41

درجات ست

الدرجات الست وأسرار الشبكات: علم لعصر متشابك

ژانرونه

ثبت أن أصل توزيع درجات بواسون في الرسم البياني العشوائي، والقطع المتزامن معه، يكمن في فرضيته الأساسية، وهي أن الروابط بين نقاط التلاقي تظهر للوجود على نحو مستقل تماما بعضها عن بعض. في أي مرحلة من عملية البناء، من المحتمل لنقاط التلاقي ذات الاتصال الضعيف أن تقيم روابط جديدة أو تتلقاها تماما كما هو الحال مع نقاط التلاقي التي تتمتع بأفضل اتصال. وكما قد يتوقع المرء في هذا النظام المتساوي، تصل الأمور لمعدلها المتوسط بمرور الوقت. يمكن ألا يحالف الحظ إحدى نقاط التلاقي لفترة من الوقت، لكنها في نهاية المطاف ستكون بالطرف المتلقي لأحد الاتصالات الجديدة، أيضا، فإن الحظ السعيد لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، ومن ثم إذا اختيرت نقطة تلاق واحدة لعدد مرات أكثر من المتوسط لفترة من الوقت، فسوف تلحق بها نقاط التلاقي الأخرى في النهاية.

بيد أن الحياة الواقعية ليست على هذا القدر من العدالة؛ فخاصة فيما يتعلق بالثروة والنجاح، يبدو دائما أن الأثرياء يزدادون ثراء، ويكون ذلك على حساب الفقراء عادة. لقد استمرت هذه الظاهرة فترة طويلة، على الأقل منذ ظهورها في إنجيل متى: «لأن كل من له يعطي فيزداد، ومن ليس له فالذي عنده يؤخذ منه.» وفي إطار الشبكات، فإن مصطلح «تأثير متى»، كما صاغه لأول مرة عالم الاجتماع العظيم روبرت ميرتون الذي عاش في القرن العشرين، يعني أن نقاط التلاقي جيدة الاتصال تزيد احتمالية جذبها لروابط جديدة، في حين أن النقاط ضعيفة الاتصال تظل ضعيفة للغاية.

وقد اقترح باراباسي وألبرت أن الحالة الخاصة لازدياد الأثرياء ثراء تدفع الشبكات الفعلية إلى التطور، وبوجه خاص، إذا كان لدى إحدى نقاط التلاقي ضعف الروابط التي تتمتع بها نقطة أخرى ، فإن احتمال تلقيها لرابط جديد يكون الضعف بالضبط، وقد اقترحا أيضا أنه على عكس نماذج الرسوم البيانية العشوائية النموذجية، التي يظل فيها عدد نقاط التلاقي ثابتا، مع إضافة الروابط فحسب، فإن نموذج الشبكة الواقعي ينبغي أن يسمح لمجموعة الأفراد نفسها أن تنمو مع الوقت، ومن ثم، بدأ باراباسي وألبرت بمجموعة صغيرة من نقاط التلاقي، ثم أضافا على نحو منتظم كلا من نقاط التلاقي والروابط، بحيث تضاف مع كل خطوة نقطة تلاق جديدة ويسمح لها بالاتصال بالشبكة الموجودة عن طريق مد عدد ثابت من الروابط، وتكون كل نقطة تلاق موجودة بالفعل في الشبكة مؤهلة لأن تكون بالطرف المتلقي لكل رابط، وفق احتمال يتناسب مباشرة مع درجتها الحالية، من ثم تتمتع نقاط التلاقي الأقدم في الشبكة بمزية لا تملكها تلك المضافة حديثا، ونظرا لوجود عدد قليل منها فحسب في البداية، فمن المرجح أن تجذب عددا قليلا من الاتصالات المبكرة، ثم تثبت قاعدة ازدياد الأثرياء ثراء هذه المزية مع مرور الوقت، وتكون النتيجة، كما أوضح باراباسي وألبرت، هي أنه على مدى زمني طويل بما فيه الكفاية، يتحول توزيع درجات الشبكة إلى أحد توزيعات قانون القوة، على نحو يذكرنا بالتوزيعات التي لاحظاها في البيانات التي فحصاها.

ما أهمية ذلك؟ أولا، يختلف توزيع درجات الشبكات عديمة المعيار عن توزيع بواسون اختلافا كبيرا، حتى إن أي شخص يحاول فهم بنية الشبكات الحقيقية لا يمكنه غض الطرف عن هذا الاختلاف. من الجلي أن النموذج القياسي للرسوم البيانية العشوائية، الذي طرحه إيردوس وريني، يعاني بعض المشكلات الخطيرة، ليس فقط لأنه فشل في التنبؤ بالتكتل الذي تحدثنا عنه سابقا، بل أيضا لأنه يعجز عن تفسير توصل باراباسي وألبرت إلى توزيعات الدرجات التي توصلا إليها. إن مجرد إدراك أن العالم مختلف تماما عن الصورة المفترضة عنه من قبل يمثل خطوة مهمة للأمام. أيضا يزيد شرح الارتباط التفضيلي من توضيح الأسلوب الذي يسير به العالم؛ فالاختلافات الصغيرة في القدرة - بل التقلبات العشوائية تماما أيضا - يمكن أن تثبت وتؤدي إلى تباينات كبيرة للغاية بمرور الوقت . وأخيرا - كما سنرى في فصول لاحقة من هذا الكتاب - تتمتع أيضا الشبكات عديمة المعيار بعدد من الخصائص الأخرى، مثل سهولة تعرضها للأعطال والاعتداءات، وهي الخصائص التي تميزها عن الشبكات العادية ولها أهمية كبيرة من الناحية العملية.

لم يكن باراباسي وألبرت أول من طرحا نموذج النمو التفضيلي لتفسير وجود توزيعات قانون القوة، وإن لم يكونا على علم بذلك آنذاك، فمنذ زمن طويل يعود إلى عام 1955، ابتكر هيربرت سايمون، الحاصل على جائزة نوبل ومتعدد المعارف (الشهير بطرحه لمفهوم العقلانية المحدودة)، نموذجا مطابقا تقريبا لتفسير توزيع أحجام الشركات التجارية، يعد هذا التوزيع بعينه مثالا لقانون زيف؛ الذي سمي بهذا الاسم نسبة لأستاذ اللغويات بجامعة هارفارد، جورج كينجسلي زيف، الذي استخدمه في عام 1949 لوصف توزيع مختلف إلى حد ما؛ وهو المعدل المدرج لتكرار الكلمات في نصوص اللغة الإنجليزية (وقد ثبت أن كلمة

the

هي أكثر الكلمات المستخدمة شيوعا، يليها كلمة

of ... إلخ). صنف زيف جميع الكلمات في عدد من النصوص الكبيرة حسب معدل تكرارها، وأوضح أنه عند وضع معدل تكرارها في مقابل درجتها في التصنيف على الرسم البياني، يكون التوزيع الناتج أحد توزيعات قانون القوة. تابع زيف بعد ذلك عمله لإيضاح أن قانونه ينطبق أيضا (إلى جانب أمور أخرى) على التوزيع المدرج لأحجام المدن (حيث ثبت أن الأس يقترب من الواحد) والشركات التجارية.

أرجع زيف نفسه هذه الظاهرة إلى ما أسماه «مبدأ الجهد الأقل»، وهو مفهوم مثير للاهتمام، لكنه ظل محيرا بشكل محبط بالرغم من الكتاب (الطويل إلى حد ما) الذي ألفه زيف وجعل هذا التعبير عنوانه. وبعد ست سنوات اقترح سايمون ومعاونه، يوجي آيجيري، نموذجا بسيطا افترض - مثل نموذج باراباسي وألبرت - أن المدن الفردية (أو في حالة سايمون وآيجيري، الشركات التجارية) تنمو عشوائيا إلى حد ما، لكن احتمال نموها بقدر معين يكون متناسبا مع حجمها الحالي، ومن ثم فإن مدنا كبيرة كنيويورك يزيد احتمال جذبها للوافدين الجدد مقارنة بالمدن الصغيرة مثل إيثاكا، الأمر الذي يضخم الاختلافات المبدئية في الحجم، ويؤدي إلى توزيع لقانون القوة يحوز وفقه عدد قليل من «الفائزين» نصيبا كبيرا لا يتناسب مع حجمه قياسا إلى العدد الإجمالي للسكان.

على أرض الواقع، ما من شيء عشوائي بشأن كبر حجم نيويورك مقارنة بإيثاكا؛ فنيويورك تقع عند مصب أحد الأنهار الرئيسية بالساحل الشرقي، في حين تقع إيثاكا في قلب مجتمع زراعي خامل، لكن لم يكن ذلك هو الهدف من نموذج سايمون، فما كان لينكر أهمية الجغرافيا والتاريخ في تحديد المدن التي صارت عواصم حضرية، مثلما لم ينكر باراباسي وألبرت أن خطط العمل الواعدة وإمكانية الوصول إلى رأس المال المخاطر كانا عنصرين أساسيين كي يكون أي موقع إلكتروني متصلا ومرئيا بدرجة كبيرة، لكن الفكرة هي أنه ما إن يصبح أحد المواقع الإلكترونية أو الشركات أو المدن كبيرا، فبصرف النظر عن كيفية تحقيقه ذلك، يكون احتمال استمرار زيادته في الحجم أكبر من نظرائه الأصغر حجما. يملك الأثرياء العديد من السبل ليصبحوا أكثر ثراء، وبعضهم يستحق ذلك في حين لا يستحقه آخرون، لكن فيما يتعلق بالتوزيع الإحصائي الناتج، الأمر الوحيد المهم هو أنهم يزدادون ثراء بالفعل.

ناپیژندل شوی مخ