وذلك أنه أقبل ذات يوم إلى سوق المربد بالبصرة ، وهو مشهور سوق تحضره الأخيار والسادات والفضلاء والأشراف ، فلما أبصروه قاموا إليه ، وسلموا عليه ورحبوا به .
فقال : ( ما يحبسكم في مجالس الشياطين والعامة والغاغة والسوقة وفيكم الفقهاء والعلماء والشعراء والخطباء والسادة والأمراء ؟ اغدوا بنا إلى قصر ابن أبان فنتروح في ظله ، ونستنشق من نسيمه ، ونتفاوض في العلوم والحكم ونتذاكر أخبار الدنيا والأمم ) .
فقالوا : ( سمعا وطاعة ) . فرجعوا إلى دوابهم وخيلهم وبغالهم وحميرهم فركبوها ، وقصدوا قصر ابن أبان ، فلما وصلوا نزلوا في ظله ، وأكبروه أن يبتدئوه بالسؤال هيبة ، فرفع إليهم رأسه فقال : ( يا وجوه الخير ، من أعقل الناس ؟ ) .
قال بعضهم : ( أهل الصين ) .
فقال : ( بماذا ؟ ) .
فقال بعضهم : ( إن بلادهم تعمل صنائع الدنيا الديباج والحرير والوشي والثياب النفيسة كلها ، وأحكموها ، واستقامت أمور الرعية والجنود والكتاب ، وخراج الأرضين ، وترتيب القرى والمدائن ، فلا يكاد يحدث عندهم أمر من الأمور في جميع مملكة سلطانهم إلا وعنده منه خبر في يومه ، ولا يتوالد مولود ولا يموت ميت وإلا وصل خبره عند الملك ، ذلك اليوم ، أو تلك الليلة ، في مملكة قطرها مسيرة سنة ، وقد أعدوا النجب والخيل والفيوج (2 ) والطيور لمثل ذلك ) .
فقال ابن المقفع : ( هؤلاء قوم علموا فتعلموا ، وتحملوا أمورا فحملوها ، ووقع من الملوك وممن له القدرة عليهم فحملهم على تلك الأمور طوعا أو كرها ) .
ثم قال لهم : ( من أعقل الخلق ؟ ) .
قال بعضهم : ( أهل الهند ) .
قال : ( بماذا ؟ ) .
قالوا : ( إنهم أعقل الخلق في سياسة النفوس في الأغذية والأدوية والحكمة ومعرفة نجوم الأسماء والطوالع والمواليد وسياسة الملوك والبددة ( 3) ، وفيهم تفرع وتدرع علم أبينا آدم صلوات الله عليه وسلامه ) .
مخ ۶۱