ضرب اسکنداریه
ضرب الإسكندرية في ١١ يوليو
ژانرونه
وأخذوا من ثمة يتقسمون تركتها بينهم في حياتها، وليس في هذه التركة ما هو أغلى وأنفس وأولى بالطمع فيه من الديار المصرية.
وكانت هذه الديار قد خرجت فعلا من سلطان الدولة العثمانية في أيام «علي بك الكبير» أحد أمراء المماليك، فأعلن استقلالها وسك النقود باسمه وأوشك أن يستولي بجيشه القوي على بلاد السلطنة متفقا مع ولاتها في الشام وما جاورها. ولعل المبارزة الدولية حول مصر - في العصر الحديث - قد ظهرت للمرة الأولى بين روسيا وإنجلترا لإحباط هذا الاستقلال، فقد استعان «علي بك الكبير» بالأسطول الروسي واستعان خصمه «محمد أبو الذهب» بالأموال الإنجليزية، وكان حليفا لإنجلترا وتعاقد معها على تبادل التجارة وتيسير وصول سفنها إلى السويس، واتفق هذا مع ثورة الخواطر في العالم الإسلامي على روسيا في تلك الفترة، فانفض أنصار «علي بك الكبير» من حوله وفت في عضده مناداة دار الخلافة بعصيانه، فتضاءل شأنه ومات سنة (1773) مغلوبا على أمره، وعادت مصر بعده إلى ما كانت عليه في عهد المماليك الأخير، ميدانا للمنافسة والشقاق بين الأقوياء من أمرائهم، وفريسة للنهب والسلب بين الأتباع والجند الذين يخدمون أولئك الأمراء.
ولم ينقطع نظر الدولتين - إنجلترا وفرنسا - إلى الديار المصرية في تلك الفترة، وكل منهما تقدر أن هذه المنازعات ستئول عاجلا أو آجلا إلى ظهور أحد الأمراء الأقوياء على خصومه ومنافسيه كما حدث في أيام «علي بك الكبير»، فحسبت حسابها لذلك اليوم وجعلت تترقب الأحوال وتمتحن النظراء والمتنافسين على الرئاسة، وترشح للإمارة على القطر أقواهم بأسا وأكبرهم أملا في النجاح، فتبذل له المعونة وتوقع في نفسه أن يعتمد عليها وينتظر المساعدة السياسية والعسكرية منها، وترجو أن يذكرها عند نجاحه فتبلغ على يديه ما كانت تطمع في بلوغه بالفتح والغلبة على الدول الأخرى.
ولم يكن من اليسير في ذلك العصر أن تطمع دولة كبيرة في ضم بلاد كمصر إلى حوزتها دون أن تثير عليها حربا ضروسا تشترك فيها الدول الكبرى بأجمعها وتنتهي بهزيمتها وضياع غنيمتها بل ضياع ما ملكته قبل اغتنامها؛ لأن القرن التاسع عشر قد طلع على القارة الأوروبية، وهي تضطرب بالدول الجديدة والأمم المتطلعة إلى الاستقلال والسيادة، فانفتح أمامها مجال السباق وأخذت على الرغم منها بسياسة التوازن والتألب على كل دولة تحاول الاستئثار بالأمر والانفراد بالسيطرة على السياسة العالمية، لهذا فضلت الدولتان - إنجلترا وفرنسا - أن تبسط كل منهما نفوذها من طريق «التدخل السلمي» في البلاد الشرقية. وأوله في تقديرها أن يشعر الولاة بفضلها عليهم، وأنهم مدينون لها بالتشجيع والمساعدة، ويتلو ذلك ما يتلوه عادة من ترويج المصالح ونشر الثقافة وادعاء «الحماية» فعلا إن لم تكن حماية صريحة باعتراف الدول وإقرار الشعوب المحمية.
فأما إنجلترا فقد هداها تقديرها إلى ترجيح كفة «الألفي بك» أحد الأمراء الأقوياء، بل لعله أقوى الأمراء المماليك في تلك الفترة، فاستمالته إليها ودعته إلى بلادها وأعادته إلى مصر محملا بالهدايا النفيسة والأموال الوافرة، لينفقها في جمع الأنصار وشراء الأعوان والمؤازرين، ويتوسل بالنفوذ الداخلي والنفوذ الخارجي إلى الاستقلال بولاية الديار المصرية.
ويظهر أن فرنسا كانت أعلم بحقائق الأحوال في مصر من منافستها في هذه المرة؛ لأن الحملة الفرنسية قد سبرت أغوار المماليك وترجح لديها أن دولتهم زائلة وأيامهم معدودة، فمال تقديرها إلى رجل من غير المماليك وعلى خلاف هذا الطراز في علاج الأمور وجمع الأنصار والأعوان، وهو «محمد علي الكبير».
ولبثت الدولتان تترقبان، ولم يطل الترقب في أوائل القرن التاسع عشر، فلما اتفقت كلمة العلماء والأعيان وقادة الرأي العام في مصر على ترشيح «محمد علي» للولاية بادرت فرنسا بوساطة الجنرال «سبستيان» سفيرها في الآستانة إلى تأييد هذا الترشيح. وبذل «ماثيو دلسبس» صديق «محمد علي» ووالد فرديناند صاحب مشروع القناة غاية مسعاه لإقناع السفير الفرنسي بموالاة العمل في هذا السبيل، فلم يقصر السفير في مسعاه جهد ما استطاع. وساعده في هذا المسعى أن بعض المماليك كانوا من أصل فرنسي تخلفوا في مصر ولم يستطيعوا السفر مع حملة نابليون عند عودتها إلى بلادها، فدانوا بالإسلام وعاشوا عيشة المماليك وانضموا إلى حزب «محمد علي»؛ فرجحت كفته بتأييد الشعب ومؤازرة حزبه من المماليك الأصلاء وهؤلاء المماليك المستشرقين.
وساعد الحظ «محمد علي» فمات منافسه «محمد الألفي» وخلفه على رئاسة المماليك رجل لا يضارعه في العزم والهمة، وإن كان معمولا مثله على القوة الإنجليزية. فلما صدر الفرمان العثماني بتولية «محمد علي» ثارت عليه ثائرة الإنجليز وأنفذوا إلى مصر حملة بحرية (1807) عسى أن تفلح في جمع شتات المماليك وتأليبهم حول «شاهين بك» أميرهم الجديد، ولكنها انهزمت في رشيد وأخفقت الحملة في أغراضها كما أخفقت مساعي إنجلترا السياسية في الآستانة؛ لأن علماء مصر وأعيانها عادوا إلى تأييد «محمد علي» ورفض الوالي الذي أرسلته الدولة ليعزله ويتولى أمر مصر في مكانه.
ولبثت إنجلترا تتحين الفرصة لضرب النفوذ الفرنسي في الديار المصرية وإخلاء الجو لمطامعها في هذه الديار، فلما جرد «محمد علي» حملة على بلاد الدولة العثمانية وطرقت جيوشه أبواب القسطنطينية، سنحت لها فرصتها المرتقبة واستفادت من شواغل فرنسا الداخلية، فأثارت الدول على «محمد علي» ونفخت في نفير الخطر من اشتعال الحرب العالمية إذا انهارت دولة بني عثمان وتجددت بانهيارها الفجائي منازعات الدول على تركة «الرجل المريض». وحاولت أن تكسب بذلك عطف المسلمين في الهند بدعوى الغيرة على دولة الخلافة، فكان لها ما أرادت واتفقت معها روسيا والنمسا وبروسيا على صد «محمد علي» عن بلاد الدولة وإعادته إلى حدود البلاد المصرية، وأبرمت في ذلك الحين معاهدة سنة 1840، فوقعت عليها تركيا مع الدول الأربع، ولم توقع عليها فرنسا لاشتغالها بشئونها كما تقدم، واعتراضها على السياسة البريطانية، وهي لا ترمي إلى شيء غير إخلاء الميدان المصري من كل نفوذ غير نفوذها.
وكانت هذه المعاهدة نكبة على مصر في حينها وبعد حينها إلى اليوم الذي انفصمت فيه علاقة السيادة بين مصر والآستانة، فقد سمحت لإنجلترا أن تتذرع بها تارة لتهديد الدولة العثمانية محافظة على امتيازات مصر، وتارة لتهديد مصر محافظة على امتيازات الدولة العثمانية.
ناپیژندل شوی مخ