الدليل الكبير
مخ ۱۹۱
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وبه نستعين ، وصلواته على خير خلقه أجمعين ، سيدنا محمد (1) وأهل بيته الطاهرين ، وسلم تسليما.
قال الحسين بن القاسم بن إبراهيم : سألت أبي يوما رحمة الله عليه ، عن ما يقال للزنادقة والملحدين ، فيما يسألون عنه من الدليل على الله رب العالمين ، تقدست أسماؤه ، وجل ثناؤه؟!
فقال : سألت يا بني عن أكرم مسائل السائلين ، وعن ما بجهله هلك أكثر قدماء الأولين ، فتخبط فيه منهم عماية من تخبط ، وأفرط بجهله فيه منهم من أفرط ، بغير ما حجة ولا برهان لمنكرهم في إنكاره ، ولا عدم دليل مبين فيما هلك به من احتياره (2)، إلا ما اتبعوا من مضل أهواء الأنفس ، وضلوا به لتقليد أسلافهم من غواة الجن والإنس.
وحجج الله عليهم تبارك وتعالى في العلم به قائمة ظاهرة ، وشواهد معرفته سبحانه لكل من خالفها بإنكار أو احتيار (3) غالبة قاهرة. فالحمد لله ذي الغلبة والسلطان القاهر ، ولمعرفته والعلم به الحجة والبرهان الزاهر.
مخ ۱۹۳
[دليل الحكمة والإتقان] (1)
فدليل العلم بالله يا بني وأعصم (2) أسبابه ، وأقرب ما جعل للعلم به من مداخل أبوابه ، ما أظهر في الأشياء سبحانه من آثار الحكمة المتقنة ، التي لا تكون إلا من مؤثر متقن ، وأبان في الأشياء من شواهد التدبير الحسنة المحكمة ، التي لا تكون إلا من حكيم محسن ، كما قال سبحانه : ( ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم (6) الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين (7) ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين (8) ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ) (9) [السجدة : 6 9]. فكل ما ذكره سبحانه
مخ ۱۹۴
فجعائل لا بد لها من جاعل ، وفعائل لا تقوم أبدا إلا بفاعل ، ولن يوجد جاعلها وفاعلها إلا الله سبحانه ذو الأسماء الحسنى ، البريء من مشابهة الجعائل والفعائل في كل معنى.
ومن أسباب العلم به ودلائله ، بعد الذي أبان من أثر التدبير في جعائله ، أوثق وثائق (1) الأسباب ، مما فطر عليه بنية الألباب ، من العلم البت (2)، واليقين المثبت ، الذي لا يعتري فيه بحقيقة شك ولا مرية ، ولا تعترض فيما جعل من بصائره شبهة معشية (3)، من أن لكل ما أحس أو عقل ، مما أثر سبحانه وجعل ، خلاقا (4) متيقن معلوم ، لا تدركه الحواس ولا الوهوم. يعقل ويعرف بخلاف ما عقلت به الأشياء وعرفت ، فتخالفه ويخالفها بغير ما به في نفسها اختلفت. فهذان أصلان (5) مجملان ، لمعرفة الله عز وجل ثابتان ، وشاهدان عدلان ، على العلم بالله باتان.
[وسائل المعرفة]
ولن يخلو العلم بالله ، والوصول إلى المعرفة بالله (6)، من أن يكون مدركا :
بمباشرة حس فيكون كمحسوس ،
أو يدرك بمباشرة (7) نفس فيكون كبعض ما يدرك من النفوس.
1 وجود المخلوقات المحكمة المتقنة التي لا بد لها من خالق.
2 أن خالقها يجب أن يختلف عنها وأن يعرف بخلاف ما به عرفت.
مخ ۱۹۵
وليعلم من وصل إليه كتابنا هذا في ذكر درك النفس أن فلاسفة الروم ، يزعمون : أن للنفس دركا ليس بدرك الحواس ولا درك الوهوم. ولا سيما عندهم إذا كانت النفس معراة من الأجسام ، ومبرأة مما هي عليه من أوعية الأجرام (1).
أو يدرك من وهم جائل (2)، فيكون كمتوهم بالمخايل (3).
أو يكون دركه سبحانه بظن ، فيكون دركه كالمتظنن (4)، الذي يصيب فيه الظن مرة ويخطي ، ويسرع المتظنن بظنه فيه ويبطئ.
أو يدرك من دليل مبين ، فيكون مدلولا عليه ببت يقين.
أو يكون مدركا سبحانه بحال واحدة دون أحوال ، أو بما (5) يمكن اجتماعه من كل ما وصفنا من الخلال.
أو مدركا بجميع ما قلنا وحددنا ، ووصفنا من الأمور كلها وعددنا.
والإمام القاسم هنا ينقد الفلاسفة اليونان في تعريفهم للنفس حيث ذهب بعضهم إلى ((أنها ليست بجسم ، وإنما هي جوهر بسيط محرك للبدن))، وهو أفلاطون ، وطالما أنها ليست جسما فهي لا تدرك ، كما أن أدوات الإدراك الحسي والعقلي ليست مما تدرك به النفس الأشياء ، وإذا هي تدرك بشيء خارج عن ذلك ، وهو ما يرفضه الإمام القاسم ، فالإدراك إما حسي أو عقلي ، أو حسي عقلي معا ، وليست هناك طريق أخرى للإدراك سوى ذلك ، أما الإدراك الباطني الإلهامي الحدسي الذي يطبع في النفس الإنسانية فهو ظني وغير قطعي ، وهو طريق لا يستقل بذاته عند المعرفة ، ولا يصلح أن يكون طريقا لمعرفة الله. يبقى هنا الإشارة بنقد الإمام القاسم للفلاسفة اليونان ، وهو دليل قاطع على معرفته ، وهضمه للفلسفة القديمة ، ونقده لها في مقابل ما يملكه من معرفة إسلامية راسخة ، لها قواعدها ومفاهيمها آن ذاك ، والتي في ضوءها رفض كون النفس جوهرا ليس بجسم ، لأن الأشياء إما أجسام أو غير أجسام ، والأجسام هي العالم والكون بما فيه ، وكل محدث ، وغير الجسم هو الله ، والأجسام لا تدرك إلا عن طريق أدوات معرفية محددة ومقننة ، أثبتها الله في النفس الإنسانية هي المدارك الحسية والعقلية ، وليس غير ذلك.
مخ ۱۹۶
أو مدركا سبحانه بخلافه لكل محسوس الأشياء ومعقولها ، في جميع ما يدرك (1) من فروع الأشياء وأصولها.
وهذا الباب من خلافه سبحانه لأجزاء الأشياء كلها ، فيما يدرك (2) من فروع الأشياء جميعا وأصلها (3)، فما لا يوجد أبدا إلا بين الأشياء وبينه ، ولا يوصف بها أبدا غيره سبحانه. وهي الصفة (4) التي لا يشاركه عز وجل فيها مشارك ، ولا يملكها عليه تعالى مالك.
ولا يعم جميع (5) الأشياء ما يقع من الاختلاف ، فلن يوجد واقعا إلا بين ذوات الأوصاف. وكل واحد منها وإن خالف غيره في صفة فقد يوافقه في صفة أخرى ، كان مما يعقل أو كان مما يلمس أو يرى. فإن اختلف محسوسان في لون أو طعم ، اتفقا فيما لهما من حدود الجسم ، وإن اختلف معقولان في فعال أو همة ، اتفقا فيما يعقل من أصولهما المتوهمة. كالملائكة والإنس والشياطين التي أصولها في النفسانية واحدة متفقة ، وهممها وأفعالها مختلفة مفترقة.
فهمم الملائكة الاحسان والتسبيح ، وهمم الشياطين العصيان والقبيح ، وهمم أنفس الانس فمختلفة كاختلافها ، في قصدها وإسرافها ، فتحسن مرة وتبر ، وتسيء تارة وتشر (6).
وكل خلق من الملائكة والانس والشياطين فقد جعل الله له صفة متممة ذاتية ، بها
مخ ۱۹۷
بان بعضهم من بعض وكانت لكل من جعلها الله له خاصة صنفية ، فهي لهم وبينهم ولهم اختلاف ، وكلهم بها وبما جعل الله منها أصناف ، بعضهم غير بعض ، كما السماء غير الأرض.
وليس من وراء ما قلنا في الدرك لمعرفة الله والوصول إلى العلم بالله قول ، ولا بعد الذي عددنا وحددنا في أصول المعارف بالله أصل معقول.
ولا بد من النظر لمن أراد يقين المعرفة بالله ، في تصحيح كل ما وصفنا صفة بعد صفة في معرفة الله ، ليأتي المعرفة بالله من بابها ، وليسلم بذلك من شكوك النفس وارتيابها ، فإنه لن تزكو نفس ولن تطيب ، ولن يهتدي امرؤ ولن يصيب ، اعتلج في صدره بالله ريب مريب ، ولا كان فيه لشك في الله نصيب.
فنستعين بالله على معرفته ويقينها ، ونرغب إليه في يقين أوليائه ودينها ، فان ذلك ما لا يثبت لمن ادعاه بدعوى غير ذات بينة ولا أصل ، فضلا عن من كذب دعواه في ذلك من العامة سوء الفعل ، فقال : أعرف الله بلسانه ، وكذب ما ادعى من المعرفة له بكبير عصيانه (1).
فإذا قيل له : بم عرفت ما تزعم ، ومن أين علمت ما تقول إنك تعلم؟!
قال : يا سبحان (2) الله! ومن يجهل الله؟! وهل يسأل أحد عن معرفة الله؟!
وليس عنده من وجوه المعارف التي عددنا كلها وجه! ولا له في الجهل بالله لفاحش عصيانه مثل ولا شبه ، يقول أبدا فيكذب ، ويخوض أبدا ويلعب ، فقوله خوض وزور ، وفعاله فساد وبور ، ولا يصدق قوله بفعال ، ولا يقوم دعواه إلا بمحال ، لا يفهمه عنه لبيب ، ولا يصوب مذهبه فيه مصيب ، كالبهيمة المهملة الراتعة ، التي لا همة لها إلا في مأكل أو متعة ، كما قال الله جل جلاله ، عن أن يحويه قول أو يناله : ( والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم ) [محمد : 12]. وقال سبحانه : ( أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم
مخ ۱۹۸
الغافلون ) [الأعراف : 179]. وقال سبحانه : ( ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون (3)) [الحجر : 3].
فنعوذ بالله يا بني من مثل حالهم ، ونرغب إليه في السلامة من سوء فعالهم ، وحسبنا الله في معرفته دليلا وداعيا ، وموفقا سبحانه للعلم به وهاديا.
[تفصيل طرق المعرفة]
فأول باب :وصفناه من دركه سبحانه بمباشرة الحس ،
والباب الثاني : من دركه سبحانه بمباشرة النفس ،
ففاسد أن يكون الله سبحانه بواحد منهما مدركا أو معروفا ، لأنه إن عرف أو أدرك بما أدركا به أو عرفا كان بصفتهما موصوفا ، يجري عليه ما يجري عليهما ، ويضاف إليه تعالى ما يضاف إليهما ، من تجزئة الكل والأبعاض ، وألم به ما يلم بهما من الآلام والأعراض.
لأن ما يدرك من كل محسوس ، وإن كان خلافا لما يعقل من النفوس ، فلن يخلو من أن يكون خليطين خلطا فامتزجا فتوحدا ، أو أخلاطا كثيرة عدن مزاجا واحدا ، فتبدلن عن حالهن الأولى ، وصرن كونا من الأكوان التي تبلى ، وما كان كونا لزمه ما يلزم الأكوان ، ولم يتقدم الحركة ولا الأزمان ، وكان فيهما محظورا ، وبما حصرهما (1) من الحدث محصورا.
وحدث الحركة والزمان (2)، وقرائنهما من الجسم والصورة والمكان ، فما لا ينكره إلا بمكابرة لعقله ، أو فاحش مستنكر من جهله من سلمت من الخبل نفسه ، ونجت من نقص الآفات حواسه.
وكل نفس فذات قوى شتى مختلفة ، كل صفة منها فسوى غيرها من كل صفة ،
مخ ۱۹۹
واختلاف قوى كل نفس فمعروف غير منكر ، منها التوهم (1) والفكر ، وغيرهما من التذكر والخطر (2).
وقوى كل نفس فمتممة لها ، لا يمكن أن تزايلها ، لأنها (3) إن زايلتها قوة من قواها المتممة لكونها ، وما وصفناه من محدود كمال شئونها ، كان في ذلك من زواله زوالها ، وزال عن النفس بزواله عنها كمالها ، وفنيت النفس بفنائه ، ولم تبق النفس بعد بلائه.
ألا ترى أن قوى النفس المتممة لكونها ، ومحدود كمال شئونها ، كحر الشمس ونورها ، وغيرهما مما لا قوام للشمس دونه من أمورها ، وكذلك قوى النار في إحراقها وحرها ، كقوى النفس في توهمها وذكرها ، فإن فني حر الشمس أو نورها فنيت ، وإن بلي إسخان النار أو إحراقها بليت ، وكذلك النفس إن زايلها ، ما جعله الله من القوى لها ، فزال فكرها عنها ، أو فني توهمها منها ، فنيت بفنائه ، وبليت مع بلائه.
وفي ذلك ، إذا كان كذلك ، دليل مبين ، وعلم ثابت صحيح يقين ، أن (4) النفس كثيرة عددا ، وأنها ليست شيئا واحدا ، فكل نفس فغير واحدة ، ولكنها كثيرة ذات عدة (5)، والله تبارك وتعالى فواحد فرد ، وقوته فمفردة ليس لها حد ، ومن لم يكن واحدا فردا ، ونهاية في الدرك صمدا ، كان متحادا معدودا ، وأشتاتا متناهيا محدودا.
والباب الثالث : من دركه سبحانه بمخائل الأوهام ، ففاسد لتشبيهه فيه (6) بمتوهم مخايل الأجسام.
والباب الرابع : من دركه سبحانه بالظن فقد يمكن ويكون ، إذ كانت قد تخطئ وتصيب الظنون.
مخ ۲۰۰
فصواب الظن في أنه قد (1) يصيب فيه سبحانه ، وخطأ الظن فيه فمنحى (2) عنه مقطوعة الأسباب فيما بينها وبينه.
والباب الخامس : من دركه سبحانه بالدلالة فموجود لا يعنف ، وصحيح ثابت في الألباب (3) لا يختلف.
والباب السادس : من دركه سبحانه بحال واحدة مما عددنا ، ففاسد فيه تبارك وتعالى بما أفسدنا.
والباب السابع : من دركه سبحانه بكل ما عددنا وحددنا من الخلال ، فأحول ما يتوهم من وجوه المحال ، لما يجمع مما لا يجتمع في حس ولا عقل ولا وهم ، وفي ذلك أن يكون كذلك أعدم العدم!!
والباب الثامن : معرفته سبحانه بخلاف الأشياء كلها فلباب كل لباب ، وأصح ما يدركه به سبحانه من خلقه أولو الألباب ، لأنه إذا صح أنه غير مدرك سبحانه بدرك هذه الأشياء وأوصافها ، وكان لا بد لمن أدرك هذه الأشياء دركا صحيحا من أن يكون مدركا بصحة لخلافها ، بيقين من دركه لها مبتوت ، كدرك الحياة وخلافها من الموت ، ودرك الصحة وخلافها من السقم ، ودرك الشباب وخلافه من الهرم ، وغير ذلك من اختلاف الأشياء كلها ، وما يوجد لها من الاختلاف في فرعها وأصلها ، وإذا كان ذلك كذلك ، وصح ما ذكرنا في النفوس من ذلك ، كان واجبا وجوب اضطرار ، وثابتا من النفوس في أثبت قرار ، دركه سبحانه ووجده عند دركها ووجودها ، إذ هو خلاف سبحانه لكل ما يوجد من موجودها.
فإن قال قائل : فلم لا تجعل خلاف الأشياء كلها العدم؟! فقد يحيط بخلافه للأشياء كلها الوهم؟!.
مخ ۲۰۱
قلنا : إن العدم ليس بمعنى موجود ، وليس مما له إنية (1) ولا حدود ، وإنما مطلبنا فيما قلنا ، للخلاف بين ما قد عقلنا ، من ذوات الإنية الموجودة الثابتة بالحس ، أو الشهادة الباتة من درك النفس ، أو ما يدرك خلافا لهما جميعا ، فيوجد أثر تدبيره بينا (2) فيهما معا.
فأما ما ليس بذي أيس ، (3) ولا يدرك درك محسوس ، ولا يعرف بفرع ولا سوس (4)، ولا يبين عن نفسه بأثر من تدبير ، ولا يستدل على وجوده بدليل منير فليس فيه لنا مطلب ، ولا لنا إليه بحمد الله مذهب ، وإنما قولنا في العدم ، إنه خلاف في الوهم ، لا في حقيقة للعدم موجودة ، ولا عين منه قائمة ولا محدودة ، وإنما (5) يطلب خلاف الأشياء كلها في حقائق الأعيان ، بما يدرك في العقل والعلم من الاختلاف ببت الايقان ، وكذلك وجدنا الاختلاف الصحيح اليقين يكون ، بين ما يحس أو يعقل من الأشياء التي لها كون ، فأما العدم الذي هو ليس (6)، والذي لم يتوهم له قط أيس ، فليس في بعده من أن يقال : مختلف بحقيقة أو مؤتلف وهم ، وليس لأحد علينا والحمد لله في اختلاف منه ولا ائتلاف متكلم ، هو غير ذي شك عدم الأعدام ، ولا (7) يرتفع عنه إلا بعبارة المنطق (8) نطق الكلام.
مخ ۲۰۲
[دلالة الآيات الكونية على وجود الله]
والحمد لله على ما جعل لنا من السبيل بما قلنا وغيره إلى معرفته ، ودلنا عليه في محكم القرآن منا وإحسانا من صفته ، فقال سبحانه فيما عرفنا ، منه وثبت لنا ، من أنه يعرف بالأعلام القائمة الدالة ، والشهادات القاطعة العادلة ، التي لم تبرح في الأنفس والآفاق شاهدة مشهودة ، ولم تزل في السماوات والأرض وما بينهما من (1) سالف الأحقاب قائمة موجودة ، تشير إلى معرفته بكف وبنان ، وتومئ إلى العلم بالله لكل من (2) له قلب وعينان ، كما قال الله سبحانه : ( وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ) (105) [يوسف : 105]. وقال سبحانه : ( وفي الأرض آيات للموقنين (20) وفي أنفسكم أفلا تبصرون (21) وفي السماء رزقكم وما توعدون (22) فو رب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ) (23) [الذاريات : 20 23]. وقال سبحانه : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ) (53) [فصلت : 53]. فمن شهادته سبحانه لها أنه (3) لما كان منها مدبر مريد ، ثم قرر لنا سبحانه شهادة دلائله ، بما أظهر في السماوات والأرض والأنفس من أثر جعائله ، بتوقيف منبه لكل بصير حي ، وتعريف لا يجهل بعده إلا كل ضليل عمي ، فقال سبحانه في توقيفه ، وما نبه من تعريفه : ( إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون (95) فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم (96) وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون (97) وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون (98) وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه
مخ ۲۰۳
خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ) (99) [الأنعام : 95 99]. ففلق (1) الحب يا بني والنوى والاصباح ، وإخراج (2) الحي من الميت والميت من الحي بأوضح الايضاح ، وما جعل من الليل سكنا ، ولباسا مكنا (3)، ومن الشمس والقمر حسبانا معدودا ، وما جعل في النجوم للسارين من الهدى ، وإنشاء البشر من نفس واحدة ، فما لا تنكره فرقة ملحدة ولا غير ملحدة. وما استودع منهم في الأرحام والأصلاب ، وما استقر منهم في قرار الأرض وعلى متن التراب ، وما أنزل من الماء ، من جو السماء ، وما أخرج به من خضر الألوان المختلفة ، وأصناف الحبوب المتراكبة المتصنفة ، وما أخرج به من النخل وطلعها ، وقنوانها الدانية عند ينعها ، وما أخرج به من جنات الأعناب ذوات الألوان ، وما تشابه أو لم يتشابه من الزيتون والرمان فمعاين كله بما قال الله فيه مشهود ، بين فيه كله أثر صنع الله موجود ، لا يقدر أحد له بحجة على إنكار ، ولا يمتنع حكيم على الله فيه من إقرار.
ومن توقيفه سبحانه المكرم ، وتعليمه تبارك وتعالى المحكم ، قوله : ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون (31) فذلكم الله ربكم الحق فما ذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون (32)) [يونس : 31 32].
وكل ما ذكر الله سبحانه من هذا كله (4) فقد علمنا بيقين ، وأدركنا بقلب وعين ، أنه مرزوق غير رازق ، ومخلوق ليس لنفسه بخالق ، ومملوك غير مالك من نفسه بشيء ، ومخرج ومحيا غير مخرج لنفسه ولا محيي ، وكل أمر السماء والأرض فقد يعاين
مخ ۲۰۴
مدبرا غير مدبر ، ويرى أثرا بأبين شواهد التأثير من مؤثر ، فلا بد ببت اليقين من رازق ما يرى من الأرزاق ، ومدبر ما يعاين من أثر التدبير في السماوات والآفاق ، ومالك ما يرى مملوكا غير مالك من السمع والأبصار ، ومخرج الحي من الميت والميت من الحي بمواقيت وأقدار ، ولا بد من مدبر الأمر الأعم الكلي ، ولن يوجد ذلك (1) إلا الله الأعلى فوق كل علي.
ومن ذلك أيضا فقوله تبارك وتعالى : ( أفرأيتم ما تمنون (58) أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون (59)) [الواقعة : 58 59]. فالله سبحانه هو الخالق ونحن الممنون ، ليس لنا في ذلك غير إمناء المني من صنع ، ولا نقدر بعده لما قدر بيننا من الموت على منع ، فتقدير صنعنا كله وتدبيره ، وتبديل خلقنا إن شاء خالقنا وتغييره ، إلى من تولاه دوننا ، وكان منه لا منا ، كما قال سبحانه : ( نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين (60) على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون (61) ولقد علمتم النشأة الأولى فلو لا تذكرون (62)) [الواقعة : 60 62]. فقرر سبحانه بمعلوم غير مجهول ، وذكر بما لا ينكره سليم العقول ، من نشأة الصنع الأولى ، فتبارك الله العلي الأعلى.
ثم قال سبحانه : ( أفرأيتم ما تحرثون (63) أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ) (64) [الواقعة : 63 64]. فالله هو الزارع ونحن الحارثون. ليس لنا في الزرع سوى حرثه من حيلة موجودة ولا معدومة ، ولا نقدر بعد الحرث له على إنشاء منه لسنبلة محمودة ولا مذمومة ، وقدرتنا فإنما هي على الحرث والاعتمال ، وعلى خلافهما من الترك والاغفال ، وكذلك فلله من القدرة بعد على إبطال الزرع وبلائه ، مثل الذي كان له من القدرة قبل على تثميره وإنمائه ، ولا يقدر على أمر إلا من يقدر على خلافه ، وعلى فعل كل ما كان من نوعه وأصنافه ، فمن لم يكن كذلك ، وتصح صفته بذلك ، كان بريا من القدرة عليه ، وكان العجز في ذلك منسوبا إليه ، كما قال سبحانه ، في الزرع بعد إكماله : ( لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون (65) إنا لمغرمون (66) بل نحن محرومون ) (67) [الواقعة : 65 67]. وكذلك إعذاب الماء ، وما
مخ ۲۰۵
يعاين من تنزيله من جو السماء ، فلا يقدر على إعذاب الماء وإنزاله ، إلا من يقد على إيجاجه (1) وإقلاله ، كما قال الله سبحانه : ( أفرأيتم الماء الذي تشربون (68) أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون (69) لو نشاء جعلناه أجاجا فلو لا تشكرون ) (70) [الواقعة : 68 70]. وكل فعل فرع لا يتم إلا بأصله ، ففاعل الأصل أولى بفعل فرع أصله ، كشجرة (2) النار ، وأصول الأشجار ، التي هي من الأرض والماء ، والجو والسماء.
فصنع هذه الفروع لمن كان له صنع الأصول ، لا ينكر ذلك منكر ولا يدفعه إلا بمكابرة فطر (3) العقول ، كما قال الله سبحانه : ( أفرأيتم النار التي تورون (71) أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشؤن (72) نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين ) (73) [الواقعة: 71 73]. فكل ما نبه به (4) من هذا ودل عليه ، فداع من معرفته سبحانه إلى ما دعا إليه.
ومن ذلك أيضا ، فقوله تبارك وتعالى : ( اعلموا أن الله يحي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ) (17) [الحديد : 17]. فإذا كانت حياة الأرض بعد موتها موجودة ، وميتتها التي كانت تعلم قبل حياتها مفقودة ، فلا بد اضطرارا ثابتا ، ويقينا لا تدفعه النفوس باتا ، من إثبات مميتها ومحييها ، إذ بان أثر تدبيره فيها ، بأكثر مما (5) يعقل من الآثار ، وأكبر مما (6) تعرفه النفوس من الأقدار ، مما لم ير له في (7) الحياة قط مؤثر ، ولم يوجد له (8) من المدبرين قط مدبر ، إلا من يزعم أنه من الله لا منه ، ومن يقر أنه منه يقر أنه من الله دونه ، مثل المسيح بن مريم ، وغيره ممن أعطيه من ولد آدم.
مخ ۲۰۶
ومن تعريفه القريب ، وتوقيفه العجيب ، قوله سبحانه : ( قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون (84) سيقولون لله قل أفلا تذكرون ) (85) [المؤمنون : 84 85]. فلما كانت الأرض مملوكة ومن فيها ، بما تبين من أثر الملك عليها ، ثبت مالكها عند معاينتها غير مدفوع ، ووجد صانعها باضطرار غير مصنوع.
ومن توقيفه ، أيضا وتعريفه ، قوله سبحانه : ( قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم (86)) [المؤمنون : 86]. فلما وجد ما وقف الله سبحانه عليه من ذلك مربوبا غير متمنع ، بما تبين فيه من شواهد كل مربوب متخشع ، وجد ربها كلها بيقين مبتوت عند وجودها ، وشهد له بالربوبية ما شهد بالصنع عليها من شهودها.
ثم قال سبحانه لتوقيفه وتعريفه مرددا ، وعليهم بما لا تدفعه النفوس من الشهود (1) مستشهدا : ( قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون ) (88) [المؤمنون : 88]. فلما كان كل شيء يحس بحس ، أو يعقل إن لم يكن محسوسا بنفس ، في قبضة محيطة به من قدرة وملكوت ، بما لا يدفعه (2) عن نفسه من بلاء أو موت ، كان مليك الملكوت للأشياء كلها معلوما باضطرار ، من يجير ولا يجار عليه إذ الملكوت كلها له غير ممتنعة منه (3) بجار.
ومما يقظ به سبحانه لمعرفته ، ودل منه بأوضح دليل على ربوبيته ، وما تفرد به من صنع البدائع ، وتوحد بابتداعه من بدع الصنائع ، قوله سبحانه : ( والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير ) (11) [فاطر : 11].
فلما أن كان خلق أبينا ، الذي هو أول إنشائنا ، وهو آدم ، الأب المقدم ، مما ذكر الله تبارك وتعالى أنه ابتدأه منه من التراب ، كنا مخلوقين مما خلق منه وإن نحن جرينا بعده نطفا في الأصلاب.
مخ ۲۰۷
والدليل البت اليقين ، الشاهد العدل المبين ، على أن آدم عليه السلام بدئ من التراب وخلق ، مصير نسله ترابا إذا بلي وفرق ، وكل مركب انتقض من الأشياء ، فعاد إلى شيء عند (1) تنقضه بالفرقة والبلى ، فمنه ركب وخلق غير شك ولا امتراء ، كالثلج والجليد ، والبرد الشديد ، الذي يعود كل واحد منهما إذا انتقض وفرق ، إلى ما ركب منه من المياه وخلق ، وكمركب الأشجار والحبوب وغيرهما من ضروب الأغذية ، التي تعود عند بلائها إلى ما ركبت منه من الأرضين والمياه والنيران والأهوية.
وآدم عليه السلام في أنه من تراب وإن كان كمالا وأبا كأولاده ، يجري عليه في أنه من تراب ما يجري على أجزائه وآحاده (2)، وما يعاين من معاد أنساله ، التي هي أجزاؤه من كماله ، إلى الرفات الجامد ، والتراب الهامد ، يلحق به مثله ، إذ هم جزؤه ونسله ، وما لحق بالأجزاء ، من الموت والبلاء ، فلا حق لا محالة بالكمال ، والكمال (3) والأجزاء فجارية منه على مثال ، إذ كانت أشباها متماثلة ، وأمثالا لا يجهل تماثلها متعادلة! وأما يقين خلقه إيانا سبحانه من نطفة ، وما جعل منا أزواجا مختلفة ، في الخلقة غير مؤتلفة ، فمعاين فينا معلوم ، لا تدفعه العيان ولا الحلوم. ألا ترى أن النطفة لو لم تكن لما كنت ، ولو عدمت إذن لعدمت. وما كان إذا عدم عدمت ، فمنه غير شك خلقت وقومت. ألا ترى أن كون المرعى والأشجار ، مما ينزل الله لها من المياه والأمطار ، فإذا عدم الماء والمطر ، هلك المرعى والشجر ، أولا ترى أن كل ثمرة فمن شجراتها ، فإذا عدمت الشجرات عدمت ثمراتها.
وما عجب الله به سبحانه من صنعه في تكثيره منه للقليل المفرد ، ونشره تبارك وتعالى للكثير من واحد العدد ، فأعجب عجاب ، عجب له من خلقه أولو الألباب ، بينا نحن تراب ميت إذ أحيانا ، ونطفة واحدة إذ كثرنا فأثرانا ، فجعل سبحانه منا بنطفة تمنى ، ذكرا يعاين وأنثى ، حكمة منه سبحانه لا عبثا ، كما قال تبارك وتعالى : ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى (36) ألم يك نطفة من مني يمنى (37) ثم كان علقة
مخ ۲۰۸
فخلق فسوى (38) فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى (39) أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ) (40) [القيامة : 36 40].
فصرفنا بعد خلق خلقا ، ترابا ثم نطفة ثم تارة علقا ، تصاريف لا يدعي على الله فيها مدع دعوى ، فيعلن بدعواه فيها ولا يسر (1) بها نجوى ، تبريا إلى الله الخالق منها ، وتضاؤلا في جميع الأشياء عنها.
وكل هذه التصاريف فلا بد لها من مصرف ، وما عدد من شتيت الأصناف فلا بد لها من مصنف ، لا تدفع الألباب وجوده ، ولا يكذب إلا كاذب شهوده.
وما ذكر سبحانه من حمل كل أنثى ووضعها بعلمه ، فما لا ينكره أحد وهبه الله حكمة من حكمه ، وما لا يأباه منقوص بعد التقرير إلا بمكابرة منه لعقله ، مع الاقرار منه لنا صاغرا راغما بمثله ، وإذا كان بمثله مقرا ، كان بإنكاره له مكابرا ، بل يعطى فيأبى (2)، إلا مجانة وألعابا ، إنما هو أصغر صغرا ، وأيسر أضعافا قدرا ، من حمل الأنثى ووضعها ، وتأليف أعضاء الولدان وجمعها ، وما فيها من حسن التصوير ، وداخل معها في (3) لطيف التدبير ، لا يقوم معتدلا ، ولا يبقى متصلا ، طرف (4) عين ، بأيقن يقين ، إلا بعلم من عليم ، وتدبير متقن من حكيم ، لا تلم به سنة ولا نوم ، ولا تنازعه الأشغال ولا الهموم.
وكذلك تعمير المعمر ، وما ينقص له من عمر ، فلا يكون أبدا إلا في كتاب ، إذ كانت الأيام والليالي بحساب ، ولا يكون نقص العمر وزيادته ، إلا لمن به قوامه ومادته ، ممن (5) يدبر الأيام والليالي ، ولن يوجد ذلك إلا عن الله الكبير المتعالي ، ولا (6) يكون كتاب ذلك الذي هو علمه على من وسع الأشياء كلها تدبيرا ، إلا خفيفا لا
مخ ۲۰۹
يؤده حفظه عليه تبارك وتعالى كما قال : يسيرا ، ثم أخبر سبحانه صدقا ، ونبأ في كتابه حقا ، بقدرته على أن يخلق من الأشتات المختلفة ، واحدا غير مختلف في الصفة ، لأنه من قدر على خلق الأشتات من المؤتلف الذي لا يختلف ، قدر على خلق الواحد المشتبه من الأشتات التي لا تأتلف ، كخلقه سبحانه لأحدان (1)، ما خلق من الدر واللحمان ، من مختلف البحار وأشتاتها ، بأبين اختلاف من أجاجها وفراتها. فجعل سبحانه منها ، مع خلافه بينها ، لحما واحدا مشتبها طريا ، ولباسا واحدا من الدر حسنا بهيا ، وحمل سبحانه على ظهورها ، مع خلافه بينها في أمورها ، الفلك المشحون السائر ، وردها بعد التفريغ فيه مواخر (2)، ليعلم من عجيب تدبير أمرها ، واختلاف (3) الحال في مسيرها ، إذ تسير شاحنة مالية ، كما تسير ماخرة خالية ، وإذ تسير بحاليها جميعا في أجاج البحار ، كما تسير بهما في فرات الأنهار أن لها لمسيرا لا تختلف في قوته الأشياء ، ومدبرا قويا لا تساويه الأقوياء ، وأن تسييرها مقبلة ومدبرة ، وشاحنة في البحرين وماخرة ، إلى من يدبر ما سارت به من مختلف الرياح المسيرات ، ومن يملك ما جرت فيه من الماء الأجاج والفرات ، ومن له ملك ما لو لا هو لم تكن الرياح الجاريات ، ولم يوجد الملح (4) من المياه ولا الفرات.
ومن إيلاجه سبحانه الليل في النهار ، وما قدر بهما من المواقيت والأقدار ، وتسخيره سبحانه للشمس والقمر ، اللذين بهما دبر مسير الفلك في البحار كل مدبر ، كان لتدبيره في المسير بهما في بحر حكمة ، أو فيهما (5) لفلك بعد الله من نجاة عصمة ، لما جعل سبحانه فيهما من الضياء ، وبصر بهما في المسير من القصد للأشياء ، وبصر تبارك وتعالى بغيرهما ، إذ فقد (6) في ظلم الليل ما جعل من البصر بتسخيرهما ، من
مخ ۲۱۰
النجوم السير التي جعلها الله هدى للسارين (1) في الظلمات ، سروا في البحار أو كان سراهم في الفلوات. كما قال الله سبحانه : ( وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون (97)) [الأنعام : 97].
وتسخير ما ذكر الله سبحانه من الشمس والقمر ، وتسخيره لغيرهما من النجوم السير ، فظاهر بحمد الله غير متوار ولا خفي ، يبصره عيانا كل ذي عقل حيي ، لما فيها من آيات التسخير ، وبين ما (2) معها من دليل التدبير ، بتفاوت نورها ، وغيره من أمورها ، في السرعة والإبطاء ، والظهور والخفاء ، والرجوع والتحير ، والدأب (3) في التدور ، فهي راجعة في المسير ومتحيرة ، ومقبلة بالدءوب (4) ومدبرة ، فهذه حال المسخر غير مرية ولا شك ، جرى بها فلكها أو كانت جارية بأنفسها في الفلك. والتفاوت بينها (5) في الضياء ، فكغيره من التفاوت بين الأشياء ، ولا يقع حكم التفاوت ، أبدا بين متفاوت ، إلا كان له وفيه ، من فاوت (6) بينه في حاليه ، وكان مملوكا اضطرارا غير مالك ، وكان ملكه لمن أسلكه من التفاوت في تلك المسالك. وكذلك حال (7) تفاوت هذه النجوم ، يجري من الله فيه (8) بحكم محكوم ، ولله سبحانه من (9) ملك كل نجم وفلك ماله من ملك كل مملوك ، والحمد لله إله الآلهة وملك الملوك ، ومدبر كل نجم وغيره ، بما لا يخفى من أثر تدبيره ، في الهيئة والتصوير ، والمقام والتحيير والتيسير ، ذلك قوله سبحانه فيما وصفنا من قدرته على خلق الواحد المشتبه من شتيت الأصناف ،
مخ ۲۱۱