مشى الشاب أمامي فاتبعت مسيره، حتى إذا بلغنا حقلا بعيدا وقفت متأملا الغيوم الجارية فوق خط الشفق كأنها قطيع نعاج بيضاء، والأشجار المشيرة بأغصانها العارية إلى العلاء كأنها تطلب من السماء استرجاء أوراقها الغضة، فقلت: أين نحن أيها الشاب؟ قال: في حقول الحيرة فانتبه. قلت: لنرجع! لأن وحشة المكان تخيفني ومرأى النجوم والأشجار العارية يحزن نفسي. قال: اصبر، فالحيرة بدء المعرفة. ثم نظرت فإذا بحورية تقترب منا كالخيال فصرخت مستغربا: من هذه؟ قال: هي مليومين ابنة جوبيتر وربة الروايات المحزنة.
1
قلت: وماذا تبتغي الأحزان مني وأنت بجانبي أيها الشاب المفرح؟ قال: جاءت لتريك الأرض وأحزانها، من لا يرى الأحزان لا يرى الفرح. ووضعت الحورية يدها على عيني، ولما رفعتها رأيتني منفصلا عن شبابي مجردا من ثوب المادة، فقلت: أين الشباب يا ابنة الآلهة؟ فلم تجبني بل ضمتني بجناحيها وطارت بي إلى قمة جبل عال، فرأيت الأرض وما فيها منبسطة أمامي كالصفحة، وأسرار سكانها ظاهرة لعيني كالخطوط، فوقفت متهيبا بجانب الحورية متأملا خفايا الإنسان، مستفسرا رموز الحياة، رأيت وليتني لم أر، رأيت ملائكة السعادة تحارب أبالسة الشقاء، والإنسان بينهما في حيرة تميل به نحو الآمال تارة والقنوط أخرى، رأيت الحب والبغض يلعبان بالقلب البشري، هذا يستر ذنوبه ويسكره بخمرة الاستسلام ويطلق لسانه بالمدح والإطراء، وذاك يهيج خصوماته ويعميه عن الحقيقة ويغلق سامعته عن القول الصحيح، رأيت المدينة جالسة كابنة الأزقة متشبثة بأذيال ابن آدم، ثم رأيت البرية الجميلة واقفة عن بعد تبكي من أجله.
رأيت الكهان يروغون كالثعالب، والمسحاء الكذبة يحتالون على ميول النفس، والإنسان يصرخ مستنجدا بالحكمة وهي نافرة عنه غضبى عليه لأنه لم يسمعها عندما نادته في الشوارع على رءوس الأشهاد.
رأيت القسوس يكثرون رفع عيونهم إلى السماء وقلوبهم مطمورة في قبور المطامع، رأيت الفتيان يتحببون بألسنتهم ويقتربون بآمال نزقهم، وألوهيتهم بعيدة وعواطفهم نائمة.
رأيت المتشرعين يتاجرون بثرثرة الكلام بسوق الخداع والرياء، والأطباء يلعبون بأرواح البسطاء الواثقين.
رأيت الجاهل يجالس العاقل فيرفع ماضيه على عرش المجد، ويوسد حاضره بساط السعة، ويمد لمستقبله فراش الفخامة.
رأيت الفقراء والمساكين يزرعون، والأغنياء الأقوياء يحصدون ويأكلون، والظلم واقف هناك والناس يدعونه الشريعة.
رأيت لصوص الظلمة يسرقون كنوز العقل، وحراس النور غرقى في كرى التواني.
رأيت المرأة كالقيثارة في يد رجل لا يحسن الضرب عليها فتسمعه أنغاما لا ترضيه.
ناپیژندل شوی مخ