ولكننا في كل هذه الروايات الفكهة لا يخامرنا - لحظة - الشك في أن النهاية ستأتي سعيدة، والخواتيم ستعود موفقة حسنة، وهذا هو ما نلمسه من بداية قصتنا هذه؛ فليس ثمة مخادعة تضللنا، ولا خطأ يواجهنا، ولا مباغتة تبدهنا قبل أن نستعد لها، ولا أزمة نجهل سرها كما يجهلها أبطالها، بل كل أكذوبة تقال نعرفها قبل سماعها، ولا نشك في أنها ستكشف وتبدو مع السياق حقيقتها. ففي قصة الكيد الذي كيد لهيرو تبدو الحوادث في ظواهرها محزنة، ويراها أشخاص القصة أنفسهم كذلك، أما نحن الذين نعرف دقائقها، فلا نجهل أنها لا تزال في الدائرة التي تستمد منها «المسلاة» مادتها؛ لأن المأساة هنا تأتي إلينا بعد استعداد تمهيدي لها، فلا يصاحبها انفجار فجائي، ولا يقتضي الموقف خاتمة مخففة من وقعه، كما يحدث في أحد فصول «تاجر البندقية».
ويصح لنا هنا أن نصف قصتنا هذه بقولنا إنها قصة تدور حول «مخادعة النفس»؛ لأن شخصيتين فيها، وهما بياتريس وبنيديك يظلان محاولين معرفة قلبيهما، وكشف خبيئة عاطفتيهما. وفي هذا النوع من المسرحيات لا غنى للمؤلف عن البدار إلى تعريف النظارة بالأمر ليكونوا طيلة الوقت أعرف به من أشخاصها. وقد عرفنا من مطالعها فعلا أن بياتريس تحاول جاهدة إخفاء عاطفة صادقة، فلا نلبث أن نحس أن هذه الساخرة المتهكمة العابثة لن تمضي في عبثها إلى النهاية، بل ستنقلب إلى الجد، وترفع الستر عن خدر حبها الدفين.
وإذا نحن تذكرنا هذا كله، استطعنا أن نفهم نقد الشاعر كولريدج لشكسبير من ناحية عنصر «الحادثة» في رواياته، فهو القائل: «إن كل اهتمامنا بالحادثة عند شكسبير منصب على الأشخاص، لا عليها بالذات، كما هو الحال في روايات الكتاب الآخرين جميعا. فليست الحادثة عنده إلا قطعة من قماش يرسم عليها أشخاصه، ومن هنا ينهض الشفيع له في رسم شخصيتي بياتريس وبنيديك من نسق واحد وإبرازهما متماثلتين في نزعة الغرور والكبرياء، وإذا أنت نزعت من هذه القصة كل ما هو تزيد ظاهر، وحشو لا ضرورة له، أو ليس ثمة حاجة بالغة إليه، أو على أحسن الفروض، شخصيات الشرطي وزملائه الذين أدخلوا عليها افتعالا، وكان أقل منهم غباء كأشراط وحراس وافين بالغرض، فماذا يبقى بعد ذلك فيها.
لقد شهدنا في روايات الكتاب الآخرين أن المحرك الأكبر في «الحادثة» أو «العقدة» هو دائما البطل أو الشخصية البارزة، أما عند شكسبير فليس الأمر أبدا كذلك. وقد يكون أحيانا كذلك؛ أي أن الشخصية ذاتها هي التي تتألف الحادثة منها، أو قد لا تتألف. فقد جعل شكسبير «دون جون» في هذه القصة الأصل في الحادثة، ولكنه جاء به عارضا، ثم سحبه فلم يعد يسوقه إلينا وإن بدا العنصر «الشرير» فيها. وتركه شكسبير بغير مبرر للشر الذي ينزع إليه، أكثر من وصفه بأنه أخ غير شرعي للأمير، وشخص سوداوي حاقد مريض العاطفة. وعجيب من الشاعر الذي خلق لنا بعد ذلك شخصية «ياجو» في رواية «عطيل» أن يدع «دون جون» بغير دافع ظاهر، أو شفاعة واضحة.
والظاهر أن النقاد لم يفهموا شخصية «بياتريس» على حقيقتها، لقد وصفها الشاعر «كاميل» بأنها «مستهجنة»، وأن المرأة الطبيعية لا يمكن أن تكون كذلك. ومن قبله ذهبت كاتبة تدعى «مسز أنشبالد» تقول: «لو كان عند بنيديك وبياتريس أدب، أو ذوق، أو رفعة خلق، وأبيا أن يسترقا السمع على غيرهما؛ لجمدت القصة في مكانها، أو لاقتضت طريقة أخرى للسير بها في مجرى صالح».
ولم نكن نرتقب من «جول ليمتر» النقادة الفرنسي الكبير أن يسير في هذا الطريق ذاته، فيقول عن بنيديك وبياتريس إنهما «لا يطاقان» بل همجيان يرميان إلى الترائي بالمجون والذكاء، و«حيوانان ماكران» ...
ولكن الرد على هؤلاء النقاد يسير؛ وهو أن شكسبير في مطارحات الحب يجري على طريقة واحدة، في مختلف مسرحياته، وهي طريقة «اللف والدوران» أو الاستخفاء، فقد اتخذها في «جهد حب ضائع» وفي «عطيل»، بل أيضا في «روميو وچولييت» حين جعل الشرفة فاصلا بينهما، ولا يمكن أن يفوتنا من بداية قصتنا أن بياتريس امرأة، وأنها ينبغي أن يظفر بها، بل لا نتصور لحظة واحدة أنها قد قدر عليها أن تجلس في ناحية باكية والهة منادية «ألا من زوج ... ألا من زوج!» فإن كل نكاتها الساخرة تدور حول هذا الأمر بالذات، كما لا يفوتنا من البداية أن «بنيديك» هو الرجل الذي تريده وأنه الفتى الذي قدر لها أن تحبه.
وليست مجانتهما في الواقع إلا مجانة شكسبير نفسه، ولو جردنا أنفسنا من «الوثنية»، أو عبادة العبقرية عند التحدث في أبلغ مراتب الإعجاب عن شكسبير لأقررنا أن مجونه - كما يبدو على ألسنة شخصياته المضحكة، ومهاذير قصصه - كان المادة التي تتألف منها الأساليب الشائعة في بلاط الملوك على عهده، ومجالس الأشراف والعلية في زمانه. ولنتصور فتى من الريف تلوح عليه مخايل الذكاء، أو بوادر العبقرية، جاء إلى لندن ليجرب فيها حظه، فإذا هو يجد لهجة الكلام بين السادات، وأهل البلاط، وعلى المسرح الملكي ذاته، ملأى بفنون «التورية» و«الجناس» والكلام المنمق، فلا غرو وهو الفتى المتلهف على الظفر بمكانة مرموقة إذا هو التقط هذا النوع من الكلام، وراح يحذقه ويبرع في فنونه، ويملأ مسرحياته الفكهة بأعجب ألوانه.
ولسنا ننكر أن في مطالع هذه القصة التي ننقلها شيئا من التنكيت «الرخيص ». ولكن إذا نحن نفيناه منها، أو (غربلناه)، وراعينا أن بياتريس وبنيديك لم يكن بينهما غير «مراشقات» بالنكت، ووقفنا عند مشهدهما وهما يكشفان عن قلبيهما الصادقين عقب انصراف الجمع من الكنيسة، أدركنا مدى التأثير الذي يتجلى من خلال ذلك التظاهر بالسخرية، واصطناع الاستهزاء المتبادل بينهما.
ويروى أن جماعة من الأطفال والولدان شاهدوا هذه الرواية تمثل على المسرح، وكان أحد الممثلين القديرين يؤدي دور «بنيديك»، فلما انتهى التمثيل وصحب الأطفال إلى المحطة أحد مدرسيهم، وقفت صبية فوق الإفريز ورفعت صوتها، كأنها من فرط السرور في غيبوبة، قائلة: «لا يتصور أحد رجلا بديعا على هذه الصورة ...» وهي شهادة توحي بأن أحسن ما في شكسبير لا يزال شيئا يستطيع الطفل أن يقرأه، أو كما قال الأديب «تشارلس لام»: «درسا مليئا بكل خيال بديع، ورأي جميل، وفعل نبيل ...»
ناپیژندل شوی مخ