فعدل البابا عن رأيه، وأظهر بعض التساهل حتى آمل آل سنسي النجاة من الإعدام، بل أراهم البابا بارقة من هذا الأمل، ففرح أهل روما وشاركوا هذه الأسرة البائسة في سرورها. لولا أن حدثت بعد ذلك حوادث أطفأت نور ذلك الأمل، إذ غيرت عواطف البابا؛ ذلك أن إحدى شريفات روما - وهي تدعى المركيزة دي سنتا كروسي - قتلها ابنها وهي في الستين من عمرها، فطعنها نحو عشرين طعنة بالخنجر؛ لأنها لم تشأ أن توصي له بكل مالها من بعدها ثم هرب القاتل.
فلما بلغت هذه الجريمة مسامع البابا رآها أخت سابقتها، فخشي أن تكثر أمثال هذه الجرائم إن تساهل فيها، وكان مضطرا للسفر الغد إلى مونتي كافالو لتكريس كردينال، فدعا في الساعة الثامنة من صباح الغد، وكان العاشر من شهر سبتمبر سنة 1599، حاكم روما السيد تافرنا وقال له: أيها السيد، إنا عاهدون لك بقضية آل سنسي لتحكم فيها بما تقتضيه العدالة في أقرب حين.
فعاد الحاكم إلى قصره بعد أن ترك البابا، ودعا لديه قضاة المدينة، فأقروا جميعا على إعدام آل سنسي، وما لبث هذا الحكم أن أعلن، فعلم به القوم، وكان للمحكوم عليهم - كما أسلفنا - منزلة في القلوب، فخرج كثير من الكرادلة ليلا على خيولهم وعرباتهم يسعون لدى القضاة في تخفيف الحكم أو على الأقل في التنفيذ على المرأتين في السجن بدل إعدامهما علنا أمام الناس، ويسعى بعضهم لطلب العفو عن برناردينو حيث لا يد له في الجريمة، وهو غلام لم يتم الخامسة عشرة، وقد شملته النقمة التي حلت بأسرته، وكان أكثر الناس اهتماما بالأمر الكردينال سفورزا، لكنه لم يحصل على غاية بل ولا شبه وعد من البابا، واهتم فارنياتشي فأظهر لقداسته مبلغ الظلم من تضحية برناردينو بلا ذنب جناه، ولكنه لم ينل العفو عنه إلا بعد إلحاح كثير ورجاء طويل.
واستعد القوم لتنفيذ الحكم، واجتمعت الجموع على أبواب السجن، وفي الساعة الخامسة من صباح يوم السبت دخل الكاتب إلى سجن النساء، وكانت بياتريس وزوجة أبيها راقدتين فأيقظهما وتلا عليهما الحكم، ونصح لهما أن تتجهزا لمقابلة الملك الديان، فاضطربت بياتريس وخرست حتى عن التأوه، وأرتج عليها، فلم تدر ما تفعل فهبت من مرقدها دون أن ترتدي ثيابها، ووقفت وهي لا تملك نفسها كأنها ثملة، ثم ما لبثت أن انفكت عقدة لسانها فأخذت تصيح وتزأر، أما لوكريزيا فأصغت إلى تلاوة الحكم بثبات، ثم أخذت ترتدي لباسها لتحضر الصلاة في كنيسة السجن، وأخذت تصبر بياتريس على أمر الله فلم تطق الفتاة صبرا، وأخذت تعض في ذراعيها وتقرع رأسها في الحائط قائلة: «أأموت، أأموت، هكذا قضي علي أن أموت على حين غفلة، وأموت على المشنقة، على المجزرة، يا رباه، يا رباه!» ثم تولتها نوبة عصبية شديدة أفقدتها قواها. ولما أفاقت استولت الروح على الجسم، وعاد لها الصبر فكانت مثال الامتثال؛ إذ رضخت لأحكام الله بصبر واتضاع وحسن اتكال.
وطلبت بياتريس أن يأتوها بموثق تملي عليه وصيتها، فأتوها به فأملتها عليه بكل ثبات ودقة، وكان مما أوصت به خمسمائة ريال للراهبات، وخمسة عشر ألف ريال - وهو مهرها - لتزوج به خمسون فتاة، ثم ختمت الوصية قائلة: إنها ترجو أن تدفن جثتها تحت مذبح كنيسة القديس بطرس التي مر بنا ذكرها في بدء الرواية.
وتبعت لوكريزيا خطتها؛ فحررت وصيتها ، واختارت أن تدفن جثتها في كنيسة القديس جورج بفيلا برا، وأوصت بحسنات وهبات عديدة.
ولما أتمت بياتريس وزوجة أبيها الوصيتين اشتركتا معا في الصلاة، فلبثتا تعبدان الله حتى الساعة الثامنة من الصباح، ثم اعترفتا وحضرتا القداس وتناولتا القربان، ولاحظت بياتريس أنه لا يحسن بهما أن يصعدا إلى آلة الإعدام بملابسهما المنزلية الثمينة، فطلبت ثيابا كملابس الراهبات ساترة لكل أجزاء الجسم حتى أعلى الرقبة، وذات أكمام واسعة طويلة، فأحضرت الملابس ومعها حبال لتتمنطقا بها، وطلبت بياتريس أن توضع لها عمامة صغيرة لتستر بها رأسها فأجيبت إلى ما طلبت، ووضعت هذه الملابس بجانبها ريثما أتمت الصلاة.
ونبهت بياتريس وصاحبتها أن اقتربت الساعة الرهيبة. وكانت بياتريس جاثية تصلي، فالتفتت إلى زوجة أبيها قائلة وهي مطمئنة باشة الوجه: «يا أماه! دنت الساعة التي يكفر فيها عن ذنوبنا، فأظن أن الأولى بنا أن نستعد لها، فهل لك أن نساعد بعضنا على تغيير ملابسنا كما جرت عادتنا.»
وقامت المرأتان فارتدتا ملابس الراهبات وتمنطقا بالحبال ووضعت بياتريس عمامتها على رأسها ولبثتا تنتظران النداء الأخير.
وفي تلك الأثناء كان القارئ قد قرأ لجاك وأخيه حكمها، ولبثا ينتظران أن يساقا إلى ساحة الإعدام، ولما ناداهما المنادي خرجا فوجدا جمعا من أهل الطوائف الدينية قائما بباب السجن رافعا الصليب، فتقدم جاك وكان مرتديا لباسا أسود مكشوف الصدر، فجثا أمام الصليب وقبله، وكان الجلاد بجواره قابضا على قضبان من حديد محمية في النار ليكوي بها صدر المتهم طول الطريق، وكان على عربة السجن موقد مشتعل لتحمى فيه هذه القضبان.
ناپیژندل شوی مخ