السابقة لأعلم منها هذا التلاحق بين الحادثتين، وإلا فالعقل البحت وحده، مهما أمعن في تحليل الموقف، فلن يجد أن السقوط إلى الأرض متضمن بالضرورة في وجود الحجر في الهواء؛ إذ ليس عند العقل الصرف ما ينفي أن يستمر الحجر في صعوده إلى أعلى بدل سقوطه إلى أسفل، أو ما ينفي أن يتحرك الحجر إثر رميه في الهواء نحو اليمين أو نحو اليسار؛
44
ناپیژندل شوی مخ