ألهذا يقدم له المال والعون والأبوة؟ إن قطع عنه المال أضاع مستقبله وإن قدمه ... أيقدم له المال ليزني؟ ولكنه يذاكر، إنه يقدم له المال ليصبح صاحب شهادة، لا، لن يرده الزنى عن المذاكرة. أهذا هو الشيخ الذي سيصبح واعظا؟ ويتزايد الضباب أمام عينيه.
حين عاد الشيخ والي إلى حسين، اجتهد ألا يبين أنه فهم شيئا أو سمع، وقبل حسين يده ومسح الدمعة المنحدرة، وعاوده ذلك الشعور بالعجز والاحتقار لنفسه أمام الحاج والي. وقال الحاج: كيف حالك يا حسين؟ - البركة فيك يابا الحاج. الحمد لله. - قال لي عبد الحميد أفندي مسعود ناظر المدرسة الإلزامية أنك تنشر شعرا في مجلة الورود. - نعم يابا الحاج. - أنا أحب الشعر، وأحب الشعراء، وأنا متأكد أن هذا لا يشغلك عن دروسك. - لا أبدا. - أنت في ثانوية الأزهر هذا العام، أليس كذلك؟ - نعم يابا الحاج. إني أمتحن الآن. - طبعا المذاكرة على قدم وساق. - طبعا يابا الحاج. - أتريد شيئا؟ - البركة فيك. - أراك لا تسأل عن الحاجة. أنسيتها يا حسين؟ - لا قدر الله يابا الحاج! كيف هي؟ - تسلم عليك. - أبقاها الله. يابا الحاج أنا كنت سأسافر إليك. - كذا. إنك منذ سنين لم تزر البلد. - لا والله كنت مسافرا إليك؛ لأراك وأرى الحاجة. - ولماذا أيضا؟ - أريد أن أكلمك في موضوع. - خيرا؟ - أريد أن أدخل كلية دار العلوم.
ونظر الحاج والي إليه مليا، وصمت، وخالجته فكرة ألحت عليه حتى قال: وتظل بالجبة والقفطان؟ - والله أريد أن ... - مفهوم. على كل حال يسرني أن تصبح معلما؛ إن هذا أقرب إلى ما كنت أريده لك، فالواعظ في رأيي لا يفيد قدر ما يفيد المعلم. المستمع إلى الواعظ يعلم أن وظيفته هي أن يقول هذا الكلام؛ فالاستجابة له لا تكون عادة كاملة، أما المعلم فإنه مع تعليمه للمادة التي يقدمها، يعلم الأخلاق بطريقة غير مباشرة، والأخلاق هي كل شيء يا أستاذ حسين، أليس كذلك؟
وأحس حسين النغمة التي غافلت الحاج، وتسربت إلى الحديث وقال: طبعا.
وأحس صوته منحبسا فتنحنح وعاد يقول: طبعا. - بلدنا يحتاج إلى الأخلاق أولا ثم إلى العلم، بهما نستطيع أن نخرج العدو، ونكون وطنا عظيما. ولكن الأخلاق أولا يا أستاذ حسين، الأخلاق أولا.
ومسح حسين الدمعة المنحدرة، وعاد يتنحنح وهو يقول: طبعا ... طبعا. - على بركة الله يا بني. وهذا مبلغ يكفي لإحضار حلتين جديدتين ما دمت تريد ذلك. هيه، أتركك أنا. - ولماذا العجلة يابا الحاج؟ - أريد أن أزور محمدا. إنك لا تزور أخاك يا حسين؟ - أخاف أن أشغله؛ فكلية الطب صعبة يابا الحاج. - زره يا حسين، فلن يكون لك إلا هو، ولن يكون له إلا أنت. - أنا آسف يابا الحاج.
وخرج الحاج، وودعه حسين إلى باب السلم، وانتظر حتى غاب عن ناظريه، ثم راح ينظر إلى الجنيهات العشرة التي تركها له، ثم طواها ووضعها في جيبه في عناية بالغة، وانحسر عنه شعور العجز والاحتقار لنفسه.
يوم انتهى الامتحان اتفق حسين مع أمين كامل الشاعر الذي ينشر معه في مجلة الورود أن يقيما حفلا خاصا لهما يدفعان تكاليفه مناصفة، يشتريان فيه زجاجة من الكونياك، ويدعوان فتاة يعرفها أمين لا تتقاضى إلا قدرا ضئيلا من المال. وكان حسين في دخيلة نفسه يريد أن يحتفل أيضا بأول يوم يلبس فيه البدلة، ولم يجد أنسب من زجاجة كونياك وفتاة أمين احتفالا بهذه المناسبة. وقبل أن يحل موعد الحفلة راح حسين يلبس بدلته الجديدة في عناية بالغة، فلبس القميص والبنطلون، فلم يلق مشكلات تعترضه، حتى إذا أراد أن يعقد رباط الرقبة أشكل عليه الأمر، وراح يربط ويفك، أو يربط فتتعقد عليه الأمور، حتى إذا يئس وضع الرباط على السرير، وجلس ينتظر مفيدة لعلها ترى حلا لهذه المشكلة. ولكن طال غيابها، فأراد أن يقوم إلى موعده دون رباط الرقبة، ولكنه تذكر ما سيلاقيه من سخرية أمين فجلس في موضعه، وقد صمم ألا يذهب إن لم ينعقد رباط الرقبة. وفجأة دخلت إليه مفيدة، فعاجلها قبل أن تفكر في موضوع آخر، فراحت تربط له الرباط، كما تفعل لابنها الصغير، وأكمل هو ملبسه، وانفتل من الباب لم يشكرها إلا بقبلة عاجلة.
وحين بلغ شقة أمين وجده جالسا في بهو منزله وحيدا وأمامه الزجاجة لم تفتح. وسأله: وأين الشغل؟ - في الداخل.
ولم يتمهل، بل اندفع إلى الحجرة الوحيدة في الشقة، وكان الوقت في الغروب، والشبابيك مقفلة، ولكنه رأى كتلة آدمية جالسة على الأريكة، فارتمى بجانبها، ومد فمه يقبل، فاستقبله شعر خشن كثيف، وطالعه صوت رجل: من أنت؟
ناپیژندل شوی مخ