وإنك لتشاهد متى وجهت فكرك إلى الحالة العالمية اليوم وقبيله من التاريخ مكانة للصحافة عظيمة وبأسا شديدا حتى إن الحكومات لتخشاها وتعنو لها في الموقفين : الاستحسان والانتقاد ، وحتى صارت هي مسند كل مظلوم ولسان الشعوب التي راج فيها عكاظ الآداب ، وراضت أذهانها في حدائق المعارف ، بل وأصبحت لسان
الحكومات تبشر وتنذر بها وترغب وترهب ، ولسان أرباب الصنائع والمبتككرين تشهر تجارتهم ونتائجهم وتجلب لهم الرفاهية ، ولسان المصلح الداعي إلى مسالك الفوز ، وصوت المرشد إلى أذهان الغافلين ورسول الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر العامل لإعلاء كلمة الله ، والرقيب الحارس للأمة من غوائل الأعداء ودسائس الكائدين ومفاسد الأخلاق وقبائح العادات ، كل ذلك بفضل القلم والإنشاء ،
(1) العلم والعلماء
وتجد التأثير وتصوير الحقائق بما هو مطابق للواقع بقدر رسوخ أربابها في الصناعة وحوك المعاني .(1)
إن أهل التحقيق من أهل علماء الأدب ما برحوا يرجحون كتابة الإنشاء ويفضلونها ويميزونها على ساءر الكتابات ويقدمونها لأمور :
منها اشتمال كتابة الإنشاء على البيان الدال على لطائف المعاني التي هي زبد الأفكار وجواهر الألفاظ التي هي حلية الألسنة وفيها يتنافس أصحاب المناصب الخطيرة والمنازل الجليلة أكثر من تنافسهم في الدر والجواهر .
ومنها ما تستلزمه كتابة الإنشاء من زيادة العلم وغزارة الفضيلة ، وذكاء القريحة ، وجودة الروية : لما يحتاج إليه من التصرف في المعاني المتداولة والعبارة عنها بألفاظ غير الألفاظ التي عبر بها من سبق إلى استعمالها مع حفظ صورتها وتأديتها إلى حقائقها ، وفي ذلك من المشقة ما لا خفاء فيه على من مارس الصناعة ، خصوصا إذا طلب الزيادة والعلو على من تقدمه في استعمالها ،
مخ ۵۵