درجات ست
الدرجات الست وأسرار الشبكات: علم لعصر متشابك
ژانرونه
يبدو كل ذلك غامضا إلى حد ما، لكنه يمثل أفضل فهم نملكه عن الكيفية التي يمكن للأحداث الواقعة على أحد المستويات أن تؤثر بها على السمات النظامية على مستوى آخر، حتى عندما لا يهتم كل عنصر بالنظام إلا بالعناصر المجاورة له مباشرة فحسب. أدت الإثارة الناتجة عن هذا الاكتشاف إلى أن أصبحت دراسة «نظم اللفات» نشاطا رائجا نتج عنه آلاف الأبحاث. يهتم الفيزيائيون كثيرا بنماذج اللفات، ويرجع ذلك جزئيا إلى أنها بسيطة، ومن ثم يمكن توضيحها بسهولة، لكن السبب الأكبر هو أنها وثيقة الصلة بالكثير من الظواهر، مثل النظم المغناطيسية وتجميد السوائل، وغيرها من التغيرات الدقيقة التي تطرأ على الحالة، مثل بدء الموصلية الفائقة. ولا تكون التغيرات التي تطرأ على الحالة ثابتة أو تدريجية، وهذا ما ستلاحظه إذا نظرت إلى كوب من الماء يتجمد أو مشيت عبر خط الثلج في الجبال، ففي لحظة ما تمطر السماء، وفي اللحظة التالية تمطر ثلجا، والمغناطيس إما ينجذب أو لا ينجذب.
إن التحول عبر النقطة الحرجة هو في الواقع التحول الطوري من وجهة نظر الفيزيائيين، وهو الانتقال الذي يشبه إلى حد بعيد التحول بين المراحل المتصلة وغير المتصلة بأحد الرسوم البيانية العشوائية. إن قدرتنا على المساواة بين اثنين من النظم غير المرتبطة - فيزيائية قطعة المغناطيس وتواصلية شكل رياضي كالرسم البياني - ينبغي أن تعكس شيئا عن مدى عمق نظرية التحولات الطورية، والظواهر الحرجة بوجه عام. وبصرف النظر عما إذا كنا نناقش المغناطيسية أو تجمد الماء ليصبح ثلجا - وهي الإجراءات التي تنطوي على عمليات فيزيائية مختلفة تماما، بل مواد مغايرة كلية أيضا - فقد ثبت أن طبيعة التحولات الطورية المناظرة متماثلة!
يشار بوجه عام إلى قدرة النظم المختلفة تمام الاختلاف على إظهار نقاط تشابه جوهرية ب «العمومية»، وتمثل الصحة الواضحة لهذا المفهوم أحد أعقد وأقوى ألغاز الفيزياء الحديثة. ويرجع هذا إلى عدم وجود سبب واضح يفسر وجود أي شيء مشترك على الإطلاق بين النظم المختلفة؛ مثل الموصلات الفائقة وقطع المغناطيس الحديدية والسوائل المتجمدة ومستودعات البترول تحت الأرض، أما القوة، فترجع بالتحديد إلى وجود شيء مشترك بينها بالفعل، الأمر الذي يوضح لنا أنه يمكن على الأقل فهم بعض سمات النظم شديدة التعقيد دون معرفة أي شيء عن قواعدها الحاكمة أو بنيتها التفصيلية. تعرف فئات النظم التي يمكن تجاهل الكثير من تفاصيلها ب «فئات العمومية»، ومن خلال معرفة جميع فئات العمومية لنوع معين من النماذج، يمكن للفيزيائيين الخروج ببيانات قوية للغاية بشأن ما يمكن وما لا يمكن أن يحدث في الأنواع المختلفة من النظم الفيزيائية، وذلك من خلال معرفة حقائقها الجوهرية وحسب. هذه رسالة واعدة للغاية لأي شخص مهتم بفهم السلوك الناتج عن النظم الاجتماعية والاقتصادية المعقدة؛ كشبكات الصداقات والشركات والأسواق المالية، وحتى المجتمعات.
إحدى العقبات الرئيسية التي تقف في طريق بناء نماذج بسيطة لوصف هذه الأنظمة هي عدم فهم الكثير عن القواعد الأساسية التي تدفعها. قال أينشتاين ذات مرة إن الفيزياء تتعامل مع المشكلات السهلة. لا يعني ذلك أن الفيزياء سهلة، لكن الفيزيائيين يبدءون عادة وهم يملكون فكرة منطقية عن المعادلات الحاكمة للموضوع المدروس، حتى وإن كان ذلك مع أكثر المشكلات صعوبة وعدم قابلية للحل؛ مثل اضطرابات السوائل والجاذبية الكمية، وقد لا يتمكنون من حلها، أو حتى فهم جميع تبعات الحلول التي يمكن أن يتوصلوا إليها، لكنهم على الأقل يمكن أن يتفقوا على ما سيتم حله في المقام الأول. يواجه علماء الاقتصاد والاجتماع مستقبلا أكثر ظلمة؛ فبعد قرنين من الجهود الشاقة، تظل القواعد الحاكمة للسلوك الاقتصادي والاجتماعي الفردي غير محسومة.
قد تكون أنجح المحاولات الهادفة للوصول لنظرية عامة لصناعة القرار في العلوم الاجتماعية هي ما يعرف ب «نظرية التوقعات العقلانية»، أو «العقلانية» فحسب، وبعد أن تطور مفهوم العقلانية على يد علماء الاقتصاد والرياضيات، بهدف إضفاء بعض الصلابة العلمية على المناقشات الدائرة عن السلوك البشري، أصبح مفهوم العقلانية هو المعيار الفعلي الذي يجب مقارنة جميع التفسيرات الأخرى به، ومع الأسف - وكما سنرى في فصول لاحقة من هذا الكتاب - تضع العقلانية عددا من الافتراضات المخزية للغاية بشأن القدرات المعرفية والميول البشرية، ويتطلب الأمر سنوات عديدة من التدريب على النظرية الاقتصادية لأخذ هذه الافتراضات على محمل الجد. وما يزيد الأمر سوءا هو أنه لا يبدو أن أحدا قد توصل إلى أي شيء أفضل من ذلك.
في خمسينيات القرن العشرين، اقترح هيربرت سايمون وآخرون صيغة تبدو أكثر منطقية لمفهوم العقلانية، تعرف باسم «العقلانية المحدودة»، تخفف من وطأة بعض الافتراضات بعيدة الاحتمال للنظرية السابقة دون التخلي عن أساسها الأكثر منطقية. ومع اتفاق معظم علماء الاقتصاد على أن إحدى صور العقلانية المحدودة لا بد أن تكون صحيحة في الواقع، ومع حصول سايمون على جائزة نوبل تكريما له على أفكاره، فالمشكلة تكمن في أنه ما إن يبدأ المرء في انتهاك افتراض السلوك المنطقي تماما، فلا سبيل لمعرفة متى يجب التوقف. ومثلما لا توجد وسيلة وحيدة لجعل الرسوم البيانية العشوائية غير عشوائية، يوجد الكثير من الوسائل لتحديد العقلانية، الأمر الذي لن يجعلنا واثقين أبدا من أننا نستخدم الوسيلة الصحيحة.
على هذا تكون فكرة العمومية مغرية للغاية؛ لأنها تزعم أننا لسنا في الواقع بحاجة إلى معرفة القواعد المفصلة للتفاعل والسلوك على المستوى الدقيق؛ فعلى الأقل هناك بعض الأسئلة التي يمكننا الإجابة عنها دون هذه القواعد. وهذه فكرة واعدة حقا، فما المشكلة إذن؟ إننا نتفهم العمومية منذ عقود، إلى جانب أن نظرية الظواهر المهمة التي نشأت حول تطبيقات مثل المغناطيسية والموصلية الفائقة تعد أحد مجالات الفيزياء الناضجة. لماذا إذن لا نفهم الأوبئة وأعطال الطاقة وانهيارات أسواق الأوراق المالية؟
تتمثل المشكلة الرئيسية في أن الفيزيائيين طوروا أدواتهم للتعامل مع مسائل الفيزياء، وليس المسائل الاقتصادية أو الاجتماعية، وأحيانا يمثل هذا الأمر عائقا. على سبيل المثال، اعتاد الفيزيائيون التفكير في التفاعلات بين الذرات في إطار شبكي واضح؛ لذا، عندما يحاولون تطبيق أساليبهم على التفاعلات البشرية، يفترضون عادة أن الناس يتفاعلون مثلما تفعل الذرات بالضبط، وتكون النتيجة أن المنهج يبدو مثيرا للإعجاب، ويؤدي إلى الكثير من النتائج الرائعة، لكنه لا يحل المشكلة الفعلية؛ وذلك لأنه غير مرتبط بالمشكلة الفعلية. ومهما تكن جميع الجوانب الرائعة للعمومية، فإن بعض التفاصيل لها أهمية بالفعل، وهنا يأتي دور أشخاص مثل علماء الاجتماع؛ فنظرا لقضائهم حياتهم في دراسة العالم الاجتماعي، فهم يعرفون بالفعل بعض الأشياء عن كيفية عمله، وتمثل رؤاهم عنصرا لا غنى عنه في أي نموذج مفيد.
مع ما تبدو عليه هذه النقطة الأخيرة من بديهية، فإنها تثير دائما دهشة معظم الفيزيائيين الذين نادرا ما يشعرون بحاجة لاستشارة أي شخص آخر قبل الاستئثار بالمسألة التي يدرسونها، ومن الضروري أن يتغير ذلك لتحقيق أي تقدم حقيقي. يتسم الأكاديميون بعنادهم؛ فنادرا ما ينزعون إلى تخطي حدود فروع المعرفة التي يتخصصون فيها، لكن في عالم الشبكات، يكون لدى علماء الاجتماع والاقتصاد والرياضيات والكمبيوتر والأحياء والمهندسين والفيزيائيين شيء ما يقدمونه بعضهم لبعض والكثير ليتعلموه، فليس هناك فرع واحد من المعرفة، أو توجه واحد يحكم قبضته على علم الشبكات الشامل، وليس من المحتمل حدوث ذلك. وأي فهم عميق لبنية الشبكات الحقيقية لا يمكن أن يحدث إلا من خلال تزاوج فعلي للأفكار والبيانات المتناثرة بجميع أنحاء المجال الفكري، التي يمثل كل منها جزءا من الأحجية بما تحمله من تاريخ وتصورات، لكن دون أن يكون أي منها مفتاحا لحل الأحجية نفسها، وكما هو الحال في أحجية الصورة المقطعة، يتمثل مفتاح الحل في الطريقة التي تتداخل بها جميع الأجزاء لتكون صورة واحدة متحدة، وهذه الصورة - كما سنرى في الفصول التالية - بعيدة كل البعد عن الكمال، لكن نظرا لجهود الكثير من الباحثين في العديد من المجالات، والمحاولات الفكرية العديدة التي يمكن البناء عليها، بدأت ملامح الصورة أخيرا في الظهور.
الفصل الثالث
ناپیژندل شوی مخ