وقال حسين مسرعا: طبعا، طبعا يا عم عبد الحميد ... وهل أستطيع الإنكار؟! - اسأله أولا يا ابني ... اسأله أولا ...
ودخلت هنية حاملة القهوة، ونظر إليها حسين؛ إنها ليست هي ... لا، ولا هي التي تصور أنه سيراها. ولكنه مع ذلك مصمم على الزواج بها. لماذا؟
لا يدري لماذا؟
حين دخل حسين إلى البيت الذي ربي فيه؛ استقبله البيت برائحة الفرن التي لم تتغير، وبرائحة الذكريات التي ما زالت تطالعه منذ نزل إلى القرية. إلا أن رائحتها هنا في هذا البيت كانت أشد عنفا، كأنما هذا البيت هو المصدر الذي توزعت عنه الذكريات إلى القرية جميعا.
أحس حسين الخوف يسيطر على قلبه لا يدري لماذا، ومد يده إلى عينه اليسرى يمسح الدمعة المنحدرة، وتوقف في صحن الدار يقلب النظر يحاول أن يستعيد بعض شجاعته، ولكن الخوف كان يهاجمه في قسوة. خوف لا يدري مأتاه ولا أسبابه، وإنما هو رعشة في القلب، وبرودة تتمشى في أوصاله. وتنحنح وتردد صدى نحنحته في البيت جميعا ثم عاد يمسح دمعة لم تكن موجودة وراح يدير عينيه مرة أخرى حواليه، ثم خطا خطواته الأولى، وصعد السلالم، ثقيل الخطوات حتى إذا بلغ منتهاها وجد الحاج والي جالسا على أريكته، لم يغيرها، ولم يغير جلسته عليها، كأنه كان جالسا ينتظره عائدا من الكتاب، أو كأنه ظل جالسا هذه السنوات الطوال لم يتحرك من مكانه. وغير بعيد منه على الأرض جلست الحاجة بمبة تلاعب طفلا أدرك من فوره أنه أحمد بن محمد، وإن خيل إليه للحظة عابرة أنه محمد نفسه. ونظر الحاج والي ونظرت الحاجة بمبة؛ ودون أن يشعرا ارتسمت ابتسامة مرحبة على شفاههما وهمهما بألفاظ لم يكن حسين يحتاج إلى كثير ذكاء ليدرك أنه ترحيب يجمع إلى الدهشة الصدق والحب، وقبل حسين يد الحاج والي، ثم ركع على الأرض يقبل يد الحاجة وسحبت يدها لتربت ظهره في حنان. وراح الكلام يسيل من شفتيها: أوحشتني يا حسين. أسمع كلامك في الراديو، وأقول لنفسي والله ربيت ونفعت. وأشتاق إليك.
وأسعفت الدمعة من العين اليسرى حسينا فلم يمسحها، وأحس أنه يحتاج إليها؛ فقد كانت عيناه عاصيتين عن دمعة تأثر.
ولم يزد الحاج والي عن قوله: كيف أنت يا حسين؟ - الحمد لله يابا الحاج.
ثم التفت الحاج إلى زوجته: جهزي العشاء لحسين يا حاجة. - من عيني.
وقامت وأمسكت أحمد من يده وخرجا. ولم يكن يخفى على الحاج أن حسينا يريد أمرا، ولكنه آثر ألا يسأله، وإنما راح يسأله عن عامة شأنه، فينقطع الحديث بإجابات تقليدية: كيف حال المدرسة؟ - الحمد لله.
ويهوم الصمت. - أما تزال في بيتك؟ - لا، نقلت إلى شقة.
ناپیژندل شوی مخ