ثم حاولت أن تستخلص من يديه عنان الجواد، فأمسك به الراهب وقال: لا تظني أن كلماتك تثنيني، فاعلمي أني امرؤ لا يهتم بالأقوال، وما عهدنا رجلا سب امرأة؛ إذ قال لها إنه يهواها، وقد يقدر الرجل على ألف حيلة يضطر بها المرأة إلى الإذعان لحبه، وما عليه من عار أن يعمد إلى حيلة منها مهما كبرت، إنما من العار أن يخيب أو يفشل فيها.
فسألته المركيزة وهي تبسم تبسمة احتقار وازدراء: وهل لي أن أعلم إلى أية حيلة عمدت؟
قال: إن الوسيلة الوحيدة التي يمكن نجاحها مع امرأة ساكنة رزينة قوية الإرادة مثلك هو إقناعها بأن من مصلحتها الإذعان لهذا الحب.
فأجابته المركيزة وهي تحاول عبثا تخليص العنان من يد هذا اللئيم: حيث إنك تزعم معرفة صفاتي وخلالي التي ذكرتها، فسأزيدك علما بنفسي، وأريك كيف تعامل امرأة مثلي رجلا يفاتحها بمثل هذا الكلام، أما الآن فسأتركك لتسائل نفسك عما كان من الواجب علي أن أقابلك به من الألفاظ ردا على ألفاظك، وعما يجب علي أن أبلغه لزوجي.
فتبسم الراهب وقال: أنت حرة فيما تقولين يا سيدتي، فبلغي زوجك ما تريدين، بل أعيدي على مسمعه حديثنا كلمة كلمة، وبالغي ما شئت أن تبالغي، بل وزيدي في حديثك ما توحيه إليه ذاكرتك إن صدقا وإن كذبا، تجسيما لجريمتي في عينيه، ثم إذا أنت غيرت قلبه علي، وأبلغته مني، ووثقت أنه صدق حديثك وسينتقم لك، فسألقي عليه كلمتين تكذبان ما تقولينه وتهدمان ما تبنينه.
والآن قد تم حديثي، فلا أضطرك إلى البقاء؛ فتدبري فيما قلت، ولك مني إما حبيب مخلص وإما عدو لدود.
ثم ترك الراهب عنان الجواد، فوخزته المركيزة، وسارت به غير مسرعة؛ حتى لا يظنها الرجل هاربة منه أو خائفة، ثم تبعها الراهب، ووافيا القوم حيث يصيدون.
عدو جديد
صدق الراهب، وما كان قوله لغوا؛ أما المركيزة فطالما شاهدت ما لهذا الرجل من السلطة على زوجها، وقد رأت برهان ذلك مرارا، فسكتت ولم تبلغ زوجها شيئا مما دار بينها وبين أخيه، وظنت أخاه إنما كان يهددها فقط، وأنه لا تطاوعه مكارمه أن يفعل ما يقول، كأن لمثل هذا اللئيم مكارم أو فيه مروءة.
أما الراهب فأراد بعد افتراقه من المركيزة أن يعلم هل رفضت حبه لكراهة شخصية فيه أم لعفة صادقة فيها ، وكان أخوه الفارس جميلا كما أسلفنا القول، وله معرفة بآداب اجتماعية تعودها من معاشرة علية القوم، فنابت عنده مناب الذكاء، والجهول أقرب الناس للادعاء بالعلم، وأدناهم إلى التصديق بما يصفه به المنافقون من الفضائل التي ليست فيه، فعزم الراهب أن يقنعه بأنه - أي الفارس - يحب المركيزة، وأن حبه لها دليل على حسن ذوقه وإصابة اختياره، ولم يتعسر على الراهب إقناعه بذلك؛ فقد علمنا شدة التأثير الذي وقع على الفارس عند رؤيته المركيزة لأول مرة. وكان الفارس ملاحظا تمسك المركيزة بواجباتها لكرامة نفسها؛ فلم يتجاسر على أن يتقرب منها تقرب عاشق، بل أثر فيه جمالها وكمالها، فجعله لها من أخلص الخدم. ولاحظت المركيزة إخلاصه فقربته منها تقريب صديق، ونزعت من بينها وبينه التكليف إلى الحد الذي تسمح به درجة قرابته لها.
ناپیژندل شوی مخ