[عظات بالغة]
[دار الغرور]
بسم الله الرحمن الرحيم.
والحمد لله وبه أستعين
أما بعد: فإن الدنيا دار غرور، لا يدوم فيها سرور، ولا يؤمن فيها محذور، جديدها يبلى، وخيرها يفنى، من وثق بها خدعته، ومن اطمأن إليها صرعته، ومن أكرمها أهانته، أفراحها تعقب أحزانا، ولذاتها تورث أشجانا.
أما بعد: فإن أعمار الدنيا قصيرة، ورحاها مديرة، وسهامها قاصدة، وحتوفها راصدة، والمغرور من اغتر بها، والمخدوع من ركن إليها، من زهد فيها كفيها، ومن رغب عنها وطيها، قد غرت القرون الماضية، وهي على الباقين آتية، فيا بؤسا للباقين، لا يعتبرون بالماضين، يجمعون للوارثين، ويقيمون في محلة المتجبرين .
أما بعد: فاقنع باليسير، وبادر بالتشمير، وإياك والتغرير، وانظر إلى ما تصير، فليس الأمر بصغير، وهيئ زادك للمسير، فقد أتاك النذير.
أما بعد: فقد وضح لك الطريق، فلا تحيدن عن إطاره إلى المضيق، فقد مضت الأيام، وذهبت الأعوام، وفنيت الأعمار، وأحصيت الآثار، وعن قليل تدعى فتجيب، وتصعق فتغيب، فعجبا لقلبك كيف لا يتصدع ؟! وعجبا لركنك كيف لا يتضعضع ؟! وعجبا لجسمك كيف لا يتزعزع ؟!
أما بعد: فإنه ليس لحي في الدنيا من مقام، وعما قليل يأتيك الحمام، وكل خلق تفنيه الأيام، فلا تكن كالغافل النوام، فإنما الدنيا إلى انصرام، ولن يرى فيها دوام .
أما بعد: فاتقوا الله، عباد الله، فيما تقدم إليكم، واحتج به عليكم، من قبل اللهف والندم، ومن قبل الأخذ بالكظم، وانقطاع المدة، واستكمال العدة، ومن قبل التلاقي واللزام، والأخذ بالنواصي والأقدام، فكأن قد نزلت بكم نازلة الفناء، وأخرجتكم إلى دار البقاء، وكشف عنكم الغطاء، وتجرعتم سكرات الموت، وخضتم غمرات الآخرة، وأتاكم ما كنتم توعدون، وعاينتم ما كنتم تحذرون .
مخ ۳۳۹
أما بعد: فإنه لا عذر لمن هلك بعد المعرفة والبيان، ولا حجة لمن ركن إلى دار الفناء والحدثان، ولا ندم يغني عند وقوع العيان، ولا حيلة تنفع عند فوت الزمان، وعند السياق وكلول اللسان، لا ولد ينفع، ولا أهل يمنع، في مصرع هائل، وشغل شاغل، يدعا فلا يسمع، وينادى فلا يجيب، في غصص الموت وسكراته ، وتجرع زفراته، وغمومه وحسراته، قد علاك الأنين، وأتاك الأمر اليقين، فلا عذر فتعتذر، ولا ردة فتزدجر، قد عاينت نفسك حقائق الأمور، وحللت في مساكن أهل القبور في لحد محدور، قد افترشت اللبن بعد لين الوطاء، وسكنت بين الموتى، بعد مساكنة الأحياء، فالنجاء النجاء، قبل حضور الفناء .
أما بعد: فإن الدنيا أيام قلائل، وكل ما فيها ذاهب زائل، فتعز بالصبر عن الشهوات، وتنآء بالحذر عن اللذات، وفكر فيما اقترفت على نفسك من الذنوب، وفيما قد ستر الله عليك من العيوب، أما علمت حين عصيته لم يكن بينك وبينه، ستر يواريك منه .
أما استحييت من مولاك ؟! وقد علمت أنه يراك، أما خفت العقوبة حين آثرت على تقواه هواك ؟!
أما بعد: فيا بؤسا لك من مخالف خاسر، وخائن غادر!! أما إنك عن قليل، تهجم على البلاء الطويل، فتدارك نفسك إذ عرضتها للمهالك، واسلك بها طريق الواضح من المسالك، ولا تطمعها في راحتها، أيام حياتها، واستطرف لها النصب، واحملها على التعب، لما ترجو أن تصير إليه من الراحة غدا، فكأنك قد دعيت فأجبت، فاعمل لنفسك مادمت في مهلة، وفقنا الله وإياك لما يحب ويرضى .
أما بعد: فاحذر على نفسك ختر الدنيا ومكرها، وخدعها وغدرها، فإنها متبرجة لطلابها، فاحذرها ولاتكن لها قتيلا، والتمس لنفسك للنجاة منها سبيلا، فانظر لنفسك أيام مكثك فيها، واعلم أنها مرحلة سكانها، وأن متاعها قليل، وخطبها جليل، ونعيمها زائل، وخيرها مائل .
مخ ۳۴۰
أما بعد: فكن في سفرك مرتادا، وهيء عدة وزادا، قد خرجت من روح الدنيا، إلى ضيق اللحد وخشونة المتكأ، فتيقظ من نومة الغافلين، وانتبه من وسنة الجاهلين، وانظر بعينك إلى مصارع المغترين، ومضاجع المستكبرين، أليس ديارهم خالية ( وأجسادهم بالية، ومساكنهم مقفرة، وعظامهم نخرة، وعروقهم بالية ) وأيامهم فانية ؟!
أما بعد: فإنك لو رأيت يسير ما بقي من عمرك وأجلك، لزهدت في طول ما ترجو من أملك، ورغبت في الزيادة من عملك، فإنك إنما تلقى غدا في حفرتك، وتخلى في وهدتك، ويتبرأ منك القريب، ويتسلى منك الحبيب، فلا أنت إلى أهلك راجع ، ولا في عملك زايد شارع، فاعمل ليوم القيامة، قبل الحسرة والندامة.
أما بعد: فلا يمل بك الأمل الكاذب، ولاتكن كالشاهد الغائب، فإنك والقوم على بساط واحد، والموت يأتي على كل صادر ووارد، فلا يذهبن قولي عنك صفحا، فإني لم آلك حظا ونصحا، فإن تقبل نصيحتي فأنت بذلك أسعد، وبها أعلى غنيى وأرشد، وعن قليل يأتيك الخبر، فالحذر الحذر، فإنه يأتي أسرع من لمح البصر.
أما بعد: فإن الدنيا بحر عميق، ولنيرانها لهب وحريق، ولطرقها مفاوز ومضيق، فالحذر إذا لبعد مفاوزها ومضيقها، فأعد عدة سير تزحزح به عن لهبها وحريقها، واتخذ سفينة تنجو بها من عميقها، وقرب عليك الأجل لا تخدعنك بآمالها ومكرها، وقد عرفتك نفسها، وأوضحت لك لبسها، فلا تعم وأنت بصير، ولا تأمن وأنت بتحذير، فإن الذي بقي من عمرك قليل، فإما الثواب الجزيل وإما البلاء الطويل، فكن بعملك منتفعا، وللموت متوقعا، فإنك لا تدري على أي حال يأتيك، وفي أي وقت يفاجيك، فعجبا لك يا مكنون الأجل، كيف تغتر بطول الأمل، فابك على نفسك إن كنت باكيا، وتيقظ من غفلتك إن كنت لاهيا .
مخ ۳۴۱
أما بعد: فكأنك قد أخرجت من روح الدنيا ومساكنها، وأبدت أهلك لغيرك سكنها ومحاسنها، ونسيت ما كان لها من كدك، وتغيرت عما كانت لك عليه من بعدك، فتنعموا بمالك، ولم يعبأوا بحالك لمن لا يرثى لك غدا من بعد صرعتك، ولا يؤنسك في وحشتك، فلا تبع يا مسكين بدنياك آخرتك، ولا تجزع لها فتركبك رقبتك، عليك بنفسك أكرم الأنفس عليك، وأحب الأنفس إليك، واعلم أنك مسؤول، ومحاسب ومعاقب، فارغب في الثواب، واهرب من العقاب .
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد وآله وسلم .
مخ ۳۴۲
[الغفلة عن الموت]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وعلى محمد وعلى أهله أفضل الصلاة والتسليم.
وبعد: يا أخي فأغاذني الله وإياك من مهلك غفلى الغافلين، وسلمني [وإياك] بمنه ورحمته من مضل جهالة الجاهلين، الذي حسبوا وظنوا إذ تاهوا وتمنوا قصير آجالهم طويلا، فأفنوا أيام حياتهم بالغفلى منى وتأميلا، حتى عاينوا نازل الموت، بكل حسرة وفوت، فأيقنوا عند نزوله بباطل المنى، إذا ذاقوا الموت والفناء، وعلموا أن قد كان قصيرا ما استطالوا من حالهم، وغرورا وخداعة ما كانوا فيه من مناهم وآمالهم.
يا أخي: واعلم أن الأجل حثيث الفناء، ليس لأحد معه والله المستعان من بقاء، لا يقف والحمد لله من أهله على من استوقفه، ولا يغفل لمحاذرة سرعة انقطاعه من عرفه، وكيف يغفله عارف به، أو موقن بمعاده إلى ربه ؟! مع ما يرى من مره وحثه، وقلة تعريجه ولبثه، فهو دائب الحث، غير ذي إبطاء ولا لبث، يقطع منه ساعاته الليالي والأيام، ويقطع أيامه ولياليه منه الشهور التوآم، وكذلك جعل الله شهوره، تقطع بمرها سنينه ودهوره، فدهره قصير، وعمره يسير، لا يطرف أحد من أهله طرفا، إلا اقترب من فناء مدته زلفا، فأنفاسه ولحظاته تطويه، وساعاته وأوقاته تفنيه، يقظان كان أو نائما، ومقيما كان أو ظاعنا، تحثه جدا، وتدعوه بنداء، ساعات نهاره وليله، بل أنفاس عمره وتأجيله، فهو ظاعن سائر، وإن كان به غير شاعر، وكأن قد أفضت أسفاره، فيما يسير به ليله ونهاره، فورد محلة مثواه ومقامه، وفنيت مدة أجله وأيامه، فأقام فيه مخلدا، وبقي بعد سرمدا، في حبرة ونعيم، أو عذاب أليم، وقد قر في أيهما صار إليه قراره، وانقطعت فيه عنه ظنونه واغتراره، لا يزداد من أعماله في حسنة زكية، ولا يستعتب في حسنة ولا خطية، قد لزمته سعادته وشقاؤه، ودام في أيهما كان خلده وبقاؤه.
مخ ۳۴۳
فوا عجبا لمن كان بهذا موقنا!! بل لمن ظنه وإن لم يوقن به ظنا!! كيف لعب ولها ؟! وغفل فيها، ولقد اكتفى الله سبحانه - في ذلك لمن لم يوقن بنفسه، ولم يدن لله فيه بحقيقة دينه - بالظن، فقال سبحانه : { ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون، ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين} [المطففين: 4 - 6]. اكتفاء لهم بالظن لو ظنوا من حقائق اليقين، وتذكيرا فيه لهم بما يمكن كونه يوم الدين.
وفيما كان به المؤمنون في دنياهم يوقنون، من لقاء ربهم ويظنون، ما يقول سبحانه :{ الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون} [البقرة: 46]. فذكر الله سبحانه ظنهم بلقائه، ومرجعهم إليه وإلى جزائه، فكان عملهم واجتهادهم في دينهم، على قدر حقيقة ظنونهم، فكيف يكون مثلهم ؟+ من يدعي يقينهم وفضلهم، وهو غافل لاعب، وقائل كاذب، يقول مالا يفعل، ويقر بما لا يعمل.
وفي مقت الله سبحانه، لمن آمن ففكر فذكر الله إيمانه، وعلمه بالإيمان لله وبالله وإيقانه، ما يقول تبارك وتعالى اسمه : {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون} [الصف: 2 - 3]. ويقول سبحانه لمن ادعا الصدق والوفاء، وإتيان ما يحب الله ويرضى :{ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} [التوبة: 105].
يا أخي فلا تغفل عن الموت والبعث غفلة من يرى من أشباه الحمير، فإن بغفلتهم عن الموت والبعث بعدوا كما رأيت من النجاة والفوز والحبور، فعموا عما كان ممكنا في حياتهم من الهدى والرشاد، وشقوا بعمايتهم في المرجع إلى الله والمعاد، فدام شقاؤهم وتبارهم، وأقام ندمهم وخسارهم، ثم بكوا فلم يرحموا بالبكاء، ودعوا فلم يجابوا في الدعاء، {فنادوا يا مالك ليقض علينا ربك وقال مالك: إنكم ماكثون} [الزخرف: 77].
مخ ۳۴۴
وفي ذلك ما يقول الله سبحانه: { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون} [السجدة: 12]. وعند تلك وفيها، وعند ما صاروا إليها، قالوا: { ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضآلين، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} [المؤمنون: 106 - 107]، فما كان جوابهم عند قولهم وطلبهم، وعندما أحل من سخط الله المخلد بهم، إلا أن قال :{ اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108].
يا أخي فاسمع ما تسمع سماع متبع، ولا تسمعه سماع مستمع، فرب مستمع غير سميع، وسامع مطيع، كما قال الله سبحانه :{ وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا تأويل ذلك: لم يطعيوا ولم يعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} [الأعراف: 198]. وتأويل ذلك: لا يبصرون من الهدى ما تبصرون. وفيمن سمع بالسمع، ولم يسمع ولم يطع، ما يقول الله تبارك وتعالى في التنزيل، للعصاة من بني إسرآئيل :{ وأخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا} [البقرة: 93]. فنسأل الله أن يمن بالسماع النافع عليك وعلينا، فإنا من الصمم والحيرة والظلم في البحر الزاخر، واللج الغامر، فلا ينجو من غمره إلا من نجاه الله، ولا يلجأ من غرقه إلا من أنجاه، والله المستعان، وعليه التكلان.
مخ ۳۴۵
بسم الله الرحمن الرحيم وبعد: فاعلم يا أخي، أنا وإياك في بحر من بحور العمى عميق، لا يصل معه أحد إلى هدى إلا أن يرشده الله ويهديه إلى ملجأ وثيق، فكر أهله سقيمة مدخولة، وعبر من فيه فعظيمة مجهولة، لا يعتبر بها منهم معتبر، ولا يفكر فيها منهم مفكر، فقلوب من يسمعها منهم ويراها، مقفلة والله المستعان على هداها، فهدانا الله ياأخي وهداك، بما أرانا الله منها وأراك، ونفعنا ونفعك، بما أسمعنا وأسمعك، فكم رأينا وسمعنا من عبر لا نحصيها ولو جهدنا كل جهد، وفي الاعتبار بأقلها أهدى الهدى وأرشد الرشد، فمنهم ما نرى بالعيان، ونسمعه في كل حين بالآذان، من موت وفناء، يذهب دائبا بالأحياء، تراه عيانا كل عين، وتسمع به في كل حين، وكم رأينا عيانا من جار ومعارف، وقرين محآل مؤالف، قد دهاه من حمام الموت وفاته ما دهاه، واغتره ما كان فيه من حياة دنياه، ولحق بدار الموت والبلاء، وصار إلى محلة الموت والفناء، فمات بموته أمره وشأنه، ونسيه إذ مات أوداده وأخدانه، ولها عنه أهله، وهجر بعده محله، فلم ير منهم واقف عليه، ولم يلتفت منهم ملتفت إليه، وكم عاينت من أولئك؟! ورأيت من ذلك!!
مخ ۳۴۶
بل كيف رأيت يا أخي رحمك الله من مختطف، بسقم ممض أو موت متلف، قطع به دون مناه وآماله، وما أنعم الله عليه من نظرته وإمهاله، فتلهف على ما فاته من طاعة ربه حين لا ينفع التلهف، وتأسف عندما لا يغني عنه ولو كثر التأسف، على ما فرط فيها من إمكان نجاته، وما خسره من أيام حياته، فذهب بندمه وحسرته، وآل بهما إلى معاده وآخرته، فبقي في الحسرة مخلدا، وفي الندامة مقيما أبدا، وكان عند تلك وفيها ومعها من مقاله، نحو ما ذكر الله عند مجيء الساعة من مقال أمثاله، إذ يقول سبحانه :{ حتى إذا جآءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا سآء ما يزرون، وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو ولدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} [الأنعام: 31 - 32]. وقال تعالى ذكره :{ حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورآئهم برزخ إلى يوم يبعثون، فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسآءلون، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون، تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون، ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون} [المؤمنون: 99 - 105] . فأنكص النكوص عن الآيات، ترك ما أمر الله به من الحسنات، وارتكاب ما نهى الله عنه من السيئات.
يا أخي فحتى متى وإلى متى؟! دوام الغفلة والحيرة والعمى! ألسنا بربنا مؤمنين ؟!وبيوم البعث موقنين ؟! فمالنا يا سبحان الله من أمر الله معرضين ؟! ولانتقام الله بالخلاف عليه في أمره متعرضين ؟ من بعد الإيمان واليقين، والعلم بشرائع الدين.
مخ ۳۴۷
فرحم الله من عباده عبدا، أيقن أن له إلى الله معادا، فجد وشمر في طلب نجاته، قبل نزول الموت ومفاجأته، فكم رأينا من مفاجأ مبغوت، بما لم يتوقعه من وفاة وموت، أخذ في غمرته، وعلى حين غرته، فتبرأ منه قبيله وأحبآؤه، وأسلمه للموت أهله وأقرباؤه، فلم ينصره أهل ولا عشير، ولم يكن له منهم نصير، بكاه من بكاه منهم قليلا، ثم هجره وجفاه طويلا، فكأن -لم يره قط - حيا، ولم يكن له في حياته صفيا!
فأبصر يا أخي وبادر، واعتبر بما ترى وحاذر، فرب مبصر لا يبصر، ومعتبر بما ترى لا يعتبر، يستر بالأشجان والأحزان، ويغر بالرجاء والأماني، وهو دائب في قطع عمره وأجله، مغتر بمناه ورجاه وأمله، لا يتنفس نفسا، ولا يطرف طرفا، إلا قطع به من أجله ناحية وطرفا، لا يغفل عنه وإن غفل، ولا يؤخر لما رجاء وأمل، قد جد به المسير، واختدعه الأمل والتسويف والتأخير، فأمله خدعة وغرور، وأجله متعة وبور.
يا أخي فالعجل العجل، فقد ترى المسير إلى الموت والترحل، لا يقلع راحله وسائره، ولا يريع على أوائله أواخره، يلحق المتأخر بالسائر الأول، والمقيم من أهله بالظاعن الراحل، لا يخلف من العباد جميعا متخلفا، بل يختطف نفوسهم خطفا، يأخذ الصغير أخذه للكبير، ويلحق بعضهم بعضا في الموت والمصير. فنسأل الله أن يبارك لنا في حلوله وموافاته، وأن يجعلنا ممن أسعده في يوم مماته، ونستغفر الله خير الغافرين، ونضرع إليه في عصمتنا من هلكات الجائرين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما.
مخ ۳۴۸
[موعظة]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله حمدا دائما مقيما، وصلى الله على محمد وأهله وسلم تسليما، نستهدي الله للهدى، ونعوذ به من الضلالة والردى، فكم من ضال مغتر ؟! ورد مدمر، قد غر حياته بالأمل والمنى، وهو يرى في كل حين الموت والفناء، يتمنى من بقائه كثيرا، وقد رأى من أخذ غريرا، مما لا يحصيه بعد، ولو جهد كل جهد، فكم رأى في غرته من مأخوذ! وميت بالعراء منبوذ!! يتخالس الطير لحمه تخالسا، وتتناهشه سباع الوحش تناهشا، وكم سمع به من ملقى في بحر من البحور للموت ؟ يأكل لحمه من ملقى من البحر ما قاربه من حوت، وكم رأى في الثراء من ملحود ؟ متناثرة أوصاله وعظامه بالدود، وقد نسيه بعد الذكر أهلوه!! وقطعه بعد مودته مواصلوه، فأغفلوا ذكره فلا يذكرونه إلا قليلا، وكلهم فقد كان له أهلا وخليلا، فكأن لم يروه قط حيا في الأحياء معهم!! ولم ينالوا منه ومن كده عليهم ما نفعهم!!
فيا ويل من سقط هذا عن ضمير قلبه! وأصر مقيما على الخطيئة بعد علمه به! كيف خسر دينه ودنياه ؟! وآثر ضلالته في الحياة على هداه ؟! فهلك هلاك الأبد وقد رأى في حياته منجاه، ودل فيها على نجاته ورداه.
فنعوذ بالله لنا ولك من العماية عن الهدى، ونعتصم بالله لنا ولك من الهلكة والردى، فما يردى بعد هداية الله ويهلك بما حذره الله من المهالك، إلا كل شقي من الخلق هالك!! فنستجير بالله من الهلكة والشقاء، بعد من الله علينا بالهداية والتقى!
فكم من مهدي لقصده ورشده ؟! قد ضل بعد هدايته عن قصده!
وكم من مستمع ومبصر لا يسمع ولا يرى ؟! كما قال الله تبارك وتعالى :{ وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } [الأعراف: 198]. وقال سبحانه :{ صم بكم عمي فهم لا يرجعون } [البقرة: 18].
مخ ۳۴۹
يا أخي فانظر فيما ذكرت واستمع، تسعد وتنج بإذن الله وتنتفع، ولا تك كالذين هلكوا وهم يرون، أولئك فهم المعترفون بالله المقرون، الذين رضوا من حياتهم، بالتمني في المعاد لنجاتهم، بما تمنوا غرورا مهلكا، فقالوا إذ اقترفوا كذبا وإفكا، وإن كانوا قد أقروا، لا كما فعل من نحن وأنت فيه من العذاب من كبائر العصيان، ثم ادعوا النجاة بعد الإقرار بالعذاب دعوى بغير ما حجة ولا برهان.
ولفي ذلك، وأولئك، وهم بنوا إسرآئيل عليه السلام، وذرية إبراهيم خليل الرحمن، ما يقول سبحانه :{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون، ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون، فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت } [آل عمران: 23 - 25]. وقال سبحانه: لهذه الأمة، فيما نزل من آياته المحكمة: { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوأ يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا } [النساء: 123]، فكفى يا أخي بما يسمع السامعون من هذا ومثله بيانا وتبصيرا! نفعنا الله ونفعك بتبصيره، وما من به علينا وعليك من تذكيره.
مخ ۳۵۰
[رسالة إلى بعض بني عمه عن الدنيا والزهد فيها]
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم .
متعك الله من نعمه وحوطها، ومنعك من مذموم الأمور ومسخوطها، بما أمتع به أهل رحمته ونعمته، ومنع به من المكاره أهل توفيقه وعصمته، ومن عليك من تقوى الله وإيثارها، ورفض الدنيا واحتقارها، بما من به على من آثره، وأجل أمره فوقره، فإن ما أمر الله به من رفض الدنيا واستقصارها، دليل ممن فعله على إيثار الآخرة وإكبارها، وإن رفض الدنيا والإعراض عنها، دليل ممن فعله على الإقبال على الآخرة والاستكثار منها.
مخ ۳۵۱
وكذلك التمسك ببعض الدنيا ومقتها، دليل ممن فعله على إكرام الآخرة ومحبتها، وعلى قدر يقين أولياء الله بما عظم من أمر الآخرة وأمورها، زهدوا في الدنيا فاستقلوا جهدهم من متاع غرورها، فتبلغوا إلى الله بالعلق، واكتفوا من نعيمها باللعق، إكبارا لما وجدوه فيها إجلالا لله من السخط، ولما عليه العباد فيها من الإعراض عن أمر الله والفرط، ولما رأوا الباطل يسمو علوا، وحق الله فيها معطلا مجفوا، صحبوا أيام حياتهم بالحرق والزفرات، وهجروا ما أحل الله لهم فيها من الطيبات، وأعرضوا من الدنيا عما أعطاهم، ولم يعطه من أهل الدنيا بتحليله له سواهم، ولم يجعله حلالا فيها إلا لمن اهتدى إلى الله فيه هداهم، وأيقن فيها بالله يقينهم، ودانه في إيثار الحق دينهم، فحقيق بذلك منهم لسخطهم فيها على من أسخط ذا الجلال والإكرام، أولا تعلم أغناك الله أن من أسخط لنفسه الآدميين ليشتغل عن كثير من المطعم والمشرب والكلام، لما هو فيه من الشغل بحرقه وأسفه وسخطه، حتى ربما ذهب سخط بعضهم في ذلك بعقله لفرطه، فكيف بمن سخط وغضب لرب الأرباب ومغاضبه ؟ أليس ذلك أولى بالقليل في تنعمه ومطاعمه ومشاربه ؟ بلى إنه لأولى بذلك، وأحق ممن كان كذلك، ولذلك أزكى عند الله وأرضى، وأوجب في الفرض لو كان من الله فرضا، ولكنه سبحانه لرحمته بالمؤمنين وإحسانه إليهم، ورأفته بهم وتحننه عليهم، جعل ذلك لهم سبحانه تطوعا ونافلة، وفيما بينهم وبينه فضائل لهم كاملة، فقال جل ثناؤه :{ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} [المائدة: 87]. وقال سبحانه لرسوله، صلى الله عليه وآله :{ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة} [الأعراف: 32]. فجعلها لهم في الدنيا وأخلصها لهم في الآخرة، ولم يجعل معهم فيها حظا للكفرة ولا للفجرة .
مخ ۳۵۲
وقال سبحانه :{ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين} [المائدة: 93]. فلم يجعلها الله سبحانه إلا لمن اتقى، وحرمها على من فجر وتعدى، ولم يكن من أهل الإيمان بالله والهدى، فاستقل أولياء الله منها، وأعرضوا لسخطهم لله عنها، كما جاء في أثر عن عثمان بن مظعون، فيما كان حرم على نفسه من الأطعمة واللحوم، جعلنا الله وإياك من أوليائه، وأسعدنا وأسعدك بطاعته في يوم لقائه .
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، عليه توكلنا وهو رب العرش الكريم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الأكرمين.
مخ ۳۵۳