49

درجات ست

الدرجات الست وأسرار الشبكات: علم لعصر متشابك

ژانرونه

لكن من ناحية أخرى، فإن العلماء بشر، شأنهم في ذلك شأن العاملين في أي مجال آخر، ويدفعهم باستمرار عدد من العوامل أكثر بكثير من البحث الخالص عن الحقيقة العلمية، ونظرا لما يتسم به العلماء من عيوب بشرية من ناحية، ولأن الحقيقة نفسها قد يصعب للغاية تبينها من ناحية أخرى، فإن العلماء يرتكبون أخطاء، أو يسيئون تفسير ما يتوصلون إليه من نتائج، أو يسمحون لغيرهم بإساءة تفسيرها، ونظرا لتوقع حتمية هذه الأخطاء، يوظف النظام عددا من الآليات، كمراجعة النظراء، والمؤتمرات والندوات الأكاديمية، ونشر الأبحاث المعارضة، التي تستبعد الكثير من الأخطاء، لكن هذه العملية بعيدة كل البعد عن الكمال، وبين الحين والآخر نفاجأ باكتشافنا أن جزءا من معرفتنا، التي طالما سلمنا بصحتها، موضع شك أو حتى خطأ. (1) ما الذي أوضحه ميلجرام حقا؟

توصلت عالمة النفس، جوديث كلاينفيلد، بالمصادفة إلى ما يبدو الآن نموذجا كلاسيكيا للإيمان الموضوع في غير محله، وذلك أثناء تدريسها علم النفس لطلاب الجامعة. كانت جوديث تقدح زناد فكرها للتوصل إلى تجربة عملية يمكن لطلابها إجراؤها وتمنحهم شعورا بإمكانية تطبيق ما كانوا يتعلمونه في المحاضرات على حياتهم خارج الفصل الدراسي. بدت تجربة ميلجرام عن العالم الصغير الاختيار الأمثل، فقررت كلاينفيلد أن تجعل طلابها يكررون التجربة بأسلوب القرن الحادي والعشرين، باستخدام البريد الإلكتروني بدلا من الخطابات الورقية، وما حدث هو أنها لم تنفذ التجربة فعليا على الإطلاق؛ فأثناء الإعداد للتجربة نفسها، بدأت بقراءة أبحاث ميلجرام، وبدلا من أن تشكل نتائج ميلجرام أساسا قويا لتجربتها، بدت تلك النتائج - عند فحصها بعناية - لا تؤدي إلى شيء سوى طرح أسئلة مزعجة بشأنها.

تذكر أن ميلجرام بدأ السلاسل التي عمل عليها بنحو ثلاثمائة شخص كانوا يحاولون جميعا إيصال خطاباتهم إلى هدف واحد في بوسطن. تشير القصة التي يرويها الجميع إلى أن الأشخاص الثلاثمائة كانوا يعيشون في أوماها، لكن عند التدقيق نجد أن مائة منهم كانوا في الواقع في بوسطن! بالإضافة إلى ذلك، من بين الأفراد البالغ عددهم نحو مائتي شخص في نبراسكا، لم يقع الاختيار العشوائي إلا على نصف هذا العدد فقط (من قائمة البريد التي ابتاعها ميلجرام)، أما النصف الآخر، فكانوا جميعا مستثمرين للسندات الممتازة، والشخص المستهدف كان بالطبع سمسار أوراق مالية، والدرجات الست الشهيرة هي المتوسط المأخوذ من واقع هذه المجموعات الثلاث من الأفراد، وكما هو متوقع، يتفاوت عدد الدرجات كثيرا فيما بينها، مع نجاح أهالي بوسطن ومستثمري الأوراق المالية في إكمال السلاسل على نحو أكثر نجاحا وبعدد من الروابط أقل من عينة نبراسكا العشوائية.

تذكر أيضا أن النتيجة المذهلة لفكرة العالم الصغير هي أن أي شخص يمكنه الوصول إلى أي شخص آخر؛ ولا يقتصر ذلك على الأفراد الموجودين في المدينة نفسها فحسب، أو من لديهم اهتمامات مشتركة قوية، بل أي شخص في أي مكان؛ لذا، فإن المجموعة الوحيدة التي أوفت في الواقع - وإن كان من بعيد - بشروط الفرضية كما يعبر عنها عادة (بواسطة ميلجرام نفسه)، تمثلت في الأفراد البالغ عددهم ستة وتسعين شخصا الذين وقع عليهم الاختيار من قائمة بريد نبراسكا. في هذه المرحلة بدأت الأرقام في الانخفاض على نحو مزعج: من إجمالي ستة وتسعين خطابا مبدئيا في هذه المجموعة من الأفراد، لم يصل إلى الشخص المستهدف سوى ثمانية عشر خطابا! ثمانية عشر! أهذا ما أثيرت من أجله كل هذه الضجة؟ كيف يمكن لأي شخص أن يستنتج من ثماني عشرة سلسلة فحسب موجهة إلى شخص واحد مستهدف مبدأ عاما وشاملا كالذي بدأنا في محاولة تفسيره؟ وكيف وافق بقيتنا على هذا دون الاعتراض قط بجدية على معقولية الفكرة في المقام الأول؟

أخذت كلاينفيلد، التي أربكت هذه الأسئلة تفكيرها، تفتش عن أبحاث لاحقة بقلم ميلجرام وغيره من الباحثين، مفترضة أن الفجوة غير المدعمة ظاهريا بين النتائج العملية وتفسيرها اللاحق قد حظيت بدعم في مكان آخر. ومرة أخرى، أدهشها التوصل إلى أن هذا لم يحدث، بل كان العكس تماما في الواقع؛ فعلى الرغم من إجراء ميلجرام ومعاونيه تجارب أخرى بالفعل - أهمها كان بين السكان ذوي البشرة البيضاء في لوس أنجلوس ومستهدفين ذوي بشرة سوداء في مدينة نيويورك - فقد كانت تجارب محدودة مثل الأصلية إلى حد بعيد، بل إن الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن عددا صغيرا فقط من الباحثين الآخرين هم من حاولوا تكرار نتائج ميلجرام، وكانت نتائجهم أقل إقناعا من نتائجه. على سبيل المثال، سعت إحدى التجارب إلى الربط بين مرسلين ومستهدفين داخل الجامعة نفسها الواقعة في وسط الغرب الأمريكي، الأمر الذي يعد بالكاد اختبارا لمبدأ عام!

ومع تزايد انزعاج كلاينفيلد مما كانت تتوصل إليه، انتهى بها الأمر وسط أرشيف جامعة ييل تبحث بعناية في ملاحظات ميلجرام الأصلية وكتاباته التي لم تنشر، ولا يزال بداخلها قناعة أنها غفلت عن شيء ما بالتأكيد، وكان الأمر كذلك بالفعل؛ فاكتشفت أن ميلجرام أجرى دراسة أخرى بالتوازي مع دراسة أوماها، واستخدمت هذه الدراسة مبتدئين من ويتشيتا بولاية كانساس، وزوجة طالب بمدرسة اللاهوت بجامعة هارفارد كشخص مستهدف. لقد ذكر ميلجرام هذه الدراسة بالفعل في بحثه الأول الذي نشر في مجلة «سايكولوجي توداي»؛ لأنها أنتجت أقصر سلسلة قاسها على الإطلاق: وصل الخطاب الأول للشخص المستهدف في أربعة أيام فحسب، ولم يستخدم سوى وسيطين فحسب. ما لم يذكره ميلجرام في ذلك البحث أو أي بحث آخر، هو أن هذا الخطاب الأول كان أحد ثلاثة خطابات فقط وصلت إلى الشخص المستهدف من إجمالي الخطابات الستين. كشفت كلاينفيلد أيضا عن تقارير تتعلق بدراستي متابعة كانت فيها معدلات استكمال السلاسل منخفضة للغاية، الأمر الذي أدى إلى عدم نشر أي نتائج، وكانت النتيجة النهائية لكلاينفيلد هي أن ظاهرة العالم الصغير، كما تقدم لنا عادة، ليس لها أساس تجريبي على الإطلاق.

بينما يعد هذا الكتاب للإصدار، نجري حاليا ما يعتبر إلى حد بعيد أكبر تجربة عن العالم الصغير على الإطلاق، وذلك في محاولة تأخرت كثيرا لحسم الأمر. يمكننا التعامل مع أعداد كبيرة من المرسلين والبيانات ما كان ميلجرام ليتخيلها، وذلك بواسطة استخدام البريد الإلكتروني بدلا من الخطابات، والتنسيق بين الرسائل من خلال موقع إلكتروني مركزي، لدينا حاليا خمسون ألف سلسلة رسائل تصدر من أكثر من 150 دولة تحاول الوصول إلى ثمانية عشر شخصا مستهدفا في الولايات المتحدة وأوروبا وأمريكا الجنوبية وآسيا والمحيط الهادي. من أستاذ جامعي في إيثاكا (لن يمكنك أن تحرز هويته أبدا) إلى مفتش أرشيف في إستونيا، ومن ضابط شرطة في غرب أستراليا إلى موظف في أوماها، يتنوع أشخاصنا المستهدفون في عالم مستخدمي الإنترنت البالغ عدده نصف مليار شخص متفرقين حول العالم. وفي الوقت نفسه، اختير المرسلون في هذه المهمة عن طريق التقارير الصحفية التي ظهرت عن التجربة بجميع أنحاء العالم، وصار يتصل بنا المئات منهم كل يوم.

ومع أن نصف مليار قد يبدو عددا كبيرا، فهو لا يزال أقل من تعداد العالم بالكامل، ومن المرجح أن من لديهم إمكانية الوصول إلى جهاز كمبيوتر (وما يكفي من وقت الفراغ) يمثلون قسما صغيرا نسبيا من المجتمع العالمي، ومن ثم يصبح من الجلي أن نتائج هذه التجربة، وإن كانت كبيرة، لن يمكن تطبيقها عالميا، بالإضافة لذلك، تعاني التجربة مشكلة سبق أن واجهها ميلجرام أيضا، لكن ليس بالقدر نفسه تقريبا، وهي عدم الاهتمام: يتلقى الناس في العصر الحالي الكثير من البريد غير المهم، خاصة البريد الإلكتروني، أكثر من ستينيات القرن العشرين بكثير، ويرفضون في كثير من الأحيان المشاركة (أو يكونون مشغولين للغاية فحسب)، حتى إن طلب منهم أحد أصدقائهم ذلك، وتكون النتيجة معدل استكمال شديد الانخفاض؛ أقل من واحد بالمائة من جميع السلاسل التي تبدأ في الوصول إلى أهدافها (يجدر التذكر أن معدل الاستكمال الذي وصل إليه ميلجرام يبلغ 20 بالمائة)؛ لذا، وعلى الرغم من الآمال العريضة التي نضعها على تجربتنا، فلم يحسم الأمر بعد، وقد يظل كذلك فترة طويلة، حتى عندما تحلل النتائج التي توصلنا إليها بالكامل، ربما تكون الرسالة الفعلية هنا هي أن ظاهرة العالم الصغير صعبة للغاية، فلا يمكن فك طلاسمها تجريبيا. (2) هل الرقم ستة كبير أم صغير؟

إلى أين يفضي بنا كل ذلك؟ في النهاية، لقد قضينا وقتا طويلا محاولين فهم ظاهرة العالم الصغير. لن نشكك فيها الآن، أليس كذلك؟ ليس بالضبط، لكن هناك فارقا مهما بين ظاهرة العالم الصغير التي عرفناها في نماذج الشبكات وتلك التي بحثها ميلجرام؛ فارقا تجنبنا التعرض له حتى الآن. تذكر هنا أن الدافع الرئيسي لتناولنا المسألة في الأساس كان صعوبة التحقق التجريبي منها، ومن ثم فإن الندرة المستمرة للأدلة التجريبية في حد ذاتها لا تمثل بالضرورة مشكلة لنتائجنا. تكمن المشكلة الحقيقية في وجود اختلاف كبير بين شخصين متصلين بمسار قصير (وهو ما تشير إليه نماذج شبكات العالم الصغير) وقدرتهما على العثور على هذا المسار. تذكر أن الأشخاص الخاضعين لدراسة ميلجرام كان من المفترض أن يعطوا الخطاب إلى شخص واحد يرون أنه أقرب للشخص المستهدف مقارنة بهم، لكن ما لم يكن من المفترض منهم فعله هو إرسال نسخ من الخطاب إلى كل شخص يعرفونه، لكن هذا بالضبط هو الحساب الذي أجريته أنا وستيف في تجاربنا العددية، والذي تعبر عنه ضمنيا تقاريرنا عن أقصر أطوال المسارات، ومن ثم، من المحتمل جدا أننا نحيا في عالم صغير، مثل نماذج شبكات العالم الصغير الموضحة في الفصلين

الثالث

ناپیژندل شوی مخ