رأيت تلك الكتائب المعروفة تحاصر مدينة الشرف الموروث، لكني رأيت كتائب قد انحدرت لأنها قليلة غير متحدة.
رأيت الحرية الحقيقية تسير وحدها في الشوارع وأمام الأبواب تطلب مأوى والقوم يمنعونها، ثم رأيت الابتذال يسير بموكب عظيم والناس يدعونه الحرية.
رأيت الدين مدفونا طي الكتاب والوهم قائما مقامه.
رأيت الناس تلبس الصبر ثوب الجبانة، وتعطر التجلد لقب التواني، ويدعو اللطف باسم الخوف.
رأيت المتطفل على موائد الآداب يدعى والمدعو إليه صامتا.
رأيت المال بين أيدي المبذر شبكة شروره، وبين أيدي البخيل مجلبة لمقت الناس، وبين أيدي الحكيم لم أر مالا.
عندما رأيت كل هذه الأشياء صرخت متألما من هذا المنظر: «أهذه هي الأرض يا ابنة الآلهة؟ أهذا هو الإنسان؟» فأجابت بسكينة جارحة: «هذه طريق النفس المفروشة شوكا وقطربا، هذا ظل الإنسان، هذا هو الليل وسيجيء الصباح. ثم وضعت يدها على عيني، ولما رفعتها وجدتني وشبابي سائرا على مهل، والأمل يركض أمامي.
الأمس واليوم
مشى الموسر في حديقة صرحه ومشى الهم متبعا خطواته، وحام القلق فوق رأسه مثلما تحوم النسور على جثة صفعها الموت حتى بلغ بحيرة تسابقت في صنعها أيدي الإنسان، وجمعت جوانبها منطقة من الخام المنحوت، فجلس هناك ينظر آنا إلى المياه المتدفقة من أفواه التماثيل تدفق الأفكار من مخيلة العاشق، وآونة إلى قصره الجميل الجالس على تلك الرابية جلوس الخال على وجنة الفتاة.
جلس فجالسته الذكرى ونشرت أمام عينيه صفحات كتبها الماضي في رواية حياته، فأخذ يتلوها والدموع تحجب عنه محيطا صنعه الإنسان، واللهفة تعيد إلى قلبه رسوم أيام نسجتها الآلهة حتى أبت لوعته إلا الكلام، فقال: «كنت بالأمس أرعى الغنم بين تلك الروابي المخضرة، وأفرح بالحياة وأنفخ في شبابتي معلنا غبطتي، وها أنا اليوم أسير المطامع يقودني المال إلى المال، والمال إلى الانهماك، والانهماك إلى الشقاء، كنت كالعصفور مغردا وكالفراش متنقلا، ولم يكن النسيم أخف وطأة على رءوس الأعشاب من خطوات أقدامي في تلك الحقول، وها أنا الآن سجين عادات الاجتماع أتصنع بملابس وعلى مائدتي وبكل أعمالي من أجل إرضاء البشر وشرائعهم، كنت أود لو أني خلقت لأتمتع بمسرات الوجود، ولكني أراني اليوم متعبا بحكم المال سبل الغم، قصرت كالناقة المثقلة بحمل من الذهب والذهب يميتها، أين السهول الواسعة؟ أين السواقي المترنمة؟ أين الهواء النقي؟ أين مجد الطبيعة؟ أين ألوهيتي؟ قد ضيعت كل ذلك ولم يبق لي غير ذهب أحبه فيستهزئ بي، وعبيد كثرتهم فقل سروري، وصرح رفعته ليهدم غبطتي. كنت وابنة البدو نسير والعفاف ثالثنا، والحب نديمنا، والقمر رقيبنا، واليوم أصبحت بين اللواتي يمشين ممدودات الأعناق غامزات العيون، الشاريات الحسن بالسلاسل والمناطق، البائعات الوصل بالأساور والخواتم. كنت والفتيان نخطر بين الأشجار كسرب الغزلان نشترك بإنشاد الأغاني، نقتسم ملذات الحقول، واليوم صرت بين القوم كالنعجة بين الكواسر، أمشي في الشوارع فتنفتح على عيون البغض ويشار إلي بأصابع الحسد، وإن ذهبت إلى المتنزهات لا أرى غير وجوه كالحة ورءوس شامخة.
ناپیژندل شوی مخ