قال الصفاقسي: (وزعم الزجاج أن سبب اطراحه ما يلزم عليه لو تم من وقوع (مستفع لن) المفروقة الوتد في العروض، وهو مجتنب عندهم لأنها عمدة، والأسباب مع الوتد المفروق ضعيفة، ولهذا لم يجيء السريع تامًا. قال الصفاقسي: وأقول: اللازم عليه في السريع كذلك، وتمامه أنه لو جزىء لالتبس بمجزوء الرمل. قال: واعترضه أبو الحكم بأن اطراحهم تام السريع ليس لضعف الأسباب مع الوتد المفروق بل للزوم الوقف على المتحرك. ووهمه الصفاقسي بأن الزجاج إنما علل تمام العروض لا تمام الضرب، والعروض ليست محل وقف فيمتنع تحرك آخرها لأنها في حشو البيت.
البحر الثاني المهمل بحر وزنه (مفاعيلن فاع لاتن) ومثلها، (وفاع لاتن) هذه مفروقة الوتد لأن ابتداءها من أول الوتد المفروق، وبيته من قول المولدين:
لقد ناديتُ أقوامًا حين جابوا ... وما بالسمع مِن وَقْرٍ لو أجابوا
قال الصفاقسي: وعلل الزجاج اطراحه بما تقدم، وفيه ما فيه، وتمامه أنه لو جزىء لا لتبس بمجزوء الهزج.
البحر الثالث المهمل بحر وزنه (فاع لاتن مفاعيلن مفاعيلن) ومثلها، (وفاع لاتن) هذه مفروقة الوتد لانفكاكها من أول وتد مفروق، ولا علة لاطراحه لا تامًا ولا مجزوء إلا عدم السماع، وبيته من قول المحدثين:
مَن مُجبري من الأشجانِ والكربِ ... من مُديلي من الإبعاد بالقُربِ
وهذه صورة هذه الدائرة: وكيفية الفك منها أنك تبتدئ من أول علامة إلى الآخر فيحدث بحر السريع، ومن أمل السبب الثاني إليه البحر الأول المهمل، ومن أول الوتد المجموع الذي يلي ذينك السببين إليه البحر الثاني المهمل، ومن أول الجزء التالي لهذا الجزء إليه بحر المنسرح، ومن أول سببه الثاني إليه بحر الخفيف، ومن أول الوتد المجموع إليه بحر المضارع، ومن أول الجزء الثالث إليه بحر المقتضب، ومن أول سببه الثاني إليه بحر المجتث، ومن أول الوتد المفروق إليه البحر الثالث المهمل. وهذا آخر دائرة المشتبه.
سميت بذلك لاشتباه أبحرها. حكى ابن القطاع أن فحول الشعراء غلطوا في بحورها فأدخلوا بعضها على بعض في القصيدة الواحدة توهمًا منهم أنه بحر واحد، منهم مهمل، ومرقش، وعبيد بن الأبرص، وعلقمة بن عبدة، ووقع من ذلك قصيدة للطرماح حكاها أبو المعري.
فإن قلت: المستفر عندهم أن تبدأ كل دائرة بما كان من أبحرها مصدرًا بوتد مجموع لقوته فيجعل أصلًا لتلك الدائرة وتفك البحور الباقية منه، وهذه الدائرة من جملة أبحرها المستعملة بحر المضارع، وهو مصدر بوتد مجموع 'ذ وزنه (مفاعيلن فاع لاتن مفاعيلن)، فما بالهم لم يجعلوه أصلًا لهذه الدائرة، بل عدلوا عن ذلك وجعلوا أصلها بحر السريع، قلت: أجابوا عن ذلك بأن الجزء الأول من المضارع معلول أبدًا للزوم المراقبة فيه، وليس في أول الدوائر المتقدمة بيت معلول فرفض البدء به لهذا.
ورده الصفاقسي بأن لزوم إعلال المضارع في الاستعمال لا في الدائرة، والعبرة في الفك بما في الدائرة، ثم كل من الإعلال والبدء بالسريع مخالف للقياس فلم يرفض أحدخما ويرتكب الآخر؟ قال: والأولى عندي أن يقال إن المضارع لما قل في كلامهم صار كالمهمل، ولذا أنكره الزجاج، والمهمل لا يكون ابتداء الفك منه، فكذا ما أشبهه، فابتدؤا حينئذ بالسريع لخفته وحسن ذوقه.
قلت: لا نسلم أن قلة المضارع تصيره كالمهمل، ولا أن إنكار الزجاج له يصيره أيضًا في حكم المهمل، كيف والخليل ﵀ هو الذي جعل أول هذه الدائرة بحر السريع وعدل عن ابتدائها بالمضارع، فهل يحسن مع ذلك أن يقال إن الخليل رأى إنكار الزجاج للمضارع يصيره كامهمل فلم يبدأ الدائرة به؟ هذا ما لا يتصور أن يقال.
الدائرة الخامسة: دائرة المتفق أشار إليها الناظم بالقاف من قوله (قس) والسين ملغاة لا يقع بها إلباس، وهي مثمنة الأجزاء، وإلى ذلك أشار بقوله (تثمين)، وفيها عند الخليل بحر واحد مستعمل وهو المتقارب، ووزنه (فعولن) ثماني مرات، وأشار إلى هذا الجزء بالألف من قوله (أشرف) المشار بها إلى (أصابت) وما بعد الألف ملغى لا يلتبس بأحرف الرمز، ولا يشكل إذا تأملت.
ويخرج منه بحر وزنه (فاعلن) ثماني مرات، ولم يذكره الخليل واستدركه المحدثون، فسمي بالمتدارك، والمحدث والمخترع. قالوا: ولم يستعمل إلا مخبونًا، وحكوا له عروضًا وضربًا مخبونين كقوله:
1 / 17