دم او عدالت
الدم والعدالة: قصة الطبيب الباريسي الذي سطر تاريخ نقل الدم في القرن السابع عشر
ژانرونه
يحتمل أن يكون هذا الطبيب قد بنى فكرته على عمل نشر عام 1489 للفيلسوف الإيطالي ورئيس الأكاديمية الأفلاطونية في فلورنسا مارسيليو فيسينو. كان فيسينو أحد أبرز الأسماء التي قادت النهضة، كذلك أشار إلى أن شرب دم الشباب اليافعين الأصحاء قد يكون طريقة جيدة للتخلص من الوهن والأمراض المرتبطة بالتقدم في السن.
أما ما حدث بعد ذلك بالضبط، فقد ضاع عبر السنين، لكن هناك أدلة قوية تشير إلى استدعاء ثلاثة صبية في العاشرة من عمرهم، وإعطاء كل منهم دوكات (العملة في ذلك الوقت) وأخذ كمية كبيرة من دمائهم، إلا أن أيا من الروايات المعاصرة لا تبين إذا كانت قد أجريت أية محاولة لنقل هذا الدم إلى البابا، سواء بخلطه بوصفة علاجية، أو بإدخاله في أوردته، لكن النتيجة كانت واضحة. فقد مات الصبية الثلاثة وكذلك البابا، وهرب الطبيب اليهودي لينجو بحياته. لم تمر الحادثة بسلام في الجوار، حيث أثير الشغب والاضطرابات بعد أن أخذت الشائعات عن وفاة الصبية الثلاثة في الانتشار. ربما لم تحقق هذه المحاولة النجاح، لكنها لم تقض على كل التفكير في هذا الشأن.
لكن قبل أن نفزع، علينا أن نذكر أنفسنا بالتصور المعاصر عن الدم. فإن الدم الوريدي لم يكن إلا سائلا مغذيا يفرزه الكبد، فمن المنطقي الاعتقاد بإمكانية إخراجه من شاب أو صبي وبأنه سرعان ما سيفرز كمية أخرى. سيكون الصبي سليما معافى؛ إذ سيتناول وجبة دسمة، وربما يأخذ فترة راحة قصيرة لكيلا يجهد نفسه بينما يهضم الطعام الذي سينقل إلى الكبد، ومنه إلى القلب حيث يمكن تحويله إلى دم. وكان إخراج الدم الشرياني للشخص خطوة أكثر جرأة؛ إذ إن هذا سيستنفد جوهره الحيوي بشده ويمكن لهذا أن يهدد حياته . كان كل ذلك يجري بالطبع قبل قرن من أن يثبت أي شخص أن الدم الوريدي والشرياني هما شيء واحد، وقبل نحو قرنين من معرفة أن الدم لا يقتصر على توزيع العناصر الغذائية على الجسم بل والأكسجين كذلك. في الواقع، لم يكن أحد يعلم في ذلك الوقت بوجود الأكسجين أساسا.
وكأن حادثة البابا لم تكن مريعة بالقدر الكافي، فالتاريخ يسجل الأسوأ؛ إذ شهدت المجر عام 1560 مولد فتاة تزوجت في 8 مايو 1575 من الكونت فيرينسز ناداسدي وأصبحت تعرف بإليزابيث كونتيسة باثوري. تقول الأسطورة إنه ذات يوم جذبت خادمة شعر الكونتيسة بغير قصد؛ فكان رد إليزابيث أن صفعتها بقوة لدرجة أنها نزفت. وبعد انتهاء الحادثة، صارت الكونتيسة مقتنعة بأن الجزء الذي غطاه الدم من بشرة الخادمة قد لان؛ فقد كان أكثر نعومة ورقة. بالنسبة إليها، كانت الخصائص السحرية لهذا السائل قوية جدا.
لسوء الحظ، أدى هذا الاستنتاج إلى سلسلة من الأحداث البشعة؛ فقد استدرجت إليزابيث الفتيات القرويات الصغيرات إلى قلعة تشاختيتسة بحافز الحصول على وظيفة وكسب المال. وكانت ثلاث من المتواطئات مع الكونتيسة وهن دوروتيا سينتيز ودارفولا وممرضتها ليلونا جو يستخرجن دم هؤلاء الفتيات ويستخدمن هذا السائل الدموي لتجهيز حمامات لسيدتهن. يبدو أن إحدى الضحايا المحتملات تمكنت من الهرب، وذهبت إلى ملك المجر ماتياس الثاني الذي أمر بالتحقيق. وفي 30 ديسمبر 1610، اقتحم الجنود القلعة، وخلال المحاكمة التي تلت، اعترفت إليزابيث بقتل نحو 650 فتاة من أجل «حمامات تجميلها».
كانت العقوبات مقززة بقدر الجرائم ذاتها وهو طابع ميز هذا العصر؛ فقد تعرضت المساعدات للتعذيب، وقطعت رءوسهن، وحرقت جثثهن. أما الكونتيسة نفسها، فاعتبرت أرقى من تلك المعاملة، وحبست بدلا من ذلك في غرفتها التي أغلقت عليها بجدران حجرية ليس بها إلا فتحة صغيرة يمكن من خلالها إدخال الطعام، وماتت بعد ثلاثة أعوام.
جاء أول ذكر جدي لنقل الدم على لسان الكيميائي الألماني المولد أندرياس ليبافيوس الذي نشر في عام 1615 وصفا دقيقا للطريقة التي رأى أنه ينبغي استخدامها. وذكر في كتابه «ملحق الطريقة الغامضة اللازمة للخيميائيين» باللاتينية وما يلي ترجمة تقريبية:
ائت بشاب سليم قوي غني بالدم الزاخر بالحياة، وكهل واهن لا قوة له يمكنه بالكاد أن يتنفس. فإن أراد الطبيب أن يعيد للثاني حيويته فعليه أن يصنع أنبوبين فضيين يمكن إدخال أحدهما في الآخر، ثم يفتح شريان الشاب السليم ويدخل أحد الأنبوبين فيه ويثبته في الشريان. ثم يمكنك بعد ذلك فتح شريان الشخص المريض، وتثبيت الأنبوب الآخر ذي الطرف الغائر به. بعدها يمكن توصيل الأنبوبين أحدهما بالآخر. وسيرى عندها أن الدم الشرياني للشاب السليم وهو حار ومفعم بالروح يندفع إلى الكهل المريض ويمده فورا بنبع الحياة ويذهب عنه الوهن.
3
وبالدراسة الواعية لما ورد، نجد أن هناك علامات واضحة تذكر بأن ليبافيوس كتب ذلك قبل انتشار أي معرفة بأفكار هارفي عن الدورة الدموية. فهو، على كل حال، قد كتب ما سبق قبل أكثر من عقد على نشر هارفي لفكرته عن دوران الدم في أرجاء الجسم في كتابه «حركة القلب». مع ذلك كان هذا هو الوقت الذي كان هارفي سيبدأ فيه مناقشة أفكاره مع كثيرين وتنتشر أفكاره في الأوساط الأوروبية.
ناپیژندل شوی مخ