ثم تمام التقديس لا يحصل إلا بالتمكن بعد كمال التوحيد وحقيقة التوحيد تكون بإعتبار الذات وبإعتبار الفعل فتوحيد الذات ينفي الحدوث وثبوت الأحدية ينفي الأضداد وثبوت الذات ينفي التشبيه ويحير العقل في بحر الإدراك وأما توحيد الأفعال فهو شهود القدرة في المقدور ثم الإستغراق في أنوار العظمة فيغيب بذلك عن الموجودات وتبقى القدرة بارزة بأسرار التوحيد ثم الإستغراق في أنوار المحو فيغيب عن رؤية القدرة بالقادر ومن مقدوراته جل وعلا ما ذكره في قوله تعالى
ﵟيوم يقوم الروحﵞ
قال أبو الفرج بن الجوزي روى عن علي رضي الله عنه في تفسيرها أن الروح ملك عظيم له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها يخلق الله عزوجل من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة وقال إبن مسعود رضي الله عنه الروح ملك عظيم أعظم من السموات والأرضين والجبال والملائكة يسبح كل يوم ألف ألف تسبيحة يخلق الله سبحانه وتعالى من كل تسبيحة ملكا يجيء يوم القيامة صفا والملائكة بأسرهم يجيئون صفا قال إبن عباس وهو الذي ينزل ليلة القدر زعيم الملائكة وبيده لواء طوله ألف عام فيغرزه في ظهر الكعبة ولو أذن الله عزوجل له أن يلتقم السموات والأرض لفعل وقيل الروح هنا جبريل عليه الصلاة والسلام وقيل هو ملك ما خلق الله بعد العرش خلقا أعظم منه وقيل غير ذلك روى أنه صلى الله عليه وسلم قال رأيت علي كل ورقة من السدرة ملكا قائما يسبح الله عزوجل ومراده سدرة المنتهى سميت بذلك لأنها لا يتجاوزها أحد من الملائكة وغيرهم ولا يعلم ما وراءها إلا الله عزوجل وهي شجرة نبق على يمين العرش عندها جنة المأوى يأوي إليها الملائكة عليهم السلام وقيل أرواح الشهداء وقيل أرواح المتقين وقال الله تعالى
ﵟتبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرامﵞ
معنى تبارك جلا وعظم ومعنى ذي الجلال المستحق للرفعة وصفات التعالي ونعوت الكمال جل أن يعرف جلاله غيره تنزه وعظم شأنه عما يقول فيه المبطلون لأن كل شيء يثنى عليه بقدرته وكل ذاكر يذكره على قدر طاقته وطبعه وعلمه وفهمه والحق جل جلاله ذكره خارج عن أوهام الآدميين لأن الحادث ناقص بقهر الإيجاد والفناء والمعارف دون الغايات الجلالية فسبحانه ما اثنى عليه حق ثنائه غيره ولا وصفه بما يليق به سواه عجز الأنبياء والرسل بأجمعهم عن ذلك قال أجلهم قدرا وأرفعهم محلا وأبلغهم نطقا مع ما أعطى من جوامع الكلم لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وأما الإكرام فمعناه ذو الانعام والمنن على العام والخاص والطائع والعاصي ووصف سبحانه وتعالى نفسه بالكريم في قوله
ﵟما غرك بربك الكريمﵞ
قال عمر رضي الله عنه لو قيل لي ما غرك بي لقلت جهلي بك غيري والكريم هو الذي إذا قدر عفا وإذا وعد وفى وقيل هو الذي إذا أعطى زاد على منتهى الرجاء ولا يبالي لمن أعطى وكم أعطى ولا يضيع من لاذ به والتجا وقيل هو الذي يغني السائل عن الوسائل والشفعاء وإذا رفعت الحاجة إلى غيره لا يرضى وقيل هو الذي إذا أبصر خللا جبره وما أظهره وإذا أولى فضلا أجز له ثم ستره وقيل غير ذلك كما تأمل القرآن الكريم وجده مشحونا بالتقديس والإجلال والتعظيم وناطقا بإضلال أهل الإلحاد والتجسيم والحيدة عن الصراط المستقيم وطريقة السلامة في ذلك أن من أشكل عليه شيء من المتشابه في الكتاب والسنة فليقل كما أخبره سبحانه وتعالى في كتابه المبين عن الراسخين في العلم ومدحهم عليه في قوله تعالى
ﵟوالراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربناﵞ
ويقول كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه خرجه غير واحد منهم الإمام أحمد والنسائي وغيرهما ويقول كما قاله الشافعي آمنت بالله وما جاء عن الله على مراد الله وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم والراسخ في العلم هو من طولع على محل المراد منه وسئل مالك عن الراسخين في العلم فقال العالم العامل بما علم المتبع له وقال عمر بن عبد العزيز انتهى علم الراسخين بتأويل القرآن إلى أن قالوا آمنا به كل من عند ربنا وقال بعضهم للقرآن تأويل إستأثر الله تعالى بعلمه لا يطلع عليه أحد من خلقه كما استأثر بعلم الساعة ووقت طلوع الشمس من مغربها ونحو ذلك والخلق متعبدون بالإيمان به ومتعبدون بالمحكم بالإيمان به وبالعمل به وقيل غير ذلك ثم أعلم أنه حق على اللبيب المعتصم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمتمسك بالعروة الوثقى أن يثبت الله عزوجل ما قضى العقل بجوازه ونص الشرع على ثبوته فإن المشبهة أثبتوا لله ما لم يأذن فيه بل نهى عنه وهي زيغة سامرية ويهودية والمعطلة سلبوه ما اتصف به وسفهوه ولقد أحسن أبو الحسن الأشعري في جوابه عن التوحيد حيث قال إثبات ذات غير مشبهة بالذوات ولا معطلة عن الصفات
( الله أكبر أن يكون لذاته
كيفية كذوات مخلوقاته )
( أو أن تقاس صفاتنا في كل ما
نأتيه من أفعالنا بصفاته )
( أبدا عقول ذوي العقول بأسرها
متحيرات في دوام حياته )
( لبديع صنعته عليه شواهد
تبدو على صفحات مصنوعاته )
فكل ما ترى عينك الباصرة فهو دلائل ظاهرة على العالم مخلوق بتقدير شامل وتدبير كامل وحكمة بالغة وقدرة غير متناهية ولو جمعت عقول العقلاء عقلا واحدا ثم تفكروا بذلك العقل في جناح بعوضة حتى يجدوا تركيبا أحسن منه وأكمل لفنيت تلك العقول وانقطعت تلك الأفكار ولم تصل إلى درك ذرة من ذرات حكمته في تلك البعوضة على سبيل الكمال والتمام فما الظن بذي الجلال تبا ثم تبا لأهل الضلال والجهل وما اعتقدوه من النقص مع تنزيه البحار وشوامخ الجبال فسبحان من تسبحه البحار والطوافح والجبال الشم والسحب السوائح والأمطار الطومح والأفكار والقرائح تقدس عن مثل وشبيه وتنزه عن نقص يعتريه
يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور من سر أضمرته الجوانح تعالى عن الند المماثل والضد المكارح
يفعل ما يشاء
مخ ۵۷